الأرض أمانة من اللّه الخالق إلى البشر
سيادة المطران شارل مراد عبر برنامج "أيّام موسم الخليقة":
جميعنا إخوة وأبناء البيئة نفسها والإنسان مدعو لتقديس الأرض
هذه المقابلة متوفّرة أيضًا باللّغة الإنكليزيّة.
"فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِذْ كَانَتِ الأَرْضُ مُشَوَّشَةً وَمُقْفِرَةً وَتَكْتَنِفُ الظُّلْمَةُ وَجْهَ الْمِيَاهِ، وَإِذْ كَانَ رُوحُ اللّهِ يُرَفْرِفُ عَلَى سَطْحِ الْمِيَاهِ" (اَلتَّكْوِينُ ١: ١-٢). هكذا خلق اللّه الأرض وكلّ ما فيها وجمعها كلّها في بيت بيئيّ واحد، ليخلق بالتّالي الإنسان على صورته ومثاله ويجعله مؤتمنًا على الأرض "يَتَسَلَّطَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ، وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الأَرْضِ، وَعَلَى كُلِّ زَاحِفٍ يَزْحَفُ عَلَيْهَا" (اَلتَّكْوِينُ ١: ٢٦). لكن هل تمكّن الإنسان فعلًا من أن يكون على قدر المسؤوليّة الّتي أوكل بها من اللّه تجاه البيئة؟ وهل إستطاع الحفاظ على بيته الّذي وهبه إياه الخالق؟
في الواقع يبدو أنّ بيتنا المشترك ليس بخير إذْ يأتي "موسم الخليقة" والّذي يحتفل به المسيحيّون حول العالم بين 1 أيلول/ سبتمبر وحتّى 4 تشرين الأوّل/ أكتوبر من كلّ سنة، ليدفعنا للعودة إلى الذّات والتفكير بإجابات على هذه الأسئلة؛ خصوصًا وأنّ البيئة اليوم باتت مهدّدة نتيجة أعمال إنسانيّة قد تهلكها. الكنيسة بدورها خصّصت إهتمامًا كبيرًا للقضيّة البيئيّة وعلى مرّ التاريخ لا سيّما وأنّ اللّه حوّل الأرض اليابسة إلى جنّة من صنع يديه. وهذا ما شدّد عليه قداسة البابا فرنسيس في رسالته العامة "كن مسبّحًا" حول العناية بالبيت المشترك.
ما هي إذًا أبعاد هذه الرّسالة؟ كيف ذكر الكتاب المقدّس موضوع البيئة؟ ما هو دور الإنسان لا سيّما الشّباب تجاهها؟ وكيف يبدأ التغيير من أجل الحفاظ على نعمة اللّه البيئيّة؟
كلّها أسئلة يجيب عليها النائب البطريركيّ العام للسّريان الكاثوليك في بيروت سيادة المطران مار ماتياس شارل مراد في مقابلته التلفزيونيّة خلال الحلقة الثّانية من برنامج "أيّام موسم الخليقة" على شاشة تيلي لوميار ونورسات؛ والّذي أطلقته دائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق تزامنًا مع الإحتفال بـ"موسم الخليقة" وللمرّة الأولى في المشرق عبر كتيّب الموسم العالميّ الّذي بادر المجلس بتعريبه.
بدايةً عرّف سيادة المطران شارل مراد بالبيئة عبر ثلاث كلمات وهي الأرض، الجوّ أي السّماء والمياه، شارحًا أنّها المكان الّذي يحيط بالإنسان والمسكن الّذي يعيش فيه. لذا شدّد مراد على "أهمية موسم الخليقة لا سيّما وأنّه بات يشكّل موضوعًا جديدًا لنا ولشبيبتنا... ففي أحاديثنا الرّوحيّة نركّز عادةً على تعاليم الكنيسة والمسيح والرّوح القدس ومريم العذراء والقدّيسين...، لكنّ اليوم يكمن توجّهنا في روحانيّة الخليقة الّتي غالبًا ما نعتبرها موجودة أو ذات أهميّة إن كانت في صلاتنا أو طريقة تفكيرنا".
أمّا في الكتاب المقدّس فأوضح سيادة المطران أنّ كلمة "بيئة" غير موجودة حرفيًّا لكنّ الإنجيل يقدّم لا سيّما في العهد القديم وسفر المزامير... آيات كثيرة تتمحور حول الخلق وتدلّ على أنّ اللّه صاحب الأرض وهو الّذي يديرها..."، ومن هذه الآيات مثلًا "هُوَذَا لِلرَّبِّ إِلهِكَ السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهَا" (سفر التثنية 10: 14)...
وتابع مراد "إن كنّا نصلّي هذه الآيات ونعطي لها بعدًا روحيًّا نكتشف أنّ اللّه هو الخالق خصوصًا في سفر التكوين وقصّة الخلق الّتي تظهر أنّ اللّه هو صاحب الأرض وليس الإنسان". من هنا ذكّر برسالة قداسة البابا فرنسيس العامة "كن مسبّحًا" الّتي تشرح هذه الفكرة داعيًا الجميع إلى قراءتها لأنّها تعرض توجّه الكنيسة حول البيئة والخليقة وكلّ ما فيها من أمور إصطناعيّة وإجتماعيّة وصناعيّة... كما لفت إلى أنّ مار فرنسيس الأسّيزي، صديق المخلوقات والبيئة وكاتب النشيد الخاصّ بها، ألهم قداسة الحبر الأعظم في إختيار عنوان الرّسالة "كن مسبّحًا".
على الرّغم من كلّ الأزمات والهموم الّتي تحيط بنا، يعتبر البعض أنّه ليس من وقت للتفكير بمسألة الطبيعة والحفاظ عليها لكن يرى آخرون أنّ القضيّة البيئيّة مهمّة جدًا من أجل ضمان مستقبل أكثر إستدامة. فهل مفهوم البيئة واضح إذًا لدى النّاس؟ في إجابته، عرض سيادة المطران شارل مراد الواقع البيئيّ الّذي نمرّ به ففي الأساس "ليس لدينا التوازن الكافي لنعطي الطبيعة والبيئة قيمتها. في مفهومنا نعتبر أنّ البيئة محصورة بـ"النّظافة" أي الّا نرمي النفايات على الأرض".
إلّا أنّ الكنيسة تسهم من خلال مبادرات كأيام "موسم الخليقة" في تقديم معانٍ أبعد وأعمق من ذلك، فمثلما يهتمّ الإنسان ببيته الصّغير عليه أيضًا الحفاظ على البيئة الّتي يعيش فيها. "اللّه خلق كلّ شيء وحضّر بيت البشر ليكون الإنسان آخر الكائنات الّتي خلقها كي يعطي له سلطانًا على الخليقة ومسؤوليّة تجاهها. لكنّ الإنسان إعتبر نفسه صاحب الأرض الّتي هي في الأصل ملك اللّه".
رأى سيادته أنّ "موسم الخليقة" يذكّرنا "بأنّ اللّه هو الخالق وربّ السّماء والأرض أمّا الإنسان فهو مؤتمن ووكيل. يظهر العهد القديم وسفر التكوين أنّ الأرض كانت خاوية وخالية واللّه حوّلها إلى جنّة أمّا الإنسان فيجعلها مرّة جديدة خاوية وخالية وهذه هي خطيئته". أضاف أنّ قداسة البابا فرنسيس يتحدّث عن التوبة "فعندما أتوب أفهم قيمة الأرض خصوصًا أنّ الفساد الّذي يطيح بها جاء بسبب خطيئة الإنسان، وذلك من خلال إستخدامه الأسلحة والمواد الكيميائيّة وتسبّبه بالحرائق والحروب والشّرّ... هكذا يقتل الإنسان البيئة الّتي قدّمها اللّه".
أضاف مراد "الفكرة الأساس من رسالة قداسة البابا فرنسيس "كن مسبّحًا" تكمن في مسؤوليّتنا تجاه ما سنورث للأجيال المقبلة. من هذا المنطلق يدعونا "موسم الخليقة" إلى التفكير بالأرض الّتي منحها اللّه لنا أمانة فبدورنا علينا الحفاظ عليها وحمايتها".
يتحدّث كُثر من سكّان الأرض عن سُبل العمل من أجل الحدّ من تدمير البيئة لكن سيادة المطران مراد يعتبر بدايةً "أن علينا إعادة النّظر في تربية الأجيال الجديدة، ليس فقط من الناحية الرّوحيّة والإجتماعيّة وإنّما أيضًا من الناحية البيئيّة، لا سيّما وأنّ الثقافة البيئيّة تبدأ بتربية وتوجيه الأهل لأولادهم". من هنا لفت إلى أنّ "قداسة البابا فرنسيس يركّز على عمل الشّبيبة وشجاعتهم وإندفاعهم فيعتبر أنّه بإمكانهم تحقيق التغيير بطريقة أسرع وأسهل على عكس الأطفال الّذين لا يملكون الإرادة الضروريّة".
"جميعنا إخوة وأبناء للأرض نفسها" تابع وأضاف "اللّه وضع الكنيسة في بيئة، المسيح والرّسل عاشوا على الأرض والإنسان خُلق من الأرض فهو إبن البيئة والخليقة". أمّا مسؤوليّة الإنسان المؤمن المسيحيّ فتكمن في الحفاظ على "الأمانة الّتي منحها اللّه لنا كي تبقى الأرض جنّة ترثها الأجيال المقبلة حتّى إنقضاء الدهر. للأسف يشوّه الإنسان بيئته، لذا أنذر قداسة البابا فرنسيس والمنظّمات المعنيّة من هذا الخطر. إذًا "بعدم إحترامنا للإنسان الآخر نشوّه الأرض، وبعدم إحترام الأرض نشوّه إرادة اللّه، وهنا تكمن خطيئتنا. دعوة الإنسان تكمن في تقديس الأرض، لذلك خلقه اللّه وأعطاه سلطانًا وجعله مسؤولًا".
بقلب مفعم بالأمل، أنهى سيادة المطران شارل مراد حديثه رافعًا الصّلاة على نيّة بيتنا المشترك كي نتذكّر جميعًا أنّنا أبناء هذه الأرض وأنّنا مسؤولون عن الحفاظ عليها على الرغم من كلّ الظّروف الّتي نعيشها. عندما نصلّي علينا أن نشكر اللّه على الهبة الّتي منحها لنا". وختامًا دعا الجميع إلى الصّلاة على هذه النيّة كي ندرك قيمة خليقة اللّه ونباشر في إحترامها وتقديسها.
دائرة التواصل والعلاقات العامة