لن ننساك أبدًا
هذا المقال متوفّر أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
في الذّكرى السّنويّة الأولى لإنفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، أصدرت دائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق الأوسط عددًا خاصًّا من مجلّة المجلس الفصليّة "المنتدى" في آب/ أغسطس 2021، تحت عنوان "بيروت في قلب الكنيسة، بيروت قيامية!". في العدد مقال خاصّ بقلم النّاجية من الإنفجار الزميلة الإعلاميّة ملفين خوري تروي فيه أصعب ما عاشته يوم الكارثة وتتحدى الألم والتاريخ بعنوان "لن ننساك أبدًا".
بقلم الزميلة الإعلاميّة ملفين خوري
ناجية من إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020
هو ذاك الرابع من آب الذي كان من المفترض أن يكون يومًا عاديًّا، على الرغم من الظروف غير الإعتياديّة التي كنّا نعيشها على الصُعد كافة.
كنت في المنزل، في "المقرّ الآمن" لكلّ إنسان، ولم أكن أدري أنه حان للقنبلة الموقوتة أن تنفجر، وأن تودي بحياتنا جميعًا، شهداء وضحايا وجرحى ومنكوبين.
أرادوا من ذاك الرابع من آب أن يلطّخنا بالدماء والخوف واليأس والإستسلام. كيف لا وهم أبناء الظلام وأسياد عالمٍ لا يعرف الرحمة والإنسانيّة. ولكن، وإن تسلّلت تلك المشاعر السلبيّة لحين إلى نفوسنا، ها نحن قد خلعنا أثواب القلق والعجز، وها نحن اليوم أقوى، والإستسلام لا مكان له في قاموس حياتنا.
في كلّ "قطعة لحم" دُفنت في نعشِ، ومع كلّ طفل وشاب وشابة ورجل وامرأة أغمضوا أعينهم الى الأبد، هناك روح قوّة تُبثّ فينا لتحيينا من جديد. فنحن أبناء النور والرجاء والقيامة، لا نخاف من يقتل الجسد.
ومع كلّ أنين ألم لا يحتمل، ومع كلّ دمعة تذرف، ومع كلّ نظرة الى غدٍ مجهول، نتمسّك أكثر بإيماننا، ونحمل صليبنا بفرح مع من حمل صليبه حتى الموت من أجل خلاصنا.
ليس ما أكتب مجرّد نظريّات، بل هو حقيقة لمستها طيلة هذا العام.
نعم، تألّمتُ كثيرًا جرّاء إصاباتي البليغة، وكان الوجع لا يُحتمل في أوقات عدّة. نعم، سألتُ الله مرارًا: لماذا أنا؟ ولمَ كلّ هذا الألم؟ كثيرة كانت الأسئلة، ولم يأتِ الجواب إلّا من داخلي، من وعيي ومن "لاوعيي": كيف لي أن أتذمّر من "كمشة" ألم ومخلّصي ذاق أبشع العذابات من أجلي؟
صحيح أنّ المشاهد المطبوعة في ذاكرتي عن ذاك اليوم المظلم قاسية ولا يمكن لعقل بشريّ أن يستوعبها بسهولة.
أقف هناك، حيث أصوات الإستغاثة، حيث رائحة الموت تفوح في كلّ مكان.. في المرفأ كما في المباني والشوارع والسيارات والمستشفيات، حيث الدماء غطّت الوجوه والأجساد، حيث الدمار والفراغ والظلمة والزجاج الذي عبّد الطرقات.
أقف هناك لساعات واثقة أنّ درب الجلجلة هذا مكلّل بقيامة حتميّة من بين الأموات والركام والجراح والآلام. درب الجلجلة هذا سقته دماءٌ ذكيّة بدّلت رائحة الموت فصار عطرًا عذبًا يقود نحو خلاصٍ أكيد.
أنتَ أيّها الرابع من آب، أطمئنك أنّك لم تكسر روحي على الرغم من أنّك حطّمت جسدي، ولم تدمّر عزيمتي على الرغم من اليأس الذي حاولت أن تبّثه في نفسي، ولم تزعزع إيماني على الرغم من أنك كنتَ خير دليل على شرٍّ مستفحل في وطني، ولم تأخذ منّي قوّتي لأنني أستمدّها من ربّ السماء والأرض، ولم تفقدني الأمل بالعدالة لأنّني أثق بعدالة سماويّة لن تتأخّر.
أيّها الرابع من آب، تذكّرنا جيّدًا.. تذكّر صور الشهداء والضحايا، تذكّر تشوّهاتنا التي تركتها على وجوهنا وأجسادنا، تذكّر دموع الأمّهات وحرقة قلب الآباء، تذكّر أسئلة الأولاد عن والدهم أو والدتهم، تذكّر ضياع المشرّدين.
تذكّرنا جميعًا.. لأنّنا لن ننساك أبدًا
دائرة التواصل والعلاقات العامة