في حديث خاصّ بعد انتخابه

غبطة البطريرك رافائيل بدروس الحادي والعشرون ميناسيان بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك:

بعد 30 عامًا أعادني الرّبّ إلى نقطة الإنطلاق من بيروت

أنا لست سوى خادم وكاهن يلبّي طلب المسيح!

هذه المقابلة متوفّرة أيضًا باللّغة الإنكليزيّة.

مقابلة أوغيت سلامة وإيليا نصراللّه

تصوير ماريا كركور

بتسليم كلّي إجتاز رحلته الكهنوتيّة وكان الخادم الأمين الذي أوكله سيّده على الكثير فاختاره بطريركًا على رأس الكنيسة الأرمنية الكاثوليكيّة. غبطة البطريرك رافائيل بدروس الحادي والعشرون ميناسيان بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك يؤمن أن يد الله عليه في كل مرحلة من مراحل رسالته، فالبداية كانت من لبنان مرورًا بالقُدْس والولايات المتّحدة الأميركيّة وصولًا إلى أوروبّا الشّرقيّة، وليعود بعد 30 عامًا إلى نقطة الإنطلاق، بطريركًا على كرسي بطريركي مقرّه في بيروت.  

مع فريق دائرة التواصل والعلاقات العامّة

إنتخابه بطريركًا لكيليكيا للأرمن الكاثوليك بعد إنعقاد سينودس الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة في روما في أيلول/ سبتمبر 2021، وتلقّيه من بعدها الشّركة الكنسيّة من قداسة البابا فرنسيس حمّل ميناسيان صليبًا ثقيلًا صحيح، وهو في الواقع يحمل في قلبه واقع الأرمن في الشّتات ويتمسّك برسالته الأساس الّتي يقول "تقتضي أن نحافظ على أبنائنا لأنّنا وُجِدنا من أجل خدمتهم". وغبطته تعهّد أمام الله والناس أن يخدم كلّ محتاج بقوّة من العناية الإلهيّة لآخر قطرة من دمه.

غبطة البطريرك رافائيل بدروس الحادي والعشرون ميناسيان تعرّض مع بدايات الحرب في بيروت للتهديد والتعذيب والخطر وها هو يعود إليها من دون تردّد فهو لم يخف يومًا لأنّ الله معه، واليوم يلبّي دعوة الرّبّ يسوع المسيح ويسعى إلى قيادة الكنيسة على طريق الشركة والحوار المسكونيّ تبعًا لوصية قداسة البابا فرنسيس في لقائهما الأوّل بعد اختياره بطريركًا.

الخادم الأمين والرّاعي الصّالح تحدّث في لقاء خاصّ مع فريق دائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق الأوسط في مقرّ بطريركيّة الأرمن الكاثوليك في بيروت عن إستراتيجيّته بطريركًا وأبرز خططه في مسيرته الخدماتيّة مختصرًا "أنا لست سوى خادم وكاهن يلبّي طلب المسيح الّذي منحني دعوة خاصّة"!.

غبطة البطريرك، ما هي الرسالة الّتي تحملونها في مسيرتكم البطريركيّة الجديدة؟

الإستراتيجيّة الّتي سأتّبعها في مسيرتي الجديدة تكمن في قبول أيّ إنسان يطرق الباب طالبًا المساعدة. في هذا الإنسان صورة المسيح. وفعل العطاء والمساعدة لا ينجح إذا كان مرتكزًا على الدعاية والبروباغندا إنّما ضروريّ أن نرى في المحتاج صورة المسيح الّذي لطالما نطلب نحن منه المساعدة. من هنا يكمن المبدأ الأهمّ في أن نرى ربّنا في كلّ إنسان معوّز وضعيف ومريض.  

أنا لست سوى خادم وكاهن يخدم ويلبّي طلب المسيح الّذي منحني هذه الدعوة الخاصّة، ألا وهي الكهنوت. هذا الكهنوت لا يقتصر فقط على الإيمان والمعرفة وإنّما هو واجب وشهادة.


"الأهمّ أن نرى الربّ في كلّ إنسان معوّز وضعيف ومريض"

 

غبطة البطريرك رافائيل بدروس الحادي والعشرون ميناسيان وسيادة المطران جورج أسادوريان، النائب البطريركي لكنيسة الأرمن الكاثوليك

برأيكم، ما هي التحدّيات التي قد تواجهكم في مسؤوليّتكم الجديدة؟

عندما تكلّم ربّنا مع تلاميذه قبيل حدث الصّلب قال لهم أنّه إذا إضّطُهِد المعلّم يُضّطهد بالتّالي التّلاميذ. لا تشكّل هذه الإضّطهادات الّتي تأتي بشكل مباشر أو غير مباشر سوى درب الصّليب الّذي علينا أن نمشيه فنتبّع ربّنا في سبيل خلاص نفوسنا ونفس كلّ من نساعد ونخدم. لذلك لا أرى أيّ تحدّيات سوى الإستجابة لإرادة ربّنا من أجل تمرين وتحضير الإنسان لتحمّل مسؤوليّاته من أجل خدمة الكنيسة.

أمّا الكهنوت فيساعدني على إجتياز النّهر المؤدّي إلى الحياة الأبديّة، وكلّما كان النّهر أعمق يكون بالتّالي عبوره أصعب. من هنا تأتي المثابرة في الطريق الكهنوتيّ كي يبرهن الإنسان لربّنا يسوع المسيح في الشّهادة أنّه خادمه وأمين في خدمته، وهذا كلّ ما أقوم به.

في العهد القديم لم يدرك صموئيل مصدر الصّرخة الّتي سمعها وذلك إن كانت من ربّه أو قريبه، لذا من المهمّ أن نلبّي الطّلب لأنّ ربّنا هو الّذي يطلب. لم أتُق يومًا إلى المسؤوليّة وإنّما أُعطيت لي، فلم يعد لي سوى أن أجيب ربّي وأؤكّد له أنّني مستعدّ لخدمته حتى آخر قطرة من دمي.

 

لقد إختبرتم رسالة مسيحيّة وخدماتيّة غنيّة على مرّ 30 عامًا، هل يمكنكم أن تختصروا لنا أهمّ المحطّات فيها؟

منحني الرّبّ طريقًا كهنوتيًّا مشيت خطواته منذ سنوات شبابي الأولى وأنا أكمله اليوم. كانت إنطلاقتي مع بداية مسيرتي الكهنوتيّة، في هذا الوقت كانت الحرب الأهليّة مستعرة في لبنان، تحمّلت خلالها كلّ الأشواك والمصاعب، تحمّلت حتى أصعب الأوقات الّتي مرّت عليّ في بيروت، في كنيستنا في منطقة الدبّاس، حيث تعرّضت للتعذيب وخطر الموت، لكن الربّ إلهنا كان الحامي والقائد في هذا الطريق.

أمّا الخطوة التّالية الّتي أراد ربّي أن أخوضها فتُرجمت في الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث كانت الجالية كبيرة ونشيطة وعطوفة. رافقت حوالي 3 آلاف عائلة في كاليفورنيا، كانت النّشاطات كثيرة والعطاء كبير. بعدها رأى الرّبّ أنّه حان الوقت كي أنتقل إلى مرحلة جديدة، فقال لي أتريد أن ترى أين صُلبت؟ وأرسلني إلى حيث صلبوه كي أشهد على حبّه الكبير وعلى المرارة الّتي عاناها الشّعب آنذاك وما زال، فعيُّنت خادمًا للقدس طيلة 6 أعوام.

بعدها أراد الرّبّ أن يرسلني إلى حيث المحرومين من الحياة الروحيّة في أوروبا الشّرقيّة ولتكون محطة جديدة للتبشير، تمامًا كما أمر رُسُله أن يذهبوا ويبشّروا ويُتلمذوا. طبعًا كانت الحياة هناك صعبة لكن التعزيّة كانت كبيرة لأننّي لم أجد إيمانًا أقوى من ذاك الإيمان المعبِّر لدى الشّعوب في أوروبّا الشّرقيّة حيث أمضيت 10 أعوام. حتى انّني لم أجد مثل ذاك الإيمان لا في الولايات المتّحدة الأميركيّة ولا في أوروبّا أو القدس ولا حتّى في لبنان.

رسالتي في أوروبّا الشّرقيّة كانت الأوسع وقد طاولت أكثر من 600 ألف أرمنيّ كاثوليكيّ موزّعين بين روسيا وجورجيا وأرمينيا وأوكرانيا وبولونيا وهنغاريا... في كلّ هذه المناطق تجدون جماعة أرمينيّة كاثوليكيّة تنتظر بلهف أن يأتي إليها كاهن ويخدمها.

 وبعد 30 عامًا أعادني الرّبّ إلى نقطة الصّفر ونقطة الإنطلاق، إلى لبنان، كي ألبّي دعوته وأتسلّم رسالتي الجديدة.

 

غبطة البطريرك، كيف يمكن  للمسيحي اليوم أن يرسّخ إيمانه وسط كلّ هذه الظّروف الصّعبة الّتي نمرّ بها؟

تكمن الشّهادة في الحياة التقشّفيّة وفي الحياة التي مُنحت له، لذا على الإنسان أن يكون جاهزًا دائمًا، بابه مفتوح للجميع، أيّ للغنيّ والفقير والمسنّ والشّاب... ها نحن نستقبلهم جميعًا بالمحبّة والأبوّة نفسها ونستمع إليهم ونساعدهم لإيجاد الحلول فتكون لهم حياة متوازنة ومتكاملة مع الكنيسة. اللّجوء إلى الكنيسة لا يقتصر فقط على وقت الحاجة وإنّما في كلّ الحالات، الحلوة والمرّة منها، وعلينا أنّ نستمرّ في السّير مع الربّ دائمًا وأينما كنّا.

هذه الصِّلة هي الّتي تجمع أفراد العائلة روحيًّا، فيتشاركون كل شيء، لا سيّما في حال تواجدهم في مدن أو بلدان مختلفة، إذْ يكفي أن تذكر إسمًا منهم لتكشف فيض المشاعر من صميم القلب، مشاعر العطف والحنان والشّوق إلى بعضهم البعض. من هنا علينا أن نتماسك كي نحافظ على وحدة هذه العائلة الرّوحيّة.

بالطبع لقد أثّرت نكسة ناغورني كاراباخ معنويًّا ونفسيًّا على الأرمينيّين. وهنا في المناسبة أستعيد ما قاله لي قداسة البابا فرنسيس إبان لقائنا الأخير أنّ الأرمن "معلّمين" فوسط المشاكل يجدون الحلّ لأزماتهم دائمًا. صحيح أنّنا خسرنا جبهة لكننا لم نخسر الحرب لأنّنا تمسّكنا بإيماننا وجاهدنا لحماية عائلاتنا وأولادنا الّذين صمدوا. حتى شهدائدنا هم جزء أساس من حياتنا اليوميّة.

 

هل من أنشطة مرتقبة أو خطّة مستقبليّة على صعيد الجاليات الأرمينيّة الكاثوليكيّة؟

في العادة ننظّم سنويًّا ومنذ أعوام أنشطة تهدف إلى تعريف الرّعايا والعائلات والمسنّين والشّبيبة على بعضهم بعضًا. علمًا أنّ أكثر من 1200 شاب وشابّة من مختلف أنحاء العالم يجتمعون سنويًا كل مرّة في أحد البلدان كأرمينيا هذه السّنة مثلًا وروسيا السّنة المقبلة وربّما لبنان في السّنة الّتي تلي أو أي بلد يضمّ جاليات أرمينيّة كاثوليكيّة. كذلك ننظّم لقاءات شبابيّة مع مختلف الطوائف لنتشارك التحدّيات الّتي تواجهنا ونبحث في سُبل إجتيازها.

منذ 3 أعوام ونحن نركّز في عملنا على ثلاث كلمات فقط وهي الألوهيّة والإنتماء والشّهادة، ونحاول درس معانيها والتعمّق في أبعادها كي تصل الشّبيبة إلى الشّهادة الحقيقيّة.

 

ما رأيكم بالواقع الّذي تعيشه الشّبيبة اليوم؟ وما هي الكلمة الّتي تتوجّهون بها إليهم؟

إلى الشّبيبة أتوجّه وأقول: كونوا دائمًا فَرحين، والأهمّ في حياة الإنسان أن تبقى يده بيد الله. في المصاعب والشّدائد لا تخافوا لأنّ الرّبّ معكم، وهو الّذي ينقذكم ويقودكم.

إلى الشّبيبة أتوجّه وأقول: كونوا دائمًا فَرحين، والأهمّ في حياة الإنسان أن تبقى يده بيد اللّه

في هذا السياق أسرُد قصّة شاب كان يتذمّر دائمًا من ثِقلِ صليبه، إلى أن حنّ الرّبّ عليه يومًا وسأله عن سبب تذمّره وعذابه، أجابه الشّاب بأنّ صليبه ثقيل ولا يمكنه تحمّله بعد الآن، فأخذه الرّبّ إلى غرفة ملآى بالصلبان ليبحث فيها عن صليب يناسبه كما كلّ خليقة في هذا الكون. إختار الشّاب صّليبًا صغيرًا وخفيفًا وقال للرب هوذا الصّليب الّذي أريد وكانت مفاجأته عندما ابتسم له الربّ وقال؛ كان هذا في الأساس صليبك با بُنيّ!.

في المحصّلة ومهما إشتدّت الظّروف على الإنسان والشّباب خصوصًا، أن يعرفوا أنّ الرّبّ لا يعطينا أصعب ممّا يمكننا تحمّله. ومع هذا الصّليب تذكّروا دائمًا كلمة المسيح في الإنجيل، هذا الصّليب الّذي يمنحه الرّبّ للإنسان كي يتمرّس ويتمسّك بالإيمان، وبالتّالي لا تخف وتشعر بالخطر بل إتّكل دائمًا على الرّبّ، فكلّنا فقراء أمام نِعَمِه.

إلا أنّني أرى أنّ الشّباب يفتقدون اليوم للمثابرة ويتوقون للحصول على كلّ ما يريدونه بسرعة. معظمهم يبحث حتى عن الحلّ الفوريّ الّذي يُمكن ألا يوصلهم إلى نتيجة سليمة. برأيي على الشّباب أن يدركوا أولًا أهميّة الإنتماء إلى الأرض والوطن والكنيسة.

 

كيف يمكنكم إذًا تحفيز الشّباب على المثابرة والتمسّك بحضورهم؟

لقد عشت في أرمينيا، في هذا البلد المحاصر من كلّ الجهات والّذي يفتقد إلى الأسواق وسبُل الإنفتاح على العالم. لدينا في أرمينيا بساتين كثيرة نحصد منها محاصيل كبيرة ولكن لا يمكننا تصديرها إلى الخارج. لذا بدأنا نحوّلها ونخترع منها منتوجات غذائية نستفيد منها في منازلنا وفي المحيط الّذي نعيش فيه. كما ابتكرنا أفكار جديدة كما فعلنا في إحدى الجمعيّات التي تحتاج للمساعدة حيث نفّذنا أشغال يدويّة حرفيّة وعرضناها على منصّات التواصل الاجتماعي للبيع. بعنا الكثير منها عبر منصّات شكّلت حلًا لنا وبابًا وحيدًا هو متاح غالبًا للجميع. كان كافيًا أن ننشر الحِرَف اليدويّة كالحفر والرّسم على الخشب مثلًا الّتي كنت أقوم بها مع الأطفال الأيتام الّذين كنت أهتمّ بهم على المواقع الإلكترونيّة لنتلقّى طلبات كثيرة من ألمانيا وسويسرا وفرنسا وإيطاليا... أمّا الإيرادات الّتي كنّا نحصل عليها فكانت تعود للأطفال أو لأقربائهم. إذًا الفرص ليست معدومة والمهمّ هو الإيمان بدورنا والتمسّك بهويّـتنا وحضورنا أينما كنّا، والأهم عدم اليأس والمثابرة.

في الوقت نفسه، المشكلة ليست في نقص الإرشاد إنّما النّقص يكمن في الإصغاء لأنّ الكلمة تُنشر والإرشاد يُعطى. المشكلة هي في الإصغاء وفي المشاركة للسّير قُدُمًا.

 

ما هي تحضيرات الكنيسة الأرمينيّة الكاثوليكيّة في إطار العمل من أجل السّينودس الّذي دعا إليه قداسة البابا فرنسيس؟ وكيف تصفون العلاقة بين العلمانيّين والمكرّسين اليوم؟

بدأنا العمل في ورشة السّينودس ووزّعنا اللّجان في أوروبا وأوروبا الشّرقيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة والمنطقة. نحن في مرحلة التحضير وأعتقد أنّ الرّسالة السّينودسيّة ستبدأ مع نهاية السّنة. في كل الأحوال سنلتقي إلكترونيًّا في 16 الشّهر الحاليّ للبحث في النقاط الّتي يجب التركيز عليها.

أمّا مشكلة الثّقة بين العلمانيّين والمكرّسين فمطروحة اليوم بين كلّ العائلات الروحيّة، والمكرّسين أو كلّ من مُنح دعوة كهنوتيّة هم كالنّحل. الكاهن أو المكرّس هو كالنّحلة الأولى الّتي تموت لتعطي بموتها نقطة العسل، وهذه هي البطولة والشهادة.

 

غبطة البطريرك ميناسيان، ما رأيكم بالعمل المسكونيّ اليوم، وهل ستشجّعون هذا البُعد في مسيرتكم الجديدة؟

تتجسّد الفكرة الأولى من العمل المسكونيّ في تقريب المسافات وابتكار التسهيلات اللّازمة والتضحيات لتعزيز ودعم هذا المسار. لكن بالطبع وحدها نعمة الربّ الّتي تعمل بيننا وليست إرادة البشر. بالنّسبة لي من المفروض أن نكون معًا مع ربّنا كي تتحقق وحدتنا في الكنيسة الواحدة.

 

دائرة التواصل والعلاقات العامّة

Previous
Previous

نحو الجمعيّة العامّة الثانية عشرة

Next
Next

تعزيز معنويّات الأطفال وقدرتهم على الصّمود في مواجهة الصّعاب