سنة على إنفجار بيروت
حقيقة صاعقة أخرى، والمذنبون كُثر
هذا المقال متوفّر أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
في الذّكرى السّنويّة الأولى لإنفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، أصدرت دائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق الأوسط عددًا خاصًّا من مجلّة المجلس الفصليّة "المنتدى" في آب/ أغسطس 2021، تحت عنوان "بيروت في قلب الكنيسة، بيروت قيامية!". في العدد مقال بقلم السكرتيرة التنفيذيّة للأمين العام للمجلس السيّدة سيتا هاديشيان تروي فيه أصعب الذّكريات عن بيروت ولبنان الحلم.
بقلم السيّدة سيتا هادشيان
السكرتيرة التنفيذيّة للأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
ولدت في لبنان، وعاصرت عهده الذهبي في الستينيات وأوائل السبعينيات عندما وصل الاقتصاد الى ذروته. كان العمل والمال متوفرًا للجميع، والحياة الثقافية مليئة بالفنون والحفلات غنية، امتلأت المسارح، وكانت معارض كبار الفنانين فخرًا وطنيًا، اكتظّت المطاعم بالناس وتنوّعت المازات على الطاولات مغريةً السوّاح من شتّى أنحاء العالم. جلست النساء المحجبات الى جانب اللواتي ترتدين الفساتين القصيرة، وسمع صوت المأذون يحادث جرس الكنيسة، وكلّما نزات الى الشارع أو ذهبت الى السوق أو ركبت سيارة أجرة، تسمع الناس يتكلمون العربية والفرنسية والانكليزية والأرمنية سواء مع بعضهم البعض أو مع السوّاح! في تلك المدينة التي لا تنام، سمعت أغاني فيروز وأم كلثوم في المحلّات وسيارات الأجرة ناشرةً الحبّ والذكريات. لا يزال الحنين الى مدينة الألف ليلة وليلة وشهرزاد يلاحق اللبنانيين.
هذه الدولة الصغيرة التي بالكاد تظهر على خارطة العالم كان يضرب بها المثل بتعدد ثقافاتها وتعايش مختلف الأديان فيها. دولة شرقية ذات طابع غربي حيث تجتمع ألوان الطبيعة ورائحة الفاكهة والأزهار في نغمة فريدة سميّت "التعايش".
وفجأة، لمعت أبواق الثورة في عام 1975، ودقّت الكنائس والجوامع أجراس الخطر. رسمت الدبّابات في الشوارع خطّ الحدود، وسكتت فيروز وأم كلثوم، وتحوّلت النغمة الى نشاز. قتل التنافر اللوحة الفنية التي امتاز بها لبنان القديم!
هرب الآلاف، وقتل الآلاف، وتعرّض الآلاف للصدمات، تشردت الصغار ومنهم من افترش الشوارع، وحرم كثيرون من طفولتهم... "يا بيروت"... صرخت ماجدة الرومي "قومي، قومي من تحت الردم"... ماسحةً الدموع والدماء ومفجرّةً الآلام في صدورنا.
ولم تتوقف الهجرة من بعدها والبحث عن آفاقٍ جديدة ومستقبل أفضل وراحة البال، أمّا الذين هاجروا، فلم يعودوا، بينما الذين آمنوا بلبنان فبدأوا حياتهم من جديد بعد كلّ أزمة مجدّدين معها آمالهم بغد أفضل.
للأسف، لم يستطع لبنان أن يستعيد قواه منذ عدّة سنوات، ولم يتغيّر شيئًا، بل حطّم 4 آب الآمال المتبقية بلبنان جديد. قتل انفجار دمويّ في مرفأ بيروت 200 شخص، وتسبب بآلاف الجرحى وحطّم المدينة. وعادت النيران والدمار والفوضى. رجفت الناس من الخوف، وهم لا يعرفون ماذا يحصل، ولا كيف ولا لماذا، فهربوا الى الشوارع وهم لا يعلمون أين يذهبون. غطّت الدماء المصابين والموتى وتمزّقت ملابسهم، ونقلوا على أكتاف المارة الى السيارات وثمّ الى المستشفيات. لن ينسى اللبنانيون هذه المشاهد الدموية ولا سياسييهم.
من نلوم؟ من المسؤول؟ لماذا حصل ذلك؟ ما من جواب. لقد التزمت الحكومة الصمت بكل من فيها. لهذا اليوم لم يقل أحد شيئًا، ولم يكترث أحد بالتحقيق، بل طمثوا الأدلّة وكتموا الصوات!
كشف الانفجار عن سنين من الفساد وسوء الإدارة والكذب المستمر والدولة الباطلة والاحتيال والخداع من قبل الفريق الحاكم. بكينا على أطلال آمالنا وأحلامنا، وعلى وهم دولتنا، وفساد وخداع مسؤولينا، وتفكك مؤسساتنا الذين ساهموا جميعهم بقتل وطننا الحبيب.
لكن لمن تقرع الأجراس؟
ما من حوار، ولا تنازلات، ولا آراء، ولا رحمة، ولا خجل، ولا مبادئ، ولا أمانة... فالنظام بأجمعه متورّط بجريمة اغتيال الوطن!
لكن أين نحن، اللبنانيين؟
للأسف، لسنا لبنانيين. نحن موارنة وسنّة وشيعة ودروز... 18 طائفة تريد كلّ منها دولة مفصّلة على قياسها! اللبنانيون يعيشون في وطنهم مشرّدين، عاجزين وفقراء بكلّ ما يملكونه من كنوز.
لبناننا الذي درسنا عنه وكبرنا فيه وأحبّبناه لم يعد موجودًا.
يا لسخرية القدر!