بين التعايش والوحدة في الحياة: الهويّة المتصالحة مع ذاتها
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
كلّما تقدّم الزمن ونزحت الجماعات البشريّة من مجتمع ضاق بها إلى مجتمع آخر رحّب بها، بحثًا عن حياة كريمة وتحقيق تطلّعات، كلّما اختلطت الشعوب والثقافات ببعضها البعض وتحوّلت المجتمعات الى ما يشبه الفسيفساء الذي يحمل في طياته بذور التفسّخ والفتنة وربما الحروب الاهليّة.
من جهّته لعب التقدّم الإجتماعي وتصاعد نشاطات الناس وتنوّع إنتماءاتها دورًا في زيادة الأبعاد التي تتكوّن منها الهويّة وتعقيد تركيبتها. كما لعبت النظرة الجديدة إلى الحياة والكون في زيادة الإنفتاح عند الإنسان المعاصر وإقباله على اعتناق أفكار ووجهات نظر وتقبّل قيم جديدة لم يكن ليقبلها لسنوات خلت.
هذا المزيج الكبير المتنوّع من العناصر التي تصبّ في الهويّة الفرديّة والجماعيّة يجعل من هذه الهويّة بنيانًا شديد التعقيد وصعب التحليل وفوق كلّ ذلك، صعب الإدارة على الصعيد الجماعي في المجتمعات الحديثة التي تتنوّع فيها الاثنيّات الغريبة عن بعضها البعض والتي تجدّ صعوبة في قبول بعضها البعض كمقدّمة للإندماج في وحدة حياة ومصير.
في بدايات النزوح والإختلاط تكوّن هذه المجموعات في حال تعايش مع بعضها البعض، تعايشًا صلبًا او هشًّا حسب نوعيّة السياسات الحكوميّة في إدارة التنوّع وصيانة السلم الأهلّي من إخفاقات هذا التعايش.
امّا إذا كانت الدولة واعية لخطورة التنوّع الذي لا يحتوي على التناضج، فلا بدّ لها من إرساء سياسات تكامل اجتماعيّ يبقي على خصوصيّات الهويّات الفرعيّة التي يتكوّن منها المجتمع، وفي نفس الوقت يدمج هذه الهويّات في بوتقة سياسيّة - حقوقيّة على أساس عقد اجتماعي يهيّئ ويصون مقولة الوحدة في الحياة والتنوّع في الإنتماء.
ما بين التعايش والإشتراك في الحياة مسار طويل لا يتحقّق إلّا بتصالح أبعاد الهويّة مع بعضها البعض على أساس حقوقيّ - سياسيّ تصونه الدولة العادلة القادرة بالتعاون مع أحزاب ومجتمع مدنيّ تكون أهدافهم صيانة وحدة المجتمع كمقدمّة لتقدّمه ورُقيّه.
دون ذلك حروب ردّة تتخّذ شكل النزاعات على أهداف سياسيّة عامّة بينما هي حروب عنصرّية مُقَنًعَة.