عامان على انفجار 4 آب الكارثيّ في بيروت

موت ودمار ووجع في كلّ مكان ... لكن

هنا إرادة الحياة أقوى

4 آب/ أغسطس... تاريخ سُجّل للتاريخ. يوم كاد أن يكون طبيعيًّا لو لم تتوقّف عقارب السّاعة عند السّادسة وسّبع دقائق مساء. لحظة وقوع الفاجعة، كارثة انفجار مرفأ بيروت. هذا الزلزال الّذي قلب حياة اللّبنانيّين رأسًا على عقب..

أكثر من 230 ضحيّة، 3000 جريح، آلاف النازحين والمتضرّرين جسديًّا،نفسيًّا وماديًّا...

عامان على هيروشيما بيروت ولم يندمل جرح اللّبنانيّين. حتى حقيقة ما حصل ذاك اليوم المشؤوم  فدخل التحقيق عنها في المجهول.. الّا أنّ العدالة آتية يومًا ولو طال الإنتظار، فنحن أبناء الرجاء والقيامة.

بعد عامين على كارثة المرفأ، ما الّذي تغيّر في مسرح الجريمة هل ما زال البيروتيّون متمسّكون بالأمل؟ كيف تبدو بيروت اليوم؟ هل عاد النبض إلى قلبها؟

أسئلة كثيرة  نبحث عن إجابات لها ميدانيًّا، في أحياء العاصمة الجريحة الحاضنة لأبناء يتعايشون  يوميًّا مع حزن إهراءات المرفأ، الشّاهد الصّامت على الفاجعة والّتي باتت مهدّدًة بالإنهيار الكامل خصوصًا بعد سقوط صومعتين جراء النيران المندلعة فيها منذ أسابيع.

 

الجميّزة ومار مخايل هما المنطقتين الأقرب من إهراءات مرفأ بيروت. هناك حيث الوجع كان عميقًا نتّجه ونبحث عن بصيص أمل وسط كلّ متاعب الحياة.

بداية الجولة كانت في كنيسة مار أنطونيوس للرّوم الملكيّين الكاثوليك، جارة المرفأ والملجأ الآمن لأهل المنطقة، قاومت وبقيت شامخة رافعة قبّتها نحو السّماء، على الرّغم من كلّ الأضرار الجسيمة الّتي لحقت بها. أمّا اليوم فعادت تشعّ نورًا جديدًا بعد ورشة التأهيل والترميم ، وكأنّنا في ملكوت سماويّ بعيد عن ضجيج المدينة.

 

خوف متواصل

السيّدة موني بالي

داخل الكنيسة نلتقي السيّدة موني بالي بعدما كانت غارقة في تنظيف المكان مع إبتسامة لم تفارق وجهها.  هي إحدى جرحى الإنفجار وما زالت حتّى اليوم تعاني من إصابتها، نترك الكلام لها، تقول "يوم الإنفجار حسّينا بهزّة وكأنّو صار في قصف وشفت البنايات كلّا عم تتهبّط وأنا وقعت من الطابق الثاني للأوّل".

تضيف "غبت عن الوعي ومن بعدا لقيت إيدي مقطوشة. وبلّشت الرحلة على المستشفيات للـ11 باللّيل بس ما استقبلوني بالمستشفى لي وصلتلّو لأنّو كان بدّن 7 آلاف دولار وأنا ما معي ياهن... أمّا بيتي فكان فيو كتير دمار وقدرنا شوي نظبتو من ورا المساعدات. بالكنيسة هون كان في دمار هايل بس الكلّ تساعد ليعيدوا ترميما. وبعد سنتين بقي في شويّة أضرار".

تتابع "هيدا نهار مشؤوم، ما بحبّو. ليش بدّو يصير عنّا إعاقة جسديّة بآخرتنا؟ أنا خسرت إيدي، كلّ الحكما عمّ بيقولوا ما في أمل. والعمليّات لي لازم أعملا كتير مكلفة. مضرّرين وكمان بدنا نشحد مصاري من الناس، ما بصير! بعد سنتين ما تغيّر شي والشحادة أقوى خصوصي أنّو المعيشة صارت كتير غالية. كلّ ما شوف منظر المرفأ أو أعرف بشي حدث أمني بنرعب، وأنا أصلًا صرت عمّ آخذ دوا أعصاب. على أمل شوف وجّ اللّه قبل ما موت!".

 

الأمل بيسوع

السيّد عزيز سلّوم

مع السيّدة موني، خادمة الكنيسة، نتعرّف على أحد المرتّلين، السيّد عزيز سلّوم، يروي لنا وبغصّة لحظات الكارثة الأولى في منزله في مار مخايل "هزّت الأرض وطلع الإنفجار. وقد ما كان قوي طرت وضربت بالسقف وصرت مليان كلني قزاز. أمّا بنتي فطارت وانصابت بشكل كبير وصار عندا مشكلة باللّفظ. مرتي نجيت من الموت من بعد ما وقع كلّ شي عليها".

يقول أيضًا "من وقتا عايشين على الشحادة والمساعدات. أنا برتّل بالكنيسة وبشتغل قندلفت. بس رتّل للمسيح بنسا حالي وكلّ شي صار معنا، بعيش بجوّ الترتيل. بعد سنتين ما تغيّر شي وكرمالا التعاسي عمّ تزيد، وهلّق المساعدات كِلّا توقّفت. منظر الإنفجار لليوم ما بيروح من بالي. عندي بس أمل بيسوع، هوّي المنقذ. لبنان ما بيصير في عجيبة إلّا من ربنا اللي بيخلّصنا. يا ربّ نجّينا من الأعظم!".

 

الخسارة لا تُعوّض

خارج الكنيسة، نعود إلى الحياة في كنف المدينة، هناك عادت بدورها الألوان إلى أحياء الجميّزة ومار مخايل. بعض المباني شهدت إعادة ترميم علّها تحضن من جديد أهلها الّذين تهجّروا من المنطقة بعد الإنفجار. كما أنّ بعض المباني القديمة ما زالت مدمّرة وغير صالحة للترميم. أشجار من هنا وهناك تحيط المحال التجاريّة والمطاعم الّتي رُمّمت من جديد لتستقبل اللّبنانيّين والسيّاح.

السيّد روي الحايك

إلّا أنّ سكّان المنطقة وأصحاب هذه المحال ما زالوا غارقين في يأسهم. الإنفجار في الواقع وحّد مأساتهم، والحزن بات ظاهرًا على وجوههم. السيّد روي الحايك يملك محال موسيقى في مار مخايل، يقول "فلّيت قبل الإنفجار بشوي. ولمّا طلع الإنفجار رجعت لاتفقّد المحلّ خصوصي أنّو الحراميي بلشّو يبرمو بالحيّ. بقيت قاعد متل الناطور قدّام المحلّ لي عملت جهد كتير كبير لإرجع رمّمو".

وعن الأضرار يضيف "الخسارة ما بتتعوّض. في كتير آلات  موسيقية قديمة تكسّرت هيدا غير ديسكات الفينيل والأدوات النادرة لي كمان تكسّرت. أنا إبن الحرب بس مش شايف بحياتي هيك دمار وما بنسى العالم المدمّمة. لي صار مش هيّن. ما حدًا مرتاح هلّق. حتّى موسيقى مش قادر إسمع بقا. بالي مش مرتاح بعدو مشغول كيف بعد بدّي صلّح بالمحلّ".

يتابع "بعد سنتين الفقر صار زيادة. كتير عالم ما رجعت عا بيوتا. بعد عندي أمل بلبنان وكان فيي من زمان فلّ منّو بس ما بدّي لأنّو هوّي بلد القدّيسين. بتمنّى يرجعو الناس على المنطقة لهون بس مادّياتن ما بتسمحلن".

 

معاناة نفسيّة

بدوره يروي مدير أحد محال الأدوات المنزليّة "كنت مدير بانك ومن بعد ما طلعت على التقاعد استلمت هيدا المحلّ لي بيملكوه ولاد أختي. يوم الإنفجار كنت هون بس فلّيت أبكر لأنّو ما كان في شغل زيادة. وقتا طلع الإنفجار فكّرنا صار في حرب فنزلنا تخبّينا بالملجأ. من بعدا رجعنا لهون ولقينا المحلّ كلّو مدمّر. كان في كتير سرقة بالحيّ".

وبعد سنتين على الإنفجار يقول "صار معي بالأعصاب وكلّ يوم باخذ دوا". ويستذكر "كنت كلّ يوم إجي على المحلّ وأعمل ركوة قهوة وإقعد برّا وضيّف الجيران واللي مارقين من هون، وكنّا كمان نلعب طاولة ونتسلّى، وهلّق بطّل في شي".

يتابع "هيدا الإنفجار لا يُنتسى. بعد في ناس بتبصروا بمناما. أنا بعض الأوقات بقوم شي ساعة 1 أو 2 باللّيل مزعوج كتير فبصلّي وباخد دوا أعصاب وبروح بسيّارتي مشوار بعيد وبفتح الشبابيك هيك بركي برتاح شوي. أغلبيّة العالم صارت عمّ تعاني نفسيًّا. ما بقى في أمل".

 

مشهد كالحرب

نتابع جولتنا في العاصمة بيروت الّتي شهدت على الكثير والكثير من الروايات والألم ونصل إلى شركة كهرباء لبنان، المطلّة مباشرة على المرفأ. الدمار هائل وتحوّل المبنى إلى هيكل عظمي كان قد عانى من نزيف شديد إثر الكارثة.

عند مدخل هذا المبنى استقبلنا العمّ الناطور وهو يتأمّل بحسرة إهراءات بيروت، يقول مستذكرًا ضحايا وجرحى شركة الكهرباء "مشهد المرفأ كأنّو حرب عالميّة. ما بقا فيّي قول شي، انخرب البلد. ما بقا في أمل". ويستنكر الظّروف المعيشيّة الصّعبة جرّاء الأزمات الإقتصاديّة والمصرفيّة الّتي تفاقمت بعد الإنفجار "كيف بدّي إنبسط؟ المصريّات طارت وما بقا فيّي جوّز إبني".

 

حسرة وحزن

ندخل إلى شركة كهرباء لبنان حيث رافقنا المسؤول عن صيانة المبنى وتوجّهنا معه نحو الطابق الـ13 وهو الأعلى. آثار الدمار الفادح ما زالت مسيطرة رغم مرور عامين على الكارثة. ركام على الأرض، غبار في كلّ مكان، أشرطة كهربائيّة مبعثرة، ملفّات متناثرة، جدران مهدّمة... مشهد رعب يطلّ على إهراءت المرفأ الّتي باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

يستذكر المسؤول عن صيانة المبنى يوم الفاجعة، يقول "الطرقات كانت مليانة ردم والجرحى وين ما كان. بالأوّل ما كنّا عارفين أنّو خسرنا 3 ضحايا، ماري طوق وزينا شمعون وكلوديا اللّقيس، لأنّو كان من الصعب أنّو نفوت على الطوابق".

يضيف "أنا صرلي بالشركة من سنة 1984 وبتعيش هون أكتر من البيت. بتأثّر كتير بس شوف كلّ يوم منظر المرفأ والمبنى المدمر ولي بدّو كتير تمويل لإعادة تأهيلو، خصوصي أنّو الجمعيّات ما كان فيا تساعد لأنّو موسّسة للقطاع العام. مكتبي كان بالسّابع وكلّو تكسّر".

عن حال الموظّفين يتابع "بعد الإنفجار وزّعو الموظّفين على مناطق مختلفة لأنّو ما بقا في مساحة كبيرة للعمل. الوضع مذري والنفسيّة كتير تعبانة، خصوصي أنّو اللي بقيو هون صارو عم يشتغلو بمكاتب مركبّة بهانغارات".

أمّا في الطابق التاسع فنعاين معه شاشة التحكّم بشبكة الكهرباء في لبنان الّتي دُمّرت بشكل كبير ولم يتمّ تأهيلها بعد.

 

من شركة كهرباء لبنان ننهي جولتنا في الجمّيزة. في هذه المنطقة الّتي لطالما شكّلت ملتقى للفرح والضحك والمرح. اليوم تحاول الجمّيزة كما كلّ مناطق بيروت استعادة الأمل ولو ببصيص صغير علّها تنبض بالحياة من جديد، وبأمان وطمأنينة ما زال اللّبنانيّون يبحثون عنهما.

لكن بعد الظّلمة نور، ولا بدّ من أن تشرق شمس  بهيّة حاملة معها عدالة سماويّة وراحة بال في أيّام قد تكون أكثر سلامًا. لذا يبقى إيماننا بالربّ يسوع المسيح الأقوى، فمع الله لا نخف ولا نضطرب، وهو الّذي قال "تشجّعوا! أنا هو. لا تخافوا!" (متّى 14: 27).

 

دائرة التواصل والعلاقات العامة

الصور: دائرة التواصل والعلاقات العامة/ مجلس كنائس الشرق الأوسط

Previous
Previous

عقب زلزال الرّابع من آب

Next
Next

"الفلسطينيّون والتحرّر من منظور مسيحي"