الصّوم الأربعينيّ: عبور من يأس الصّحراء إلى الواحة الإلهيّة

الكنيسة تستعدّ لعيد الأعياد، فهل نحن جاهزون؟

يدخل المسيحيّون بعد أيّام في فترة تُعتبر من أقدس المحطّات المسيحيّة تاريخيًّا. فترة تتجلّى بزمن الصّوم الأربعينيّ المقدّس، الطريق الآمن للعبور نحو عيد القيامة، عيد الأعياد وموسم المواسم. يأتي الصّوم في مسيرة روحيّة تجدّد الإنسان وتنقله من الخطر إلى الأمان، من الخطيئة إلى الخلاص، ومن القلق إلى الإطمئنان.

مسيرة الصّوم يجتازها المسيحيّون تبعًا لمسيرة يسوع المسيح الّذي انعزل بعد عماده 40 يومًا في الصّحراء. هناك في هذا المكان البعيد عن النّاس صام يسوع وصلّى باستمرار وإنتصر على الشّيطان بقوّة الرّوح القدس، فقال له "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ" (لوقا 4: 4)، "إذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (لوقا 4: 8).

أمّا نحن فلا يمكننا أن ننكر أنّنا غارقين في تجارب الحياة اليوميّة ومغرياتها، تائهين وسط عالم منغمس بالأمجاد العابرة وخطاب الكراهية والعنف والعداء والتميّيز... ففي خضمّ كلّ الضجيج حولنا كم يحتاج إنسان اليوم للإنعزال في الصحراء! وكم يحتاج إلى سماع صوت اللّه من بين ضجيج الأصوات من حوله؟!

يقول قداسة البابا فرنسيس "الصّحراء هي مكان الكلمة، كلمة اللّه. في الحقيقة، نجد في الكتاب المقدّس، أنّ اللّه يحبّ أن يكلّمنا في الصّحراء... في الصّحراء نجد العلاقة الحميمة مع اللّه ومع محبّته... زمن الصّوم الأربعينيّ هو الوقت المناسب لإعطاء المجال لكلمة اللّه".

جهاد نحو الصّحراء

بدايةً لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصّوم شريعة إلهيّة ووصيّة اللّه الأولى الّتي رسّخها يسوع المسيح حين هتف "... سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ" (متّى 9: 15). كما أنّ الصّوم يهدف إلى التوبة ومراجعة الذّات والعودة إلى اللّه بإتّضاع لنعزّز صرختنا "يا اللّه إرحمني أنا الخاطىء". 

يرافقنا الصّوم في رحلتنا للبحث عن وجه اللّه الّذي نجده في الصّحراء، هي رحلة بلوغنا الملكوت السّماويّ. كما ويتجسّد الصّوم في جهاد روحيّ وجسديّ عبر الإمساك عن الطعام والشّراب وضبط النفس والجسد من الأهواء والرّغبات حيث يسعى الإنسان ويجاهد للتغلّب على غرائزه وكبريائه وكلّ مغريات الكون.

لذا لا يقتصر الصّوم على الإمتناع عن الطعام فقط وإنّما على العمل أيضًا لتجنّب الخطيئة وتطهير النفس من كلّ الشّرور وتنمية القلب بالتواضع والتوبة والرّحمة من أجل تجديد علاقتنا مع اللّه. وهذا ما أوصانا به يسوع المسيح حين قال "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللّهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ" (مرقس 1: 15).

تتكلّل مسيرتنا الصياميّة كذلك بالصّلاة وأعمال الرّحمة والصّدقة. من هنا يقول غبطة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس يوحنّا العاشر "الصّوم يا أحبّتي يقوم على ركيزة المحبّة ويتقوّى برداء الصّدقة ويكتمل بخميرة الطهارة والعفّة. الصّوم والرّحمة صنوان لا يفترقان. الصّوم والرّحمة والصّدقة والطهارة مع افتقاد الأخ القريب والمحتاج هي جداول تقود إلى مصبٍّ واحدٍ يعبّد السّبيل لولوج دار الرّحمة الربّانية ولاقتناء الربّ صديقًا".

الصّوم في الكنائس

صحيح أنّ المسيحيّين موزّعون على عائلات كنسيّة عدّة لكنّها كلّها تدعو إلى الصّلاة والتوبة والصّوم، كلّ منها بحسب عقيدتها وتقاليدها الّتي تتميّز بها.

تبدأ الكنيسة المارونيّة مثلًا كما الكاثوليكيّة الزمن الأربعينيّ بإثنين الرّماد. وتركّز في صومها على عيد الفصح وقيامة المسيح عبر التأمّل في أناجيل الآحاد خلال فترة الصّوم لا سيّما أحدَي العجائب. كما تعتبر أن على المؤمن أن يلتزم بإيمانه بيسوع المسيح الطبيب والشّافي وغافر الخطايا ومحيي الراقدين والمنتصر على الموت والشّيطان والخطيئة.

أمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة فتشدّد في صيامها على الفرح والتوبة معتبرةً أنّ الصّوم حجّ ملكوتي يشكّل عبورًا من الولادة البشريّة إلى الولادة المسيحيّة. وتدخل الكنيسة الأرثوذكسيّة في فترة الصّوم عبر زمن التريودي الّذي يُقسَم إلى ثلاث مراحل أساسيّة وهي فترة التهيئة للصّوم، الصّوم الأربعينيّ والأسبوع العظيم.

وعلى سبيل المثال أيضًا، ترى الكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة كذلك أنّ الصّوم هو تذكير للمؤمنين بجهاد الربّ يسوع الّذي بدأ تدبيره الإلهيّ بالصّوم 40 يومًا و40 ليلة في البريّة ليعلّمنا الصّوم والجهاد الروحيّ ضدّ إبليس. باشرت الكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة بالصّوم الأربعينيّ في القرن الثّالث للميلاد. وفي الربع الثّاني من القرن الرّابع أُضيف عليه صوم أسبوع الآلام الّذي كان قد بدأ أصلًا قبل هذا التاريخ.

وتعتبر الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة أنّ للصّوم غايتين وهما الإستعداد لخبرة بهجة قيامة السيّد المصلوب، وإعداد الموعوظين بالتعليم وممارسة العبادة مع التوبة الحقيقيّة لينالوا سرّ العماد ليلة عيد الفصح.

أمّا الكنائس الإنجيليّة فتتّبع التقويم الغربيّ وتركّز في الصّوم على التحضير الروحيّ، والتأمّل بآلام المسيح، موته وقيامته. كما تحفّز الكنائس الإنجيليّة بشكل إجماليّ على الصّوم في أي وقت خلال السّنة وليس فقط في الفترة الّتي تسبق عيد القيامة، كون الصّوم والصّلاة يترافقان ويساعدان المؤمنين.

 

أخيرًا قد يبدو الصّوم حرمانًا وتعذيبًا لدى كُثر إلّا أنّ من يعيشه يغمره فرح عظيم ويختبر حياة الصّحراء الأقرب إلى الملكوت السّماويّ.

نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى صحراء نلتمس فيها النور البهيّ ونسمع عبر صمتها كلمة اللّه وصوته. وما نعيشه من تشتّت وأزمات قد يعيق طريقنا نحو هذه الصّحراء، لكنه لن يمنعنا أبدًا من بلوغها لأننا أبناء اللّه دُعينا وبقيامة سيّدنا يسوع المسيح خُلّصنا.

دائرة التواصل والعلاقات العامة


Previous
Previous

جنون البشرّ

Next
Next

موسم الخليقة 2022 ينطلق عالميًّا