لولا اندفاع المتطوّعين لقُتِلت بيروت مرّتين
تحقيق ايليا نصراللّه
زلزال الرّابع من آب/ أغسطس ضرب قلب العاصمة بيروت في وقت كانت البلاد تغرق في دوّامة من الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والصحيّة... ذاك المساء قلب المقاييس، عاش اللّبنانيّون خلاله ساعات عصيبة داخل غيمة سوداء مأساويّة.
لكن بعد أوّل شروق شمس، هبّ اللّبنانيّون، إلى شوارع العاصمة المنكوبة التي لطالما كانت ملتقىً للشّعوب والحضارات، وأمام مشاهد الدمار الهائل، توحّدوا لإنقاذ عاصمتهم الجريحة، في غياب تام للدولة. إذْ، لم يقبل الشّعب اللّبناني، لا سيّما الشّباب، أن تدفن أحلامهم في هذه الشوارع الّتي تحولت إلى ما يشبه ساحات حرب، بل أرادوا زرع الأمل كي تستعيد بيروتهم أنفاسها من جديد.
متطوّعون أسرعوا لإزالة الرّكام والزجاج... وحتّى إلى دعم المتضرّرين نفسيًّا وماديًّا. بقيوا وحدهم في الساحات المدمرّة إلى حين بدأت الجمعيّات والمؤسّسات المعنيّة بإطلاق خطّة الكوارث وتنظيم العمل ميدانيًّا من خلال الإمكانات المحدودة المتاحة لها. إضافةً إلى العمل الدؤوب الّذي لم يتوقّف متطوّعو الدفاع المدني والصّليب الأحمر اللّبناني عن القيام به حتّى اليوم.
عن هؤلاء المتطوعين ومعهم نتحدث.
عمليّة إغاثة بيروت مستمرّة
بعد شهرين على الانفجار، يواصل المتطوّعون عملهم الإغاثي ميدانيًّا. عادل برباري، شاب لبنانيّ، قرّر أن يكرّس وقته لمساعدة بيروت وأهلها. ففي اليوم المشؤوم، وبعد الاطمئنان عن عائلته وأحبّائه، اتّفق عادل مع أصدقاء له للقيام بجولة معاينة للأضرار في اليوم التالي للكارثة للمساهمة في تضمّيد جراح عاصمتهم وأهلها. يروي عادل "كانت المرّة الأولى الّتي أشعر فيها بانتماء شديد إلى وطني لبنان! أردت أن أقف بجانب المتضرّرين ومساندتهم". لم يكن يتوقّع الشاب المتطوّع أن يرى يومًا بيروت جريحة تصرخ وجعًا، حتّى مشاهد الدمار وشظايا الزجاج الّتي غطّت أرض الجميّزة ومار مخايل، حيث كانوا يجتمعون في أجواء من الفرح والترفيه. وأسفه الكبير كان على مدرسته "القلب الأقدس" في الجمّيزة الّتي لحقت بها أضرار جسيمة مزّقت صفحات من أجمل ذكرياته.
بمبادرة فرديّة، وكغيره من المتطوّعين، قام عادل وأصدقائه، بتنظيف الشوارع والأماكن العامّة وإزالة الدمار والزجاج... وأصعب ما مرّوا به، في البداية، كان غياب التنظيم، "لأنّنا لم نكن ندرك الطرق الأفضل لتنفيذ مهامنا" شرح عادل، إلى حين انضمّ إلى جمعيّة Rise Built Beirut، حيث بدأ التحدّي الأكبر بالنّسبة اليه. إذْ، تمكّن من خلال مهاراته وخبراته في الهندسة الداخليّة، أن يساهم في ترميم المنازل ومساندة الحالات المتضرّرة بشكل منظّم. كما كان حزنه يكبُر كلما استمع الى قصص العائلات التي دخل منزلها كي يعاين الدمار فيها. "كانت المسؤوليّة الأكبر، إضافة إلى مهامي كمهندس داخلي، مساندة كلّ فرد موجوع كي يستعيد أمله دون الشعور بالوحدة وسط المأساة، فكنت أشعر أنّني جزء من هذه القصص المؤلمة". والأكثر إيلامًا بالنسبة له كان مواساة العائلات الّتي فقدت فردًا منها.
عادل دعا اللّبنانيّين إلى البقاء في وطنهم ومواصلة بذل الجهود لإعادة الروح الى بيروت. كما بيّن أنّ الحاجة الأكبر اليوم، إضافةً إلى ترميم الحجر، هي مساعدة المتضرّرين نفسيًّا. فتمنّى من الجمعيّات الّتي تُعنى بالمعالجة النفسيّة أن تضاعف جهودها لمرافقة هذه العائلات الّتي تعرّضت لصدمات قاسية.
قصّة رجل إطفاء لبنانيّ
قام المتطوعون من عناصر الإطفاء بجهد كبير خلال عمليّة الإغاثة خصوصًا في الأيّام الأولى بُعيد الإنفجار، شربل سلامة كان أحدهم. وبينما كان متّجهًا إلى مكان عمله، تلقّى شربل خبر وقوع الكارثة كغيره من اللّبنانيّين، وعلى الفور توجّه إلى مركزه لينطلق مع زملائه إلى الجميّزة ومار مخايل، مستعدّين نفسيًّا لمواجهة تداعيات إحدى أكبر الكوارث. إذْ، كانت مهمّتهم الأوّلى إخلاء المباني من المواطنين، والبحث عن الجرحى والضحايا، فعثروا على جثث عدّة في المنازل كما وجدوا ناجين يرفعون صلواتهم على ضوء الشّموع، حيث طُلب منهم مغادرة منازلهم، بعد أن كانوا رافضين الإخلاء. فور انتهاء هذه المهمّة توجّه فريق الإطفاء، كما روى شربل، إلى مرفأ بيروت، حيث بقيوا هناك 7 أيّام لتنفيذ عمليّة البحث عن ضحايا مبنى الإهراءات، في المكاتب، في الأماكن غير المكشوفة ... ويبدأوا على إثرها بالعمل تحت الأنقاض. وأضاف سلامة أنّ انضمام فرق أجنبيّة لمؤازرتهم ودعمهم في عمليات البحث سرّع المهمّة أكثر بسبب تجهيزاتهم بمعدّات متطورة. فعدد العناصر اللبنانية كان قليل جدًّا نسبة لمساحة المناطق المتضرّرة. كما لم يكن سهلًا عليهم رفع أنقاض مبنى الإهراءات، نظرًا لأساساته المدعّمة وافتقاد الأجهزة المعنيّة إلى المعدّات اللّازمة والمتطوّرة، وإلى التدريب الكافي لمواجهة كارثة من هذا النّوع.
شربل ما زال غير قادر على تخطّي حزنه على الضحايا الّذين سقطوا في المرفأ والّذين عُثر على أشلاء بعضهم حتى بعد أسابيع، كما أن تداعيات الصدمة عليه لم تنته مع مرور الوقت. لقدّ مرّ المتطوّع الشاب بحال نفسيّة صعبة على الرغم من أنّه تدرّب على قاعدة عناصر الإطفاء الأولى في الصحّة النفسيّة أي فصل مشاعرهم خلال عمليّات الإغاثة. إلّا أنّ مشاهد الدمار الهائل في الجمّيزة ومار مخايل الّتي أمضى فيها أجمل الذكريات مع رفاقه آلمته كثيرًا، كما رؤية المسنّين الجالسين أمام محالهم المدمّرة، واقعين أمام مصير مجهول بعد أن دمّرت مصادر رزقهم بشكل كامل جرحت قلبه في الصميم.
بعد هذه التجربة القاسيّة، تمنّى شربل أن تطوّر الأجهزة الرسمية المعنيّة سبُل التنسيق بينها وأن تُمنح سلطة اتّخاذ القرارات المناسبة ووضع خطط حديثة لمواجهة الطوارئ والكوارث. أيضًا انتقل من العمل التطوّعي الميدانيّ الى المشاركة في إنشاء جمعيّة جديدة تعنى بالعائلات الّتي لم تحصل على أي نوع من المساعدات، بالتّعاون مع شركاء دوليّين عدّة، فهو الذي عاش وجع البيروتيين من اليوم الأول وأقسَم على ألّا يستقيل من مسؤولية مساندتهم والوقوف الى جانبهم بأي ثمن.
وسط هذه النكبة، بارقة أمل تتجلّى من خلال العمل التطوّعي الإغاثي ميدانيًّا، علّ بيروت تُبعث من رمادها وتعود الحياة اليها والى كل اللبنانييّن الذين جَرَحهُم جُرحِها في العُمق. صحيح أنّ المساعدات تدفّقت بسخاء من كل الأصدقاء حول العالم على إثر الإنفجار، لكن بيروت بحاجة إلى الكثير من الدعم على الأصعدة كافّة، فهناك عائلات ما زالت مشرّدة حتّى اليوم ومستشفيات لم تتمكّن بعد من استقبال المرضى في العديد من أقسامها... الشتاء يطرق الأبواب وفيروس كورونا أرخى بظلّه على لبنان. فمن يُسعِف اللّبنانيّين؟ ومن يُساعدهم في تخطّي هذه المرحلة العصيبة بغياب المسؤولين؟
دائرة التواصل والعلاقات العامة