سيادة المطران عبد الساتر: أنجزنا 30% من مهام الترميم وتبقى الأضرار التي تحتاج لإمكانات الدولة
أملاك الكنيسة إن بيعت نزولًا عند طلب البعض لا تكفي لإنقاذ لبنان من الإنهيار
هذه المقابلة متوفّرة أيضًا باللّغة الإنكليزيّة.
في الذّكرى السّنويّة الأولى لإنفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، أصدرت دائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق الأوسط عددًا خاصًّا من مجلّة المجلس الفصليّة "المنتدى" في آب/ أغسطس 2021، تحت عنوان "بيروت في قلب الكنيسة، بيروت قيامية!". ضمّ مقابلة حصريّة مع راعي أبرشية بيروت المارونيّة سيادة المطران بولس عبد الساتر تمحورت حول الأضرار البشريّة والماديّة الّتي لحقت بالكنيسة المارونيّة في بيروت، لا سيّما دورها في مساعدة أبنائها المتضرّرين وبلسمة جروحهم على مختلف الصّعد.
بعد عام على الزلزال الذي فجّر بيروت، 131 رعيّة مارونية تشلّعت كنائسها وتحوّل كهنتها الـ 145 من خدّام للمذبح إلى فِرَق إسعاف وإغاثة، مِن المناصرة في الحياة الروحيّة إلى النضال لحفظ الكرامات والبيوت والحقوق... بعد عام نلتقي راعي أبرشية بيروت المارونيّة المطران بولس عبد الساتر لنسأله كيف ضمدّتم إصابات بيروت؟ وهل ما زالت الجِراح تنزف؟
رئيس اساقفة بيروت كان حذّر قبل أسابيع من 4 آب/ أغسطس أن لا يقين لديه أنّ من فجّر مرفأ بيروت سيُكشَف، وشدّد على مبدأ أن الدولة هي المسؤولة عن كشف الحقائق، لافتًا إلى أنّ اللبناني يبحث عن الأمان والكرامة ومن غير اللائق لأي إنسان أن يقاتل من أجل عُلبة حليب...
بعد عام على إنفجار مرفأ بيروت كيف تصفون مشهد المدينة اليوم؟ هل تعافت؟ أم ما زالت تحت وطأة الكارثة؟ وأنتم كيف عملتم لإنقاذ رعيّتكم فتنهض من تحت رماد الإنفجار وهَولِه؟
بالطبع بدأ سواد الكارثة يتبدّد شيئًا فشيئًا عن المباني والمنازل المتضرّرة. وهذا المشهد بدأ منذ اليوم الثّاني بفضل الشّبان والشّابات الّذين أتوا من مختلف المناطق وعملوا لأسابيع على إزالة الرّدم من المنازل والزّجاج المحطّم من الطّرقات والركام...، بالتّالي بدأ حينها وجه بيروت ينجلي من جديد. بعد مرور عام على الإنفجار يمكن أن نقول أنّ ترميم الأبنية قد شهد تقدّمًا ملحوظًا، وبالطبع بحسب إمكانات الكنيسة والمنظّمات الكنسيّة العالميّة إضافةً إلى بعض المنظّمات الإنسانيّة العالميّة الّتي عملت بالتّعاون مع مؤسّسات غير حكوميّة في لبنان.
كما أنّ قسمًا كبيرًا من البيوت رُمّمت فيه الأجزاء الأساسيّة، لا كلّ التفاصيل، وذلك كي يتمكّن النّاس من العودة إليها. وقد قمنا بترميم حوالي 5 آلاف بيت من بين ألوف وعشرات المنازل المتضرّرة. العدد هذا ليس كبيرًا لكنّ عمليّة الترميم ليست فعليًّا عمليّة سهلة لأنّها تطلّبت الكثير من الجهود والأموال الّتي كان من المفترض أن تؤمّنها الدولة اللّبنانيّة وكذلك الفرق الضروريّة للترميم.
نسبيًّا فقد أُنجزت 30% من المهام، وتبقى بعض البيوت المتضرّرة بحاجة إلى ترميم على مستوى النّوافذ والواجهات فقط.
علمًا أنّه ما زال هناك حتّى اليوم مبان متضرّرة بشكل هائل، ولا أحد يستطيع ترميمها سوى الدولة اللّبنانيّة بإمكاناتها الماليّة واللوجستيّة، لكنها لم تحرّك الدولة ساكنًا حتى الآن. عِلمًا أنني سمعت أنّ محافظ بيروت ورئيس بلديّتها قد وعدا بتنفيذ هذه المهمّة إلّا أننا لم نلمس أيّ نتيجة فعليّة ميدانيًّا.
اليوم عاد وجه بيروت بشكل أفضل بكثير عمّا كانت عليه في 4 آب/ أغسطس الفائت. عادت الحياة إلى الشّوارع والمطاعم، وشهدت الحركة السّياحيّة إنتعاشًا ملحوظًا. لكن هذا لا يعني أنّ الجروح قد ضمّدت بشكل كامل، فالعديد من الأهالي ما زالوا بحاجة إلى تأهيل منازلهم لتكون صالحة للسكن. وبعض المالكين يرفضون ترميم مبانيهم كي لا يعود اليها المستأجرون، وذلك إمّا لهدمها وأعادة البناء وإمّا لبيع الأرض... آملين أن تستردّ بيروت من جديد وجهها الجميل في الأيّام والأشهر المقبلة.
إذا تكلّمنا بالأرقام، كم كان حجم الأضرار؟ ما هي نوعية المساعدات التي قدمتموها؟ عددها؟ عدد المستفيدين؟ وما هو حجم الحاجات المتبقيّة؟
بعد أيّام على الإنفجار قدّمت الدولة الهنغاريّة مساعدة ماليّة بقيمة حوالي المليون يورو، وذلك بواسطة كاريتاس قبرص وكاريتاس لبنان. وبالتنسيق مع مطرانيّة بيروت للموارنة والدولة الهنغاريّة تمّ ترميم أكثر من 1000 بيت في بيروت. كما قدّمت دول أخرى مساعدات ماليّة عبر كاريتاس إنترناشيونال لكاريتاس لبنان حيث ما زالت تُستخدم لغاية اليوم في عمليّات الترميم وتأمين حصص غذائيّة لتلبية حاجات النّاس.
في أرقام أبرشيّة بيروت تمّ ترميم حوالي الـ1800 أو 1900 بيت حيث تمكّن سكّانها من العودة إليها، وذلك بالتّعاون مع كاريتاس والإنماء الشّامل وجمعيّة سوليداريتي وغيرها من المنظّمات غير الحكوميّة. أمّا دور مطرانيّة بيروت فكان التنسيق وتحديد العائلات الأكثر عوزًا وتنظيم عمليّة توزيع المساعدات وذلك من خلال لوائح واضحة تتضمّن تفاصيل المستفيدين. كما تمّ توزيع أكثر من 5 آلاف حصّة غذائيّة من أبرشيّة بيروت، ساهمت المطرانيّة بتأمين تكاليف قسم منها، أمّا الجزء الباقي فتمّ تحضيره عبر المساعدات الدوليّة. تلقّينا أيضًا من فرنسا شحنة مساعدات تضمّنت حصصًا غذائيّة وألبسة، وكذلك مساعدات أخرى من ماليزيا. بدوره قدّم مجلس كنائس الشرق الأوسط حصصًا غذائيّة وُزّعت إلى العائلات الأكثر حاجةً. وكذلك تلقّينا عددًا من الأدوات الكهربائيّة كغسّالات وبرّادات. علمًا أنّ كلّ هذه المساعدات تمّ توزيعها بالتّعاون والتّنسيق مع كهنة الرّعايا المتضرّرة. أيضًا تولى الجيش اللّبنانيّ عمليّة تنظيم أعمال الترميم وقام بتقسيم بيروت إلى مناطق ونفّذ مسحًا ميدانيًّا للأضرار والمتضرّرين في المنطقة.
لحقت بالكنائس والمؤسّسات التابعة لمطرانيّة بيروت للموارنة أضرارًا تقدّر قيمتها بحوالي 3 إلى 4 ملايين دولار أميركيّ. كما بلغت كلفة ترميم كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس للموارنة في وسط بيروت مليون دولار، وكذلك المدرسة الفندقيّة مليون دولار أخرى، مدرسة الحكمة الأشرفيّة إحتاج ترميمها أكثر من مليون دولار... أمّا المطرانيّة فكلفة ترميمها بشكل كامل فبلغ حوالي الـ 500 ألف دولار.
بنعمة الربّ فقد تمّ تأمين كل هذه المبالغ من خلال المساعدات الخارجيّة لا سيما من الدولة الفرنسيّة.
هل تؤمنون ان رجاء جديدًا سيكون للبنان واللبنانيين في ظلّ العجز والفشل في إحتواء تداعيات انفجار مرفأ بيروت والإنهيار الإقتصادي في البلاد؟
بعد وقوع الإنفجار وبسبب تفاقم الأزمات الإقتصاديّة ما زال النّاس بأمّس الحاجة إلى موادّ غذائيّة وأدوية ودعم في دفع إجارات منازلهم وفواتير الخدمات الإستشفائيّة وشراء الألبسة... إضافةً إلى التجهيزات المطبخيّة والمستلزمات الحياتيّة...
المساعدات الماليّة الّتي حصلنا عليها نستخدمها اليوم في ترميم العديد من المنازل الّتي تحتاج إلى بعض الترتيبات والتجهيزات الضروريّة كتأهيل الحمّامات والمطابخ... حيث أنتهينا من هذه العمليّة في حوالي الـ80 بيتًا وما زلنا مستمرّين حتّى الآن.
وفي الإطار عينه قامت المطرانيّة بالتّعاون مع كهنة الرّعايا بتأمين بعض الموادّ الأساسيّة الغذائيّة وتوزيعها على مراكز عدّة في الأبرشيّة، حتى في حال واجهنا، لا سمح الله، ضائقة إقتصاديّة أكبر، وما يسمّى "جوعًا" ستعمد هذه المراكز إلى تحضير الأطباق الساخنة وتوزيعها على النّاس. كما قمنا باختيار الرّعايا الّتي تضمّ مطابخ شبه صناعيّة للقيام بهذه المهام من خلال الموادّ الأساسية الّتي وضعناها في عهدتهم. أمّا في حال لم نحتج لتنفيذ هذه الخطّة فستوزّع هذه الموادّ للنّاس الأكثر حاجة.
كما أنّ عملنا الميدانيّ في إطار المساعدات يتّسم بالروح المسكونيّة لا سيّما وأننا قمنا بمساعدة كلّ أبناء الكنائس لأنّ الجميع أُصيب بهذه المحنة.
الكنيسة مطالبة دائمًا بأن تقف الى جانب شعبها، هل أنتم مع هذا التوجّه أم مع القائلين بأنّ الدولة هي المسؤولة؟ ولماذا؟
لا يمكن للكنيسة أن تقوم بدور الدولة، فمن المفترض أن تكون إمكانات الدولة أكبر بكثير ممّا تملكه الكنيسة. لكن من ناحية أخرى على الكنيسة أن تقوم بأقصى ما يمكن وتقف إلى جانب أبنائها. النّاس يلجأون إليها بإعتبارها أمّهم وبيتهم لأنّ الدولة غير آبهة بتلبية مطالبهم بحجّة عدم توفّر الإمكانات الماليّة. في أوقات الضيق تواصل الكنيسة مساعداتها وبكلّ محبّة. ففي الحرب العالميّة الأولى مثلًا عملت الكنيسة في لبنان على أنقاذ النّاس من المجاعة!. لكن على الشّعب اللّبناني أن يُدرك أنّ للدولة مسؤوليّة تجاهه وعليه الّا يسمح لها أن تتهرّب من هذه المسؤوليّة. كما على اللّبنانيّين أن يعرفوا أنّه من الضروريّ المساهمة والمثابرة في تأدية واجبهم وإنقاذ وطنهم. في الوقت نفسه عليهم أن يعرفوا أنّ قدرات الكنيسة محدودة لا سيّما وأنّ مسألة بيع الأراضي التّابعة لها، كما يردّد البعض، ليست سهلة ولا تجني أرباحًا يمكن أن تُسهم حقًا في إنقاذ البلاد من الإنهيار الإقتصادي.
أمّا بالنّسبة لإنفجار مرفأ بيروت فمن غير المقبول ألّا تتحرّك الدولة اللّبنانيّة، ومن غير المقبول عدم مساهمة المسؤولين في إعادة الحياة إلى العاصمة وحتّى في إزالة الرّدم. في أبرشيّة بيروت وضعنا كلّ إمكانيّاتنا لتقديم المساعدات لكن تبقى الإمكانيّات هذه محدودة نظرًا للظّروف الإقتصاديّة الصّعبة وأزمة المصارف.
نشكر الله أنّ ترميم مدرسة الحكمة - الأشرفيّة، ينتهي أواخر آب/ أغسطس المقبل لأنّ الأضرار الّتي لحقت بها جسيمة. آملين أن يتمكّن الطلّاب من العودة حضوريّا إلى المدرسة وذلك تبعًا لمستجدّات تفشّي فيروس كورونا وتوجيهات السلطات الرسمية المعنيّة. أمّا خطّتنا للسنة المقبلة فسنحاول من خلالها تأمين التوازن بين ضرورات إستمراريّة المؤسّسة وتأمين رواتب العاملين فيها وبين عدم تحميل الأهالي أعباء إضافيّة. ما أستطيع تأكيده هو أنّ سياستنا للسنة المقبلة تكمن في عدم تحقيق أرباح.
ماذا بعد عام على الكارثة، هل من خطّة لتأمين مستقبل أفضل لأبناء رعيتكم لا سيما الشباب وتحفيزهم لينشطوا في العمل الرعوي والبقاء في لبنان؟
إبّان الإنفجار وبعده عاش معظم النّاس وما زالوا أزمات إيمانيّة ونفسيّة. وفي مطرانيّة بيروت أنشأنا خطًّا ساخنًا لنتمكّن من الإجابة على كلّ أسئلة النّاس الشّائكة. لكن يبقى الإيمان في الكثير من الأوقات الجواب الوحيد لتساؤلات عدّة، لماذا حصل ما حصل؟ لماذا مات فلان؟
ما نعرفه هو أنّ يسوع قام من بين الأموات وانتصر على الموت، وموتنا بيسوع المسيح هو قيامة. حاول جميع الآباء خصوصًا في رعايا بيروت أن يكونوا إلى جانب النّاس، رافقوهم في كلّ اللّحظات الحزينة والسّعيدة، وولدت علاقات أخوّة وأبوّة بينهم وبين المؤمنين، وشهدنا حتى تماسكًا بين جماعة المؤمنين أكثر ممّا كانوا عليه في الأعوام الفائتة. كما أنّ عظات الكهنة والإحتفالات الرّوحيّة والدينيّة أصبحت اليوم مختلفة وذات نفس مغاير.
دائرة التواصل والعلاقات العامة