في عيد القدّيسة الشّهيدة بربارة
إنهض أيّها النّائم فيضيء لك المسيح!
الأب أغابيوس: المسيح يسكن سفينتنا ويسكّن كلّ إضطراب عاصف
هذا التقرير متوفّر أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
تقرير ايليا نصراللّه
وسط أمواج من العنف والتكفير وثقافة الكراهيّة والتسليع... نبتعد غالبًا عن جوهر حياتنا الأساس المتجلّي بالإيمان والرّجاء والمحبّة. صحيح لا يمكن أن ننكر هذه الحقيقة لأنّنا نغرق يوميًّا في خضّم عواصف كبيرة تدفعنا بعيدًا عن شاطئ الأمان، لكنّنا متّفقون أنّ لا يمكن الوصول إلى الأمان المنشود من دون التمسّك بالإيمان.
هنا تعود إلى الذاكرة قصّة لطالما ردّدناها من عام إلى آخر لا سيّما في أوائل كانون الأوّل/ ديسمبر، قصّة فتاة "ما اشتهت مال ولا كان يهمّا الجمال" كما نرنّم في أحد أناشيدها. لكن كيف لا يهمّها المال والجمال وهما اليوم بحسب كُثر عنصران أساسيّان لضمان حياة أفضل؟
بطلة القصّة بربارة، إمتلكت ثروة مميّزة تفوق الوصف، إلى درجة تمكّنت من خلالها كسب فرح ملوكيّ لا المال ولا حتّى الجمال تمكّنا من تحقيقه. لكن كيف ذلك؟ كيف تمكّنتِ يا بربارة من الصّمود وعيش الفرح رغم كلّ ما تعرّضت له؟
الجواب يكمن في كلمات النشيد أيضًا "حبّت يسوع المجروح، اللّي حكيو بيغذّي الرّوح". يبقى "الإيمان" إذًا كلمة السرّ في تخطّي كلّ الصّعاب. هذا السّلاح تمسّكت به بربارة لتحثّنا من خلاله على الإبتعاد عن ثقافة الوثنيّة كالمال والجاه والتعلّق بالممتلكات والسّلطة... لإختبار فرح المسيح ومحبّته بمنأى عن الأمجاد العابرة بل سعيًا للعبور نحو الملكوت الآتي.
أين بربارة اليوم؟ أين نجدها في حياتنا ومجتمعاتنا؟ ماذا عن الواقع الّذي نعيشه؟ لماذا يبتعد العديد من الشّباب عن تعاليم الكنيسة ويتّجهون نحو تيّارات مختلفة؟ كلّها أسئلة شائكة حملناها إلى كاهن رعيّة كنيسة النبي إيلياس للرّوم الأرثوذكس الرابية - المطيلب، لبنان، قدس الأب أغابيوس نعوس.
محبّة المسيح أساس الإيمان
في الواقع، يعمد العديد من النّاس اليوم وعلى الرّغم من تمسّكهم بإيمانهم، إلى عدم الإعلان عنه لسبب أو لآخر ترى لماذا؟
يرى الأب أغابيوس أنّ "على الإنسان أن يكون كتابًا مقدّسًا مفتوحًا يقرأه النّاس. الإنسان الّذي يعيش المسيح يبشّر به ويعلن إيمانه به حتّى ولو لم يتكلّم". لكن في الحقيقة بات النّاس وفق الأب نعوس "مرضى بالخطيئة، فنحن ضعفاء الإيمان وترانا نعارك من أجل غنائم عابرة، نقدّم حياتنا من أجلها في وقت لا نحرّك ساكنًا للبقاء مع المسيح في سبيل الحياة الأبديّة الآتية. وهذا ينمّ عن كسل فينا وعن خوف وتردّد، والإنسان الّذي يعيش الخطيئة بعيدًا عن جوّ النّعمة لا يستطيع الإعلان عن إيمانه".
يضيف الأب أغابيوس "من أحبّ المسيح إستشهد من أجله، بشّر بكلمته وأعلن إيمانه به عند الإقتداء. في العقود الفائتة، كُثر أمضوا فترات في السّجون والمحاكم بسبب إيمانهم لكن الرّوح القدس كان يتكلّم فيهم. أمّا نحن فنغرّد خارج سِرب المسيح لأنّنا ضعفاء فيه بسبب خطايانا وما ينقصنا هو مجد الرّبّ. لم نقرّر يومًا أنّنا نريد الإعلان عن إيماننا بل كان الإيمان هذا يظهر وحده".
الخوف عدوّ الإيمان باللّه
ما هي سُبل مواجهة ما أو من يمنعنا من إعلان إيماننا إذًا؟ يرّد نعوس "لا أؤمن أنّ أحدًا يستطيع منع إنسان عن إعلان إيمانه إذا كان لا يخاف. تكمن المشكلة في حياتنا في أنّنا جبناء ونخاف لأنّنا متشبّثون بالأرض. لا يستطيع الإنسان الّذي يحبّ الأرض والتراب أن يعلن ملكوت السّموات. أمّا الّذي يحبّ المسيح فلا يخاف. الشّيطان هو مصدر الخوف.
لذا علينا بحسب الأب أغابيوس "أن نستقوي على الشّيطان كي نكون قادرين على إعلان محبّة المسيح وإيماننا. الإنسان البطل يهرب إلى اللّه فيهرب الشّيطان منه وحينها يصبح إيمانه معلنًا. كُثر ممّن جرحوا في حرب هذه الحياة ربطوا جراحاتهم وتابعوا القتال فنجوا. علينا إذًا أن ننهض ونضمد جروحنا ونتابع المعركة الرّوحيّة ضدّ خطيئتنا. ولنعقد الحلف مع اللّه كي نكون وجوهًا له فيشرق نوره فينا ويضيء نورنا أمام النّاس".
الإيمان طريق للسّلام السّماويّ
السؤال الذي يطرح هنا، تراه من يضحّي ويدفع الأثمان من أجل إبقاء إيمانه حيًّا؟ يجيب الأب أغابيوس مستعيدًا حياة المسيحيّين الأوائل الّذين كانوا "وهجًا للمسيح يسوع، يصلّون، يحبّون اللّه حتّى الثّمالة، يعيشون المعرفة الإلهيّة ويتمخّضون من أجل إقهار الأهواء والشّهوات، مؤمنين أنّ القدّاس الإلهيّ هو لحظات من الأبديّة يعيشونها في الجسد ويخرجون منه مكتسبين أنوارًا حقيقيّة من الضّياء الإلهيّ".
أمّا اليوم "فما من أحد على الأرض يستطيع أن يمنحنا السّلام الداخليّ. هذا السّلام يأتينا من فوق. والإنسان الّذي يعيشه يستطيع أن يشهد ويموت من أجل المسيح. من يخشى معرفة نفسه يبتعد حتمًا عن المعرفة الإلهيّة". لذا يتساءل "كيف يموت الإنسان من أجل من لا يعرفه؟ كلّ من يتهاون في الصّلاة ويظنّ أنّ له باب آخر للتّوبة يكون مخدوعًا من الشّيطان. الإنسان الّذي لا يحبّ ذاته يبذلها من أجل أحبّائه، فالّذي يحبّ ذاته لا يستطيع محبّة اللّه ولا حتّى الموت من أجله. من المهمّ إذًا أن نعرف لمن نموت وكيف نموت لمن نحيا وكيف نحيا لأنّ ثمّة موت يحيي وحياة تميت".
الشّهيدة العظيمة بربارة: نموذج يُحتذى به
بين الواقع الّذي نعيشه وحياة القدّيسة الشّهيدة بربارة تناقضات مختلفة تتجلّى بين التعلّق بالماديّات والتمسّك بالسّموات... كيف يمكننا إذًا أن نعكس إيمان بربارة في ظلّ الظّروف الصّعبة الّتي نمرّ بها؟
يشرح الأب أغابيوس أنّ "القدّيسة بربارة عاشت حياة صعبة في ظلّ الإضطهاد والضغوط الّتي أحاطت بها. لكنّها علمت في قلبها أنّها لا تستطيع معاينة وجه اللّه من دون المرور بتجربتها المريرة. أعتقد أنّ ليس أحد يستطيع سلوك الطريق الإلهيّ دون تجارب. عرف القدّيسون أنّ التجربة موجودة فكانوا يطلبون معونة اللّه كي يبقوا صامدين خلالها ويحوّلونها إلى طريق خلاص. ينسى الإنسان في لحظة كلّ فضيلة لكن عند التجربة تراه مطأطأ الرّأس عائدًا إلى ذاته".
"تقرأ في الكتاب المقدّس أنّ كلّ الأمور تعمل معًا لخير الّذين يحبّون اللّه" يتابع الأب أغابيوس، و"بالتّالي علينا أن نتّكل على اللّه لأنّه بقدر الألم تأتي التعزية. عشقت الشّهيدة القدّيسة بربارة المسيح وكانت تعلم أنّ الظّروف الّتي مرّت بها لا يمكنها أن تثنيها عن عزمها لتكون شاهدةً للمسيح. لذا علينا أن نتشبّه بها لأنّها مثال صارخ لمحبّة المسيح".
وينصح أغابيوس "إن سقطْت أيّها الإنسان مئات المرّات في اليوم عدْ وإنهض وتابع السّير نحو اللّه. كانت القدّيسة بربارة في كلّ سقطة وتجربة تنهض وتقوم وتقول لنفسها قم أيّها النّائم فيضيء لك المسيح، فضياء إيمانها كان يحرق ظلمة الدنيا. يملك الشّيطان قوّة تستطيع أن تطرحنا على الأرض وتأسرنا في الظّلمات. لكن إن كان ذلك مستطاع عند الشّيطان فقدرة اللّه أقوى وأكبر بكثير.
أمّا الحياة المسيحيّة فلم تعدنا يومًا ببحر هادئ إنّما بمرفأ أمين. سيبقى هيجان الخطيئة والشّرور في دنيا الأرض، بحرنا، لكنّ المسيح يسكن سفينتنا ويسكّن كلّ إضطراب عاصف فنصل إليه بالنّعمة كما وصل الشّهداء بالدّم إلى أن غرّدوا في ملكوت السّموات وعاشوا في ميناء الهدوء".
نور الرّبّ لأبناء الملكوت السّماويّ
لكن أين الكنيسة وسط كلّ ذلك؟ يرّد نعوس "النّاس لا يهتمّون كثيرًا بالكنيسة ويبتعدون عن تعاليمها فهي أيضًا مقصّرة. لذا علينا الإستفادة من كلّ الوسائل المتاحة لنا من أجل نشر بشارة الملكوت، فأعظم ما في الوجود هو أن يتقدّس الإنسان، وإن فعل يصبح مقدِّسًا للجماعة كلّها. أمّا الكنائس الّتي تتميّز بروح الصلاة فهي جاذبة حتمًا. لكن علينا نحن أيضًا أن نستقوي بالمسيح يسوع وأن نعاين ضيائه.
ختم أغابيوس "يعيش الشّباب في تخبّط والتجربة تعنف أكثر فأكثر. كلّ شيء بين أيدينا اليوم مشوّه ومزيّف ويحضّنا على الخطيئة. هذا إضافةً إلى أنّ الشّبيبة تبتعد عن تعاليم الكنيسة وتتّجه نحو تيّارات أخرى لأنّها تجذبهم. المسيح يسوع قال لنا، سيأتي كُثر من هنا وهناك ويجذبون الكثيرين لكن لا تخف أيّها القطيع الصّغير، وفي الأرض سيكون لكم ضيقًا لكن ثقوا أنا قد غلبت الأرض والعالم، فلنبقَ فصحيّون قياميّون وإيّانا أن نفضح أو نشترك في إظهار خطايا الآخرين دون أن نتوب عن خطايانا. لنكن شهودًا للمسيح يسوع بصمودنا فيه لأنّه يقويّ وينير ويعرف كيف يجذب النّاس إليه".
الرّبّ يجذب النّاس إليه ويقوّيهم، أمّا نحن كيف يمكننا بدورنا أن نعزّي الآخر ونجذبه إلى الكنيسة ونحن أصلًا ضعفاء على هذه الأرض؟ فلنتمسّك بإيماننا ونجاهد ونلجأ للرّبّ مانح العزيمة والرّحمة العظمى أمام كلّ التجارب، علّنا نتعلّم من القدّيسة الشّهيدة بربارة الّتي تأثّر كُثر بإيمانها المستقيم لا سيّما القدّيسة الشّهيدة يولياني، عروس المسيح والمجاهدة الشّريفة.
دائرة التواصل والعلاقات العامة