بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت، مستشفيات العاصمة تحتضر

MECC - Beirut Blast - Hospitals

تحقيق ايليا نصراللّه

الساعة السادسة و7 دقائق بتوقيت بيروت، "اهتزّت القاعة، وبلحظات سمعنا دويّ انفجار، إنهار السقف، تحطّم الزجاج وتتطايرت شظاياه علينا، وأصبح صوت صافرة اﻹنذار عالقًا في أذننا". من كان يعلم أنّ الرّابع من آب/ أغسطس 2020 سيكون يومًا كارثيًا، يغيّر مجرى حياة الشّعب اللّبناني ويحوّل عاصمة النور إلى مدينة منكوبة؟ "بثوانٍ بدأ المواطنون يتوافدون إلينا بأعداد كبيرة، مصابون غارقون بالدم، يصرخون وجعًا!". هكذا كانت حال الهلع في إحدى المستشفيات في بيروت لحظة وقوع الإنفجار المروّع في 4 آب/ أغسطس، وهكذا وصفت رنا، إحدى الممرّضات في مستشفى أوتيل ديو الجامعي أولى مشاهد الرّعب الّتي مرّت بها مع زملائها. مشاهد عاشها اللّبنانيّون في منازلهم، في أماكن عملهم، في شوارع بيروت الحزينة... لحظات تبقى محفورة في ذاكرة كلّ لبنانيّ ولبنانيّة إلى الأبد.

انفجار مرفأ بيروت، كارثة دمّرت العاصمة بشكل كامل، أودت بحياة 200 ضحيّة وخلّفت 6500 جريح. زلزال أسفر عن دمار هائل في الممتلكات العامة والخاصّة، حيث كان للقطاع الصحيّ في لبنان، خصوصًا المستشفيات، حصّة كبيرة منه. لذا، يناشد نقيب المستشفيات الخاصّة في لبنان السيّد سليمان هارون، عبر مجلس كنائس الشرق الأوسط، الجهات المعنيّة وأصحاب الأيادي البيضاء في العالم إلى إنقاذ هذا القطاع الّذي يفتقد إلى الموارد المادية الكافية لإعادة الحياة إلى مستشفيات بيروت.

فقد تضرّر عدد منها بشكل جزئيّ، ودمّر بعضها بشكل كامل كمستشفيات القدّيس جاورجيوس الجامعي (الروم)، الجعيتاوي والورديّة الّتي تحوّلت باحاتها الخارجيّة إلى غرف عناية وعمليّات. أمّا مستشفى أوتيل ديو الجامعي والواقع في منطقة الأشرفيّة، فعلى الرّغم من الأضرار الّتي لحقت ببعض غرف العمليّات والمختبرات وأقسام أخرى منه، استطاع استقبال الجرحى، لكن بلغ طاقته الإستعابيّة القصوى لأنّه بقي المستشفى الوحيد في بيروت القادر على مساعدة وإنقاذ المصابين.

MECC - Beirut Blast - Hospitals

لحظات الرّعب الأولى

البداية مع لحظة وقوع الإنفجار الّذي خلّف قصصًا مؤلمة. رنا نجيم، ممرّضة في قسم الطوارئ في مستشفى أوتيل ديو الجامعي، تروي قصّتها لدائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق الأوسط.

رنا نجيم، ممرّضة في قسم الطوارئ في مستشفى أوتيل ديو الجامعي

رنا نجيم، ممرّضة في قسم الطوارئ في مستشفى أوتيل ديو الجامعي

فيما كانت تعاين مريضًا في قسم الطوارئ، شعرت مع الطاقم الطبي الموجود بهزّة قويّة، رافقها دويّ انفجار أدّى إلى هبوط السقف وتحطيم الزجاج، ما دفعهم إلى الاختباء تحت الطاولات خوفًا من وقوع هزّة أخرى أو انفجار ثانٍ. لكن "لم يكن لدينا الوقت لاستيعاب ما جرى الّا أن وصل وبلحظات عدد هائل من المصابين الملطّخين بالدم". غرق الطاقم الطبيّ، كما وصفت، في قاعة مليئة بالغبار والدمار، لم يكن أحدًا يعرف ما حصل، ومع ذلك "أسرعنا إلى إنقاذ المصابين الموجوعين، كبارًا وصغارًا، حتّى ساعات الفجر الأولى". وأشارت رنا أنّ المستشفى أطلق على الفور خطّة الكوارث وبدأ العمل بها، لكن لفتت أنّ أصعب ما مرّوا به خلال اللّحظات الأولى هو انقطاع خطوط الاتّصالات فلم يعد بإمكانهم التواصل مع الطواقم الطبيّة الأخرى لطلب الدعم، الّا بعد قرابة السّاعة حيث بدأ الأطبّاء والممرّضات والممرّضين بالوصول لمؤازرة زملائهم.

بمشاعر صادقة وصفت رنا حال المصابين، منهم من كانت إصاباتهم بليغة وخطرة، ومنهم من كانت جروحهم طفيفة، كلّهم افترشوا أرض المستشفى المليئة بالدم بسبب عدم توفّر أسرّة كافية للجميع، فغصّت قاعة الطوارئ بمئات الجرحى، ومع ذلك استمرّت الوفود بالوصول. صراخ وبكاء ومشاهد مؤلمة عاشها الطواقم الطبيّة والمصابون في المستشفى، وأكثر ما أثّر بالممرّضة الشّابة هو رؤية الأطفال ذات القلوب الهشّة لهذه المشاهد القاسية وللجرحى وحتّى للمدنيّين الّذين فقدوا الحياة أمامهم. كما أعربت نجيم عن فخرها باللّبنانيّين الّذين تضامنوا مع بعضهم، خصوصًا عندما طُلب من البعض انتظار دورهم أو حتّى المغادرة والعودة في اليوم الثاني، كي يتمّ إغاثة الحالات الحرجة أوّلًا.

6 ممرّضات وممرّضين مرّوا بوقت عصيب على إثر الإنفجار، وقبل وصول الطواقم الطبيّة الداعمة. لم يتمكّنوا من الاطمئنان عن عائلاتهم في السّاعات الأولى. كان الفريق بحاجة إلى دعم نفسيّ إزاء الصّدمة الّذي تعرّض لها، فروت رنا أنّهم قاموا بعلاج نفسيّ جماعي بمساعدة متخصّصين ومتطوّعين فرنسيّين، من خلال سرد ما حصل مع كلّ منهم. كما أعربت عن أسفهم جميعًا إزاء الضحايا الّذين فقدوا الحياة على الفور ولم يتمكّنوا من إنقاذهم. شكرت الممرّضة رنا نجيم كلّ المعالجيين النفسيّين الّذين قاموا بمساندتهم، كما إدارة المستشفى الّتي وقفت بجانبهم خلال هذا الوقت الحزين، حيث اكتسبوا من المسؤولين فيها خبرة كبيرة حول كيفيّة التعامل مع مثل تلك الكارثة. وأضافت أنّ من خلال التعاون وروح الصداقة في ما بينهم استطاعوا القيام بواجبهم على أكمل وجه. 

على مقلب آخر، ومع ازدياد نسبة هجرة اللّبنانيّين، رأت رنا أنّ اتّخاذ هذا القرار صعبًا بالنّسبة لها، ولم تفكّر يومًا به، وذلك على الرّغم من الظّروف الصّعبة الّتي تمرّ بها البلاد. لكن أشارت أنّ الأزمة الإقتصاديّة انعكست سلبًا على القطاع الصحيّ، فنقابة الممرّضين والممرّضات تقوم بالإجراءات اللّازمة للمطالبة بحقوق الطواقم الطبيّة الّتي تبذل جهودًا كبيرة.

المستشفيات في بيروت تمرّ بأزمة ماديّة وبشريّة

في حديث مع نقيب المستشفيات الخاصّة في لبنان السيّد سليمان هارون، أشار لدائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق الأوسط أنّ مستشفيات بيروت تحتاج إلى إعادة بناء وتأهيل في كلّ الأقسام والمعدّات. أمّا مستشفيات بعبدا والمتن الشمالي فاستمرّت بشكل شبه طبيعي باستقبال الجرحى والمرضى، لأنّ الأضرار الّتي لحقت بها جزئيّة ، فالخسائر ليست فادحة بقدر ما هي هائلة في مستشفيات بيروت. لذا استطاعت فرق العمل ترميم ما تعطّل من زجاج وخشب ومعدّات... دون إقفال أبوابها أمام المواطنين. وبحسب السيّد هارون بلغت الكلفة الإجماليّة والأوليّة للأضرار في مستشفيات بيروت بين 80 و100 مليون دولار، مشيرًا إلى أنّ العمل يعاود شكله الطبيعي بعد عمليّة إعادة التأهيل في غضون 5 أو6 أشهر، إن توفّرت الإمكانات اللّازمة والضروريّة.

نقيب المستشفيات الخاصّة في لبنان السيّد سليمان هارون

نقيب المستشفيات الخاصّة في لبنان السيّد سليمان هارون

علاوةً على ذلك، عادت الحياة من جديد الى بعض المستشفيات تدريجًا، لكن الأضرار تبقى هائلة. على سبيل المثال تمكّنت مستشفى الجعيتاوي في بيروت، من خلال المساعدات الّتي حصلت عليها، من إعادة العمل في قسم غسل الكلى وبعض الطوابق مع تأمين 40 سريرًا لاستقبال المرضى وإجراء العمليّات الجراحيّة. كما تمكّنت مستشفى القدّيس جاورجيوس الجامعي (الروم) من إعادة تأهيل بعض الأقسام والمعدّات لمتابعة رسالتها الخدماتيّة والإنسانيّة. وعلى الرغم من أعمال الترميم هذه، تبقى الخسائر فادحة والحاجة إلى مساندة دوليّة تبقى ماسّة. أوضح نقيب المستشفيات الخاصّة في لبنان السيّد سليمان هارون أنّ المساعدات الّتي تلقّاها القطاع الصحّي تضمّ مستلزمات وأدوات طبيّة كانت قد استهلكت مخزونها خلال عمليّة الإغاثة. وأفاد أنّ المستشفيات بحاجة إلى تمويل إضافي كي تتمكّن من تنفيذ عمليّة التأهيل لاستقبال المرضى بأسرع وقت ممكن، مشيرًا إلى أنّ دور نقابة المستشفيات الخاصّة في هذا الوقت العصيب هو تنسيق عمليّة توزيع المساعدات مع وزارة الصحّة وقيادة الجيش.

أمّأ بالنسبة لهجرة الطواقم الطبيّة، عبّر السيّد هارون عن تفهّمه لقرار العاملين في القطاع الصحيّ بمغادرة البلاد، في ظلّ شروط العمل والرواتب الّتي يحصلون عليها، بحثًا عن فرصة عمل تؤمّن لهم حياة كريمة. وهذا ما يوثّر سلبًا على المراكز الصحيّة الّتي تفتقد أصلًا إلى الموارد البشريّة. علمًا أنّ نسبة الخسائر المادية الّتي لحقت بالمستشفيات ازدادت مع تدهور سعر صرف الدولار. لذا، توجّه نقيب المستشفيات الخاصّة في لبنان السيّد سليمان هارون إلى جميع المعنيّين والمسؤولين وحثّهم على العمل بمسؤوليّة من أجل إنقاذ لبنان من الإنهيار جرّاء كلّ الأزمات الّتي يمرّ بها. وفي نهاية حديثه شدّد على ضرورة الالتزام بالإجرائات الوقائيّة في مواجهة جائحة كورونا لأنّ المستشفيات تبقى حتّى الآن وخصوصًا عقب انفجار بيروت، غير مجهّزة بشكل كامل لمواجهة هذا الفيروس.


انفجار الرّابع من آب/ أغسطس 2020، زلزال هزّ لبنان والعالم أجمع. كارثة أصابت بيروت الجريحة وسط بحر من الأزمات كادت تخنق البلاد. لم يترك شبح الدمار أي قطاع على حاله، فبعد مرور أكثر من أربعين يومًا على الفاجعة، تبقى المستشفيات غير جاهزة بشكل كامل لاستقبال المرضى. أبواب التبرّعات مفتوحة محليًّا وعالميًّا، فالقطاع الصحّي، كغيره من القطاعات، يصرخ بألم طالبًا النجدة. إذْ، بيروت ليست وحيدة، فستنهض من كبوتها وتعود شامخةً، عاصمة للفرح والأمل...

دائرة التواصل والعلاقات العامة

Previous
Previous

بعد انفجار 4 آب/ أغسطس 2020، 49 حاوية من المواد القابلة للاشتعال ما زالت تهدّد مرفأ بيروت

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يدعم الشّباب اللّبنانيّ روحيًّا ونفسيًّا