ترميم كنيسة القديس ميسروب ومدرسة اسحاقيان
منارة تُعيد المهجّرين إلى أرضهم
لو كان للحجارة أن تنطق، لأخبرنا بناء مدرسة اسحاقيان وكنيسّة القدّيس ميسروب حكايةً تعود بدايتها إلى العام 1915، عندما عَبَر الأرمن الصحراء السوريّة هربًا من جريمة الإبادة التي نفذّتها ضدّهم السلطة العثمانيّة، وقدموا إلى مدينة حمص القديمة حيث وجدوا ملجأً آمنًا لهم.
وما كانت لتنتهي الحكاية هنا، بل تُكمل لتحكي عن ظلمٍ تجرّعه الشعب الأرمنيّ في سورية مع الشعب السوري عمومًا مرتين، مرّةً عندما هَدمت الحرب ممتلكاتهم وجنى العمر، ومرّةً أخرى عندما طالت حضارتهم، إذ تهدّم جزء كبير من الأبنية الأثريّة، وما سلم من الهَدم الكلّي هُدم بشكل جزئيّ أو هُجِرَ بعد أن هُجِّر الناس قسرًا.
شيّد بناء مدرسة اسحاقيان الخاصة وكنيسة القديس ميسروب في العام 1920، لمساعدة الأرمن الذين استقرّوا في حمص وباشروا بالإنخراط في الحياة العامّة وممارسة مهنهم في المدينة.
تعتبر مدرسة اسحاقيان من المدارس الخاصة النموذجيّة، إذ يصل عدد الطلّاب في الصف الواحد إلى 22 طالبًا وطالبة بينما تتسّع المدرسة لنحو 225 طالبًا، كما يصل عدد الكادر الإداري والتدريسيّ إلى 30 موظفًا.
خلال الحرب التي شهدتها سورية، اضطّر سكان مدينة حمص القديمة إلى النزوح من بيوتهم بسبب أعمال العنف، فهُجرت المدرسة والكنيسّة حيث استخدمها المسلّحون كمشفى ميداني لهم، وأصاب الخراب البناء الذي يضمّ المدرسة والكنيسة.
حياة مشتركة يسودها الأمان
راعي مطرانيّة الأرمن الأرثوذكس لأبرشيّة دمشق وتوابعها، سيادة المطران آرماش نالبنديان وفي حديث خاص معه يروي ما حصل إبّان الحرب يقول: "الحرب دمّرت أكثر من 70% من حمص القديمة، كما هدمت الحياة الإجتماعيّة للسكّان الذين إقتلعوا من بيئتهم قسرًا وتشتّتوا في أماكن مختلفة من سورية وخارج سورية أيضًا، ونحن نخشى ألّا تعود الأسر المهاجرة إلى سورية، لذلك كان همّنا الأوّل بعد تحرير حمص هو إعادة ترميم الكنيسّة".
أضاف، "خلال الحرب كنّا نتابع أحوال رعيّتنا من خلال التعاون مع مسؤولي الكنائس الشقيقة في الأماكن التي لجأوا إليها. كما كانت المساعدات الإغاثيّة ثمرة هذا التعاون، وهذه المساعدات كانت على شكل سلال غذائيّة وصحيّة وإيجارات للمنازل".
عن ترميم الكنيسة والمدرسة قال: "نحن كشعب أرمنيّ لدينا تجربة مؤلمة بالإبادة الأرمنيّة وتشتّت الأرمن في كل أنحاء العالم، واليوم عاد وتشتّت الشعب الأرمنيّ مع الشعب السوري، ومن هنا تأتي أهميّة إعادة ترميم الكنيسّة والمدرسة لإعادة الحياة الاجتماعيّة والقوميّة لأهالي حمص القديمة ولرعيتنا".
وأضاف، "الكنيسّة والمدرسة ستكونان منارة تعيد الأهالي إلى مدينتهم وحَيِّهم، إذ ستُؤمّن المدرسة فرصة تعليم للطلّاب وفرص عمل للأهالي، وهذا سيشجّعهم على العودة. سنعمل على تنظيم القداديس في الكنيسة وتنظيم مشاريع تنمويّة للسكان الذين يعانون من وضع معيشي صعب، إذ سنستفيد من صالة الكنيسة في تنظيم لقاءات للشبيبة ولسكان المنطقة من كل الأديان ليتعرّفوا على بعض ونبني التفاهم ونؤسّس لحياة مشتركة في جو سلام وأمان. كما سنعمل أيضًا على تنظيم دورات مهنيّة للنساء والشباب مثل: الخياطة والتطريز والتصوير والكومبيوتر، إلى جانب دورات لتعلّم اللغات ودورات تعليمية للطلاب تحت إشراف معلمات لحل الوظائف البيتية اليومية".
ختم المطران آرماش حديثه بتوجيه رسالة إلى الأخوة في هولندا قائلاً: "تجربة الحرب صعبة ومريرة، وأكبر خسارة لنا هي هجرة أبنائنا من سورية، لذلك يجب على الكنيسة أن تكون قويّة لتعطي القوة لأبنائها لئلا يهاجروا ويتركوا أرضهم. لذا أشكر مجلس الكنائس وكنائس هولندا على هذا التعاون المسكونيّ الجميل، الذي يقويّ كنيستنا في مواجهة نتائج الحرب ويسمح لنا بإعادة بناء مراكزنا الكنسيّة والمدرسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة لنكون منارة للشعب ولنكون مركز القوّة ورمز الإرادة لهم فيعودوا إلى مدينتهم وبيوتهم ويبقوا في حمص... أقول بكلمة واحدة شكرًا على هذه المحبّة المسكونيّة".
أمل يعلو دمار الحرب
فاسكين (60 عامًا) يعمل في تجارة قطع تبديل السيارات، وهو من سكّان حيّ الحميديّة في حمص القديمة ويعمل أيضًا كرئيس للّجنة الكنسيّة في حمص، قال: "بعد دخول المسلّحين إلى حيّ الحميديّة في حمص القديمة وجدنا أنفسنا مضّطرّين لمغادرة الحيّ بحثًا عن مكان أكثر أمنًا، فتشتّت أهالي حيِّنا وأهالي مدينة حمص القديمة. مِنهم مَن نزَح إلى ريف حمص إلى قرى وادي النصارى، ومنهم من غادر إلى محافظات أخرى".
أضاف "خسِرنا عملنا كما خسرنا بيوتنا التي اضطرّرنا لمغادرتها دون أن نتمكّن من أخذ أي شيء معنا من ممتلكاتنا. أنا ذهبت مع إخوتي إلى قرية فيروزة، جنوب شرق حمص، حيث وجدنا فرصة للعمل وأرسلت زوجتي والأولاد إلى حلب".
تابع فاسكين: "بعد توّقُف الحرب بدأ الناس يعودون تدريجًا إلى حيّ الحميديّة. القادرون على ترميم منازلهم رممّوها ومنهم من قام بتصليحات بسيطة فقط، إذ أن معظم سكّان الحيّ يملكون بيوتًا خاصّة بهم ولم يعودوا قادرين على تحمّل دفع الإيجارات؛ أما غير القادرين على ترميم منازلهم فقد بقيوا في القرى التي لجأوا إليها".
عن ترميم المدرسة والكنيسّة قال فاسكين: "مدرسة اسحاقيان كانت مدرسة نموذجيّة من حيث التدريس وعدد الطلّاب في الصفّ الواحد. لذا فإنّ الأهالي الذين عادوا إلى الحميديّة يطلبون منّا دائمًا ترميم المدرسة وإعادة افتّتاحها. خلال الحرب والتهجير التحقَ طلاب المدرسة بمدارس أخرى لا تعتبر بمستوى مدرسة اسحاقيان، خصوصًا أنّ عدد الطلّاب ازداد أكثر في تلك المدارس بسبب دخول طلّاب مهجّرين إليّها، وبسبب قلّة عدد المدارس خلال فترة الحرب. هذا بالإضافة إلى أنّ مدرسة اسحاقيان تهتّم بتعليم اللغة الأرمنيّة، وبعد التهجير أصبح الأطفال الأرمن يتعلّمون لغتهم الأصليّة من الأهل وبشكل سماعي من دون تعلّم الكتابة".
كنائس أثريّة
المهندس المشرف من قبل مجلس كنائس الشرق الأوسط، على تنفيذ مشروع ترميم كنيسّة القدّيس ميسروب ومدرسة اسحاقيان، إبراهيم ديب قال: "يضمّ حيّ الحميديّة في حمص القديمة، ثالث أكبر المدن السورية، الكنائس الأثريّة التي تعود لمختلف الطوائف المسيحيّة، ويرجع تاريخ معظم هذه الكنائس إلى القرون الميلاديّة الأولى".
أضاف "مع أواخر العام 2011 الذي شهد بداية الحرب السورية، ودخول المجموعات الإرهابيّة المسلّحة إلى محافظة حمص ومدنها، اضّطر السكان إلى النزوح بحثًا عن بيئة أكثر أمنًا، خصوصًا أهالي حيّ الحميديّة في حمص القديمة الذي يقطنه معظم المسيحيّين، تاركين بيوتهم وكل ما يملكون خوفًا على حياتهم وحياة أطفالهم؛ كانت منطقة وادي النصارى لها الحصّة الأكبر من استضافة هذه العائلات، بينما هاجر بعضهم إلى خارج سورية".
عن أعمال الترميم، قال: "مع توقّف الحرب في أجزاء من سورية ومنها محافظة حمص، اهتمّ مجلس كنائس الشرق الأوسط بترميم بناء كنيسة القديس ميسروب ومدرسة اسحاقيان في حيّ الحميدية في حمص القديمة، خصوصًا أنّ هذا البناء تعرّض لدمار جزئي نتيجة إصابته بالعديد من قذائف الهاون، وكان بحاجة للترميم".
وأكد أن "أعمال الترميم هذه سيكون لها أثر إيجابيّ على سكّان الحيّ القديم الذين سيباشرون بالعودة إلى حيّهم بعد أن يصبح التعليم مؤمن للأطفال ضمن مدرسة اسحاقيان، بالإضافة إلى تأمين فرص عمل ضمن المدرسة التي ستحتاج إلى كادر تدريسي وإداري".
يتطلّع أهالي حمص القديمة إلى اليوم الذي تتّم فيه إعادة ترميم مبنى كنيسة القديس ميسروب ومدرسة اسحاقيان، فهذا يمنحهم الأمل بأن الحياة ستعود إلى طبيعتها كما قبل الحرب، وهذا البناء القديم يحمل بين حجارته ذكريات حيٍ بأكمله كان يضجّ بسكانه من أصول أرمنيّة ومن سوريّين.
دائرة التواصل والعلاقات العامة