عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي في قدّاس عيد القدّيس يوسف

في التالي عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في قدّاس عيد القدّيس يوسف، يوم الأحد 19 آذار/ مارس 2023، في الصرح البطريركيّ في بكركي، لبنان.

"لـمّا نهض يوسف من النوم، فعل كـما أمره ملاك الربّ" (متّى 1: 24)

1. لـمّا حار يوسف أمام سرّ حبل مريم خطيبته، ولم يجد مكانه ودوره في هذا السرّ، وأمام الصمت الإلهيّ، فكّر بتخلية مريم سرًّا، من دون اللّجوء إلى القضاء حفاظًا على كرامتها وقدسيّتها. فقبل أن ينفّذ قراره، ظهر له ملاك الربّ في الحلم، وكشف له سرّ حبل مريم بيسوع بقوّة الروح القدس، وأظهر له دوره في تدبير الخلاص، كزوج شرعيّ لمريم، وأب مربٍّ ليسوع إبن اللّه المتجسّد، "فلـمّا نهض من النوم، فعل كـما أمره ملاك الربّ" (متّى 1: 24).

وهكذا "ائتمنه اللّه على أثمن كنوزه: مريم وطفلها الإلهيّ" (القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني: حارس الفادي ص 6). وكون يوسف حارس الطفل الإلهيّ، فهو أيضًا حارس وحامي جسده السرّي أي الكنيسة، وهو كذلك حارس وحامي العائلة المسيحيّة، لكونها كنيسة منزليّة مصغّرة.

2. في هذه الأيّام، فيما كنيسة المسيح تعيش ظروفًا صعبة وخطرة في لبنان وبلدان الشرق الأوسط سياسيًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا وسلاميًّا؛ الأمر الّذي يقلّص وجودها، ويضعف فاعليّتها، فتُحرم المنطقة من حضارة الإنجيل، ومن الخميرة المسيحيّة الصالحة في مجتمعها؛ وفيما هذه الظروف تؤثّر في العمق على حياة العائلة المسيحيّة كمدرسة طبيعيّة للقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، وكخليّة أساسيّة للأوطان؛

فإنّا نكرّس اليوم للّه بشفاعة القدّيس يوسف: كنيسة لبنان، وكنائس الشرق الأوسط، والعائلة المسيحيّة، بل والعائلة البشريّة، فنصلّي في هذا التكريس إلى القدّيس يوسف لكي يحمي الكنائس والعائلات من الأخطار المحدقة بها، ويدعمها في رسالتها بنشر إنجيل الخلاص في كلّ بيئة ومجتمع.

3. يشمل هذا التكريس جمعيّة إدي للتوعية الّتي نرحّب بها: برئيستها ومؤسّستها السيّدة ميرنا أبو أنطون مناسا، وأعضاءها، وأصدقاءها والمستفيدين من خدماتها، والمساهمين فيها.

ولدت هذه الجمعيّة من رحم الألم، ألم السيّدة ميرنا التي فقدت إبنها "إدي" بعمر 25 سنة في حادثة سير. وكان زوجها قد توفّى قبله بسنة. فعزمت في قلب الألم المرير على تغيير الحاضر والمستقبل فأسّست الجمعيّة على اسم ابنها وفي الوقت عينه جعلت اسمه بالإنكليزيّة EDY أي: "تربية موجّهة إليك-Education Dedicated to You". تهدف هذه الجمعيّة التربويّة إلى نشر ثقافة التوعية والسلامة المروريّة والتعليم لسائقي الدراجات الناريّة وغيرها من الآليّات، وإجراء دورات ومحاضرات توعية وإسعافات أوّليّة بالتعاون مع الصليب الأحمر اللبنانيّ والدفاع المدنيّ والجيش اللبنانيّ وقوى الأمن الداخليّ والأمن العام والوزارات والدوائر الحكوميّة وبالإشتراك مع البلديّات، والعمل على تعديل قانون السير وسدّ الثغرات الموجودة فيه، وتقديم إقتراحات إلى وزارة الأشغال العامّة تهدف إلى تحسين الطرقات ومعالجة الشوائب والنواقص بخصوصها، كما والسعي إلى تحسين الطبابة والرعاية الطبيّة في غرف الطوارئ والعنايات الفائقة والإنعاش. كما تهدف إلى خلق بيئة سليمة لأولادنا وشبابنا والمحافظة على حياتهم الغالية والحدّ من الموت الرخيص على طرقاتنا غير المؤهّلة أصلًا لقيادة سليمة عليها.

4. إختارت جمعيّة "إدي" هذا الأحد لسببين: الأوّل، عيد القدّيس يوسف شفيع العائلة المسيحيّة، ومثال كلّ أب؛ والثاني، مناسبة عيد الأمّ بعد يومين. فتُقدّم الذبيحة من أجل أمّهات شهداء القوى الوطنيّة المسلّحة والدفاع المدنيّ والصليب الأحمر وشهداء تفجير مرفأ بيروت وضحايا حوادث السير، ولراحة نفوسهم الطاهرة.

5. إنّنا في هذه المناسبة نثني على نشاطات الجمعيّة. ونقدّر كلّ التقدير إيمان مؤسّستها السيّدة ميرنا، على أنّها بالإيمان والصلاة عرفت أن تكون أكبر من مصيبتها، وأدركت أنّ الألم هو فرصة الدخول في عمق الحوار مع الله، الذي يعزّينا بما يوحي إلينا من مبادرات. نجد في التاريخ الكثير من الشواهد.

6. "فعل يوسف كما أمره الملاك في الحلم" (متى 1: 24).

هذا يعني أنّ يوسف كان في حالة إصغاء وحوار مع الله. فتميّز بطاعة الإيمان. وبهذا التقى بإيمان مريم التي أجابت المرسل الإلهيّ بعبارة: "أنا أمة الربّ. فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38). ولـمّا زارت نسيبتها أليصابات لتخدمها، حيّيتها هذه بالكلمة النبويّة: "طوبى لمن آمنت بأنّ ما قيل لها من الله سيتمّ" (لو 1: 45).

بفضل إيمان مريم وإيمان يوسف، ائتمنهما الله على السرّ المخفيّ منذ الدهور، وهو سرّ ابن الله المتأنّس الذي كشف فيه الله ذاته. يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني: "إنّ طاعة الإيمان واجبة لله الموحي. وبها يسلّم الإنسانُ أمره كلّه لله حرًّا في كمال طاعة العقل والإرادة لله الموحي، وفي اعتناق إرادي للوحي الصادر عنه (الدستور العقائدي في الوحي الإلهيّ: كلمة الله، 5).

7. إنّ القدّيس يوسف نموذج للحوار مع الله والناس. وهذا مطلوب من كلّ إنسان، وعلى الأخصّ من كلّ مسؤول في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. أساس الحوار هو الإصغاء أوّلًا لـما يقوله الله، علمًا أنّ الله يكلّمنا بشكل دائم بشخص المسيح، بكلام الإنجيل، بتعليم الكنيسة، بالإخوة الفقراء والمعوزين، بأحداث الحياة حلوها ومرّها، بشخص خدمة الكهنوت والمكرّسين، وبصوت الضمير. إنّ كلام اللّه "نور وحياة"، بدونهما تخبُّطٌ في الظلمة، وشللُ العقل عن الحقيقة، والإرادةِ عن الخير، والقلب عن الحبّ والمشاعر والإنسانيّة…

هذه العظة نُشرت على صفحة البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

الإحتفال بأحد السجود للصّليب الكريم في بطريركيّة الرّوم الأرثوذكس المقدسيّة

Next
Next

عيد القدّيس يوسف في بطريركيّة القدس للّاتين: الإحتفال بـ "بطريرك الشّعب"، غبطة البطريرك الفخري ميشال صباح