من الشرق إلى الجمعيّة العامة لمجلس الكنائس العالميّ في ألمانيا

 سيمون عوض: لا يمكننا تحقيق أمن غذائيّ وأرضنا ما زالت مهدّدة!

يُمنع الناس في الأراضي المقدّسة من الوصول إلى مصادر المياه والطاقة البديلة بغية تهجيرهم من أرضهم

دائرة التواصل والعلاقات العامة - كارلسروه - ألمانيا

"وهذا ما قالَ الرّبُّ، وهوَ اللهُ خالِقُ السَّماواتِ وجابِلُ الأرضِ وصانِعُها الّذي ثَبَّتَها وأوجَدَها لا للفراغِ، بل للعُمرانِ: «أنا الرّبُّ ولا آخَرُ»" (أشعيا 45: 18). خلق الله السّموات والأرض وكلّ ما فيهما من أجل خير العالم والبشر. جبلهما وصنعهما وأمّن الإنسان عليهما. خليقة الله تمجّد اسمه فما أجمل صنع يديه! الكنيسة تبارك خلائق الربّ وتصلّي من أجل حمايتها وتمدح خالقها وتشكره على كلّ النعم. ودور الإنسان في صلب الكنيسة والعالم أساس في الحفاظ على خليقة الله المباركة.

بعيدًا عن كلّ خطر يتهدّد البيئة، ما زالت مجتمعات كثيرة في المنطقة والعالم تتّبع التقاليد البيئيّة الكنسيّة والإجتماعيّة في مناسبات ومواسم متنوّعة على مدار السّنة، وكذلك في عاداتها وحياتها اليوميّة. وهذا خير دليل على أنّ الأمل ببيئة نظيفة آمنة للسكن ما زال موجودًا.

مركز التعليم البيئيّ التابع للكنيسة الإنجيليّة في الأردن والأراضي المقدّسة هو من أكثر النماذج نجاحًا في العمل على حماية البيئة وتوعية الناس على الأنظمة البيئيّة المستدامة. ما هي برامجه؟ ما هي أكثر الأزمات البيئيّة الّتي يواجهها؟ وما هي الحلول العمليّة للحدّ منها؟

كلّها أسئلة يجيب عنها الخبير البيئي سيمون عوض، رئيس مركز التعليم البيئي ورئيس الإتّحاد الدوليّ لحفظ الطبيعة والموارد الطبيعيّة IUCN - International Union for Conservation of Nature في فلسطين، ومدير مجموعة من المؤسّسات البيئيّة لحماية الطبيعة، في فلسطين. عوض هو أيضًا عضو لجنة "المناصرة من أجل العدالة المناخيّة والبيئيّة" في مجلس الكنائس العالميّ، الّذي رفع الهموم البيئيّة الشرق أوسطيّة إلى الجمعيّة العامة الـ11 للمجلس الّتي انعقدت في كارسلوه، ألمانيا، بين 31 آب/ أغسطس و8 أيلول/ سبتمبر 2022، تحت شعار "محبّة المسيح تدفع العالم إلى المصالحة والوحدة".

وفي دردشة على هامش الجمعيّة العامة لمجلس الكنائس العالميّ، يضيء عوض على أهميّة التقاليد البيئيّة الّتي تتّبعها الكنائس الشرقيّة في تنوّع لاهوتها، موضحًا واقع المشهد البيئيّ في المنطقة إضافةً إلى دور المركز الّذي يرأسه.

 

الموروث البيئيّ: بين التقاليد الإجتماعيّة والكنسيّة

بدايةً يؤكّد عوض "أنّ موضوع الحفاظ على الموروث الثقافيّ والطبيعيّ يتّخذ أهميّة كبيرة لأنّ ربّنا، عندما خلق الأرض، خلقها في أحسن صورة كي نكون بالتّالي الجيل الّذي يحمي هذه الأرض ويستثمرها بطريقة مستدامة للأجيال المقبلة. منذ حوالي الـ30 أو الـ40 عامًا حتّى اليوم، ما زال في ثقافتنا العربيّة أو الشرقيّة، قرى عربيّة كثيرة تعيش بطريقة مستدامة بشكل يوميّ عبر خطوات مختلفة كتجميع المياه وزرع الأشجار المثمرة وحصادها...".

ويضيف "نسعى أيضًا إلى ترشيد استخدام المصادر الطبيعيّة والعمل على عدم الإسراف بها. من المهمّ إذًا الحفاظ على هذا الموروث البيئيّ. علمًا أنّ عددًا من أمثالنا الشعبيّة اليوميّة تضيء على سُبل استخدام الموارد الطبيعيّة بشكل مستدام. من هنا يتّخذ موضوع البيئة في المجتمعات المتديّنة مكانة أساسيّة في الحياة اليوميّة. كانت جدّتي مثلًا تصوم يومين في الأسبوع الأربعاء والجمعة، وفق تراثنا، وهذا ما يُسمّى في أوروبا الصّوم النباتيّ. كما أنّ عائلتي تمارس الصّوم الأربعينيّ والقطاعة من خلال الإمتناع عن تناول المشتقّات الحيوانيّة، من أجل الإستفادة منها في إطار آخر".

يتابع "كانت مجتمعاتنا في السابق تلتزم اقتصادًا بيتيًّا متكاملًا لحماية الطبيعة وعناصرها. إلّا أنّه مع الثورة الصّناعيّة والحياتيّة بتنا نشهد حالة من الإنفصام بين تراثنا وما نؤمن به من جهّة، وما نحن نعيشه اليوم من جهّة أخرى".

لكن ماذا عن الكنائس الّتي تتّبع الكثير من التقاليد البيئيّة في خدماتها؟ يشرح عوض أنّ "الكنائس تحتفل في العديد من المحطّات بعناصر لها علاقة بالطبيعة كالفاكهة، وعلى سبيل المثال تبارك الكنيسة الرمّان في فصل الصيف. في كلّ موسم تبارك الكنيسة إحدى العناصر اّلتي تشتهر خلاله. الكنائس الشرقيّة ورثت هذه العادات ونحن أيضًا نرثها اجتماعيًّا ودينيًّا. وعلى سبيل المثال، يصوم الناس في الرّبيع وهي فترة تكاثف الطبيعة ونموّها. لذا نترك الطبيعة تتكاثر والحيوانات تهتمّ بصغارها...".

 

الحروب عائق أمام حماية البيئة

في المقابل، يعاني الشرق الأوسط والعالم العربيّ من أزمات بيئيّة جمّة في خضمّ مخاطر تتهدّد البيئة والإنسان معًا جرّاء عوامل مختلفة قد تكون أهمّها سياسيّة وأمنيّة... فما هي أبرز التحدّيات البيئيّة الّتي تواجهها دول المنطقة؟

يجيب عوض "أكثر ما نعاني منه في العالم العربيّ هو السّيطرة الغربيّة والإمبرياليّة على منطقتنا. ونحن من أكثر المناطق الّتي شهدت حروب مدمّرة، حيث لم تتمكّن جرّائها من تحقيق استقلالًا ذاتيًّا. تواجه المنطقة اليوم مثلًا ظاهرة تتجلّى في سيطرة اسرائيل على الموارد المائيّة في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين. وبحسب تقارير الأمم المتّحدة تسيطر اسرائيل على حوالي 85% إلى 90% من المياه الموجودة في المناطق الفلسطينيّة والّتي يمكن أن نشرب منها ونستخدمها حياتيًّا. لذا تُعتبر أزمة نقص المياه مهمّة خصوصًا وأنّها ليست أساسيّة للشّرب والإستخدام اليوميّ فقط وإنّما ضروريّة أيضًا لتحقيق الإستدامة".

الحروب أيضًا أثّرت سلبًا وبشكل كبير على تطوير مختلف جوانب الحياة لا سيّما على حماية البيئة! بحسب عوض "في الواقع، تعاني المنطقة من قضايا وأزمات كبيرة، ما يوثّر سلبًا على تطوير مختلف القطاعات الزراعيّة والصناعيّة... لا يمكننا الحديث عن أمن غذائيّ وتحقيقه وأرضنا في المنطقة ما زالت مهدّدة وتفتقد إلى مواردها المائيّة".

يتابع "لذا تأخذ الإهتمامات بالتنمية المستدامة والحفاظ على الموارد البيئيّة والطبيعيّة حيّزًا كبيرًا اليوم. في الحقيقة، تشهد منطقتنا تفاقمًا في الأزمات والحروب الّتي تستفحل في أوقات مختلفة، في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين على سبيل المثال. لذا أدّت الحروب إلى تداعيات بيئيّة كثيرة لا سيّما تدمير كلّ المصادر الطبيعيّة الّتي يمكن للشّعوب الإستفادة منها من أجل تطوير ذاتها...".

 

مركز التعليم البيئيّ التابع للكنيسة الإنجيليّة في الأردن والأراضي المقدّسة

بالعودة إلى مركز التعليم البيئيّ التابع للكنيسة الإنجيليّة في الأردن والأراضي المقدّسة، ما هو الدور الّذي يقوم به في المناصرة والتوجيه في مجتمعات المنطقة؟

يشرح عوض أنّ المركز "يقوم على مدار السّنة ببرامج ودورات توعية مختلفة. يضيء مركزنا مثلًا على كيفيّة المحافظة على الطاقة والمياه وسُبل معالجتها وإعادة استخدامها... ويقدّم مشاهدات حيّة حول سُبل إعادة استخدام المياه الرماديّة وكيفيّة استخدام المياه السوداء... في هذا الإطار، تمّ تبنّي أحد برامجنا في فلسطين لا سيّما في وزارة التربية والتعليم وفي المدارس، ما ساهم في الترشيد من استهلاك المياه لاستخدامها في خطوات أخرى، كريّ الحدائق مثلًا".

ومن خلال مهامه في لجنة "المناصرة من أجل العدالة المناخيّة والبيئيّة" يرفع عوض الصوت عاليًا إلى مجلس الكنائس العالميّ، مشدّدًا على أنّ "أكثر ما نعاني منه هو وجودنا تحت الاحتلال. تسعى مناطق كثيرة في بلادنا إلى استخدام نظام الطاقة الشمسيّة خصوصًا بسبب انقطاعها عن الكهرباء وبُعد مسافتها الجغرافيّة. كما تحصل هذه المناطق على مساعدات من مؤسّسات أجنبيّة وأوروبيّة الّتي تقدّم لها الأدوات الضروريّة لإنتاج الطاقة والإستفادة منها في الحياة اليوميّة، وكذلك مضخّات مياه الآبار. الّا أنّ الإحتلال الإسرائيليّ يأتي بعدوانه ليدمّر كلّ هذه التقنيّات البيئيّة المتطوّرة وبشكل مستمرّ. وهذا ما أدّى إلى صراع بين الأوروبيّين والإحتلال. هذا ويُمنع الناس أيضًا من الوصول إلى مصادر المياه والطاقة البديلة من أجل تهجيرهم من مناطقهم".

 

تحدّيات بيئيّة: من مركز التعليم البيئيّ إلى الجمعيّة العامة لمجلس الكنائس العالميّ

من الشرق الأوسط إلى العالم، حمل عوض مسائل كثيرة إلى الجمعيّة العامة الـ11 لمجلس الكنائس العالميّ. يقول "في الحقيقة، هناك قضايا عدّة نحملها ونناقشها هنا، من بينها القضايا الخاصّة بالسّلوك اليوميّ في سبيل العمل على التخفيف من استخدام المواد البلاستيكيّة مثلًا... أيضًا نتبادل خبراتنا مع دول أخرى حول سُبل تطوير مجتمعاتنا وتقديم الحلول لحياتنا اليوميّة رغم كلّ الصّعوبات الّتي تحيط بنا. لذا علينا تحديد توجّهات في السلوكيّات أو الـGood Practices".

يتابع "نسعى مثلًا في المركز إلى التخفيف من نسبة النفايات في المدارس من خلال توزيع حافظات طعام ومطرات مياه وأجهزة تحوّل الطعام الزائد إلى سماد طبيعيّ، على 1500 طالب وطالبة. ومن المخاطر الّتي نواجهها أيضًا هي استخدام البتروكيماويّات والموادّ البلاستيكيّة والنايلون... لذا نقوم بتوزيع كميّات كبيرة من أكياس القماش الصديقة للبيئة لاستخدامها في مختلف الأنشطة وتوضيب المشتريات...".

وعن أنشطة المركز يضيف "ينفّذ أيضًا برامج توعية لحوالي 4 إلى 5 آلاف طالب وطالبة خلال السّنة حيث يشاركون في ورش عمل عدّة حول حماية الطبيعة والبيئة والموارد وسُبل الإنسجام مع بعضنا والبيئة. كما نسعى مع طلّاب المدارس إلى الإضاءة على حقوقهم لا سيّما في العيش في بيئة نظيفة وصحيّة...، وكذلك واجباتهم كي يكونوا مواطنين صالحين. في الحقيقة، تتجلّى هذه البرامج ومنذ سنوات بنتائج مثمرة.

ومن برامجنا أيضًا "الحفاظ على الخليقة". لذا نسعى مثلًا على الحفاظ على الطيور من خلال منع صيدها، وأصدرنا حاليًّا وثيقة تثبت وجود 391 طائر في فلسطين... هذا وننظّم مؤتمرًا سنويًّا بمشاركة نحو 300 إلى 500 شخص، حول العدالة البيئيّة، وسيكون هذه السّنة المؤتمر بنسخته الـ13. في هذا السّياق، ننظّم أيضًا مهرجانًا للزيتون ونعمل على الإهتمام بالمزارعين وسُبل التسويق لمنتجاتهم...".

 

في الحقيقة، كثيرة هي المبادرات التي تسعى وبجديّة إلى الحفاظ على الأرض والخليقة إنطلاقًا من مسؤوليّتنا السامية الّتي أوكلنا بها الله الخالق. إلّا أنّ الخطر البيئيّ ما زال يحدق ببيتنا المشترك! لذا بات ضروريًّا على الحكومات والجهات المعنيّة بذل الجهود اللازمة في سبيل تحقيق عدالة بيئيّة والتخطيط لمستقبل أكثر أمانًا، قبل سقوط الهيكل وفوات الأوان!!.

 

دائرة التواصل والعلاقات العامة

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي - عيد الصّليب المقدّس

Next
Next

رسالة تعزية من الأمين العام بالنيابة لمجلس الكنائس العالمي