"صعد إلى السّماء وجلس عن يمين اللّه الآب"
في عيد الصّعود ارتباط للأرض بمجد السّموات
"... سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ" (أعمال الرسل 8:1)، هذا ما قاله يسوع المسيح لتلاميذه في جبل الزيتون - أورشليم، ووعدهم بأنّهم سيحصلون على نعمة الرّوح القدس الّتي تجعلهم أكثر قربًا من ملكوت اللّه.
بعد ذلك بارك يسوع تلاميذه وبدأ يصعد إلى السّماء "وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ" (أعمال الرسل 9:1)، بدورهم حاولوا إلقاء نظرتهم الأخيرة عليه الّا أنّ سَحَابَةٌ غطّته وأَخَذَتْهُ عَنْ أَعْيُنِهِمْ (أعمال الرسل 9:1)، ليظهر بالتّالي ملاكان يعِدان بعودة يسوع بالطريقة نفسها الّتي صعد بها إلى السّموات "أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ" (أعمال الرسل 11:1).
حدث الصّعود الإلهيّ هذا حصل بعد 40 يومًا من قيامة يسوع المسيح من بين الأموات ظاهرًا "نفسه حيًّا" (أعمال الرسل 3:1)، بعد إتمام عمل الفِداء وخلاصه للبشريّة، حيث صعد الى السّماء وعاد إلى أبيه ليرتقي بالبشريّة إلى حضن الآب السّماويّ. علمًا أنّ الحدث هذا تمّ ذكره في إنجيل لوقا الإصحاح 24 وسفر أعمال الرسل 1 وله أبعاد عدّة.
تَحتفل الكنيسّة الكاثوليكيّة بعيد الصّعود هذه السّنة في 13 أيّار/مايو، فيما تحتفل به الكنيسة الأرثوذكسيّة في 10 حزيران/ يونيو ويُعتبر حدث الصّعود تمجيدًا ليسوع المسيح، إبن اللّه وكلمته، الّذي عاد إلى السّموات، مسكن الألوهيّة من حيث نزل، مُفتقدًا البشر وراحمهم. فبالصّعود والنزول ارتبطت السّماء بالأرض، "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ" (يوحنّا 1: 51). كما أنّ بالصّعود هذا أنجز يسوع مهمّته وجلس عن يمين اللّه ليُتوّج ملكًا وسلطانًا ويصبح له السّيادة على الكون، "فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلًا: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ" (متّى 28: 18).
من هنا يشدّد القدّيس بولس الرّسول على الغلبة الّتي حقّقها يسوع المسيح بالصّلب والطاعة الّتي تميّز بها. وفي الصّعود يكمن أيضًا الدخول النّهائي لناسوت يسوع المسيح إلى بيت اللّه السّماويّ أي من المقرّ الّذي سيعود منه، هو الّذي ارتدى الجسد وظهر كإنسان، وقام من بين الأموات. إذًا يشكّل الحدث الإلهيّ هذا تمهيدًا لرجوع السيّد المسيح في مجيئه الثّاني في آخر الأزمنة حيث سيعود من السّموات كما صعد إليها.
يتجلّى الصّعود أيضًا بتمجيد الكنيسة لحلول الرّوح القدس، حيث صعد يسوع إلى السّماء وأرسل الرّوح هذا ليحلّ بين تلاميذه كما سبق ووعدهم في جبل الزيتون. بالتّالي لم يعد الربّ يسوع كائنًا موجودًا مع البشر بشكل محدود بل أصبح في داخلهم بطريقة غير محدودة. في هذا السّياق يتوجّه القدّيس بولس الرّسول إلى أهل أفسس في رسالته قائلًا "لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ..." (أفسس 17:3).
كما أنّ الصّعود الإلهيّ جاء ليشفع يسوع المسيح بالبشر في حضرة اللّه، "لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللّهِ لأَجْلِنَا" (عبرانيّين 24:9). إذًا، تقدّم الرّسالة إلى العبرانيّين حدث الصّعود في إطار تطلّعاتها إلى عالم سماويّ يتحقّق فيه الخلاص، حيث يصبح يسوع المسيح الوسيط الوحيد الضامن لحلول الرّوح القدّوس، هو الّذي "بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" (عبرانيّين 3:1). من هنا صعد يسوع إلى بيت أبيه ليهيّء للبشر مكانًا لهم، "لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ، فَآمِنُوا بِي أَيْضًا. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ كَذلِكَ لَقُلْتُ لَكُمْ! فَإِنِّي ذَاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا (يوحنّا 14: 1-2)؛ ليعود إليهم ويأخذهم معه إلى ملكوت الآب ويبقوا معه إلى الأبد.
أيقونة الصّعود
أيقونة الصّعود الإلهيّ تقدّم حدثين، صعود الربّ ومجيئه الثّاني، حيث تركّز على حضور الملائكة الّذي يتجسّد في جزئين تكمن فيهما معان عدّة. من ناحية يظهر ملاكان خلف والدة الإله بين تلاميذ يسوع على الأرض للتذكير بوجودهما في جبل الزيتون عند صعود الرّبّ حيث وعدا تلاميذه بأنّه سيعود إليهم بعد ارتفاعه عنهم إلى السّماء. علمًا أنّ لون لباسهما هو الأبيض، لون النّور الّذي انتصر على الظّلمة، ودلالةً على امتداد حدث القيامة. من ناحية أخرى، يكمن وجود ملاكان، أو أحيانًا أربعة، أيضًا في الجزء الأعلى من الأيقونة حيث يرافقان يسوع في صعوده، فلون لباسهما يتفاوت بين الأيقونات ليكون النَّبيذِي أو الذَّهَبِيّ أو الأَخضَرِ أو الأَزرَق... وليرمز إلى المَجدِ الإلهِيِّ أيّ لِلمَسيحِ، الأُقنُومِ الثَّاني مِنَ الثَّالُوثِ القُدُّوس. إذًا تشبه مرافقة الملائكة هذه "مُرافَقَةُ المُتأهِّبِينَ وَالخُدَّامِ للمَلِك"، مُعلنين " وُصولَ الرَّبِّ المُنتَصِرِ إلى المَلَكُوتِ".
وفي محاولة لإحياء حدث صعود الرّبّ إلى السّماء تمّ بناء مزار على قمّة جبل الزيتون في القُدس. وعام 378 أنشأت السيّدة بومينا، إحدى أفراد عائلة الإمبراطور، كنيسة بيزنطيّة سُمّيت "امبومن" أيّ "على المرتفع"، على شكل بناء دائري من دون سقف بهدف إرشاد النّاس إلى طريق السّماء، في وسطه الصّخرة المباركة حيث ارتفع يسوع المسيح تاركًا أثر قدمَيه. أمّا عام 614 فهدّم كسرى ملك الفرس مزار الصّعود، ليقوم غبطة البطريرك مودستس عقب سنتين بترميم الكنيسة. الّا أنّ عام 1009 هدمت الكنيسة مجدّدًا بأمر من السّلطان الفاطمي الحاكم بأمر اللّه منصور بن العزيز، ليتمّ في القرن الثّاني عشر تشيّيد كنيسة مثمّنة الشّكل على يد الصّليبيّين على الأنقاض، في وسطها بناء مستدير يكمن في داخله مذبحًا يقع فوق صخرة الصّعود.
مع مرور الأعوام، دمّر صلاح الدين الأيّوبي الكنيسة عام 1187، حيث بقي المزار الصّغير صامدًا في وسط السّاحة. علمًا أنّ المسلمين بنوا قبّة للمزار عام 1200 من دون أن يُنصب عليها صليب أو هلال بل تمّ وضع عمود رخاميّ علامةً على أنّ المزار يشكّل مكان صلاة لكلّ المؤمنين. من هنا يتوجّه الآباء الفرنسيسكان إضافةً إلى الآباء والمؤمنين من الطوائف كافّة كالرّوم الأرثوذكس والأرمن والأقباط والسّريان، سنويًّا إلى المزار هذا عشيّة عيد الصّعود ليمضوا اللّيل في الخيم ويجتمعوا جميعًا مع الشّعب صباح العيد بهدف المشاركة في الإحتفالات الدينيّة والصّلوات الخاصّة.
دائرة التواصل والعلاقات العامة
المراجع:
موقع زينيت: https://bit.ly/3bbQEfS
موقع بوّابة الفجر: https://bit.ly/33sC1Rd
صفحة بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس على موقع فيسبوك: https://bit.ly/3vNtgNC