عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في افتتاح اليوبيل الذهبيّ لرابطة كاريتاس وعيد الطوباويّ أبونا يعقوب حدّاد الكبّوشي
في التالي عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في افتتاح اليوبيل الذهبيّ لرابطة كاريتاس وعيد الطوباويّ أبونا يعقوب حدّاد الكبّوشي، يوم الأحد ٢٦ حزيران/ يونيو ٢٠٢٢، في معهد الرسل في حريصا، لبنان.
"من أجل كلمتك أرمي الشبكة" (لو 5: 5).
1. بفعل إيمان بطرس بشخص يسوع وبكلمته، ألقى الشبكة بعد ليلٍ مضنٍ حرم التلاميذ من إمكانيّة صيد أيّ شيئ، وقد طلعت الشمس والوقت غير مؤآت للصيد، قبِل بطرس تحدّي الإيمان، وقال ليسوع: "من أجل كلمتك أرمي الشبكة" (لو 5: 5). ولـمّا فعلوا كان الصيد العجيب. فلنلتمس نحن هبة هذا الإيمان ليكون نورًا وهداية لحياتنا وأفعالنا ومواقفنا.
2. على هدي الإيمان وبقوّته، مشت وحقّقت المعجزات رابطة كاريتاس لبنان التي نفتتح اليوم بهذه الليتورجيا الإلهيّة يوبيلها الذهبيّ. وبقوّة هذا الإيمان حقّق ما تعجز عنه الدول الطوباويّ "أبونا يعقوب" حدّاد الكبّوشي الذي نحتفل بعيده، وقد أعلنه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ليكون في 26 حزيران من كلّ سنة، وهو تاريخ وفاته سنة 1954. فلنلتمس شفاعته.
3. على شاطئ بحيرة جنّاشر سمع بطرس مع رفيقيه يعقوب ويوحنّا بني زبدى كلام الربّ يسوع الموجّه للجمع المحتشد لهذه الغاية. وكانوا أنهوا غسيل شباكهم الفارغة من أيّ سمكة. فكان التحدّي الذي وجّهه يسوع لسمعان-بطرس بأن "يتقدّموا إلى العمق ويرموا شبكتهم للصيد". قبل سمعان التحدّي وفعل. "فكان الصيد العجيب، إذ ضبطوا سمكًا كثيرًا جدًّا، وكادت شباكهم تتمزّق، وملأوا السفينتين حتى كادتا تغرقان" (لو 5: 5-7). هذا هو الإيمان-التحدّي الذي لا يخضع لمنطقنا البشريّ، بل لمنطق الله.
4. كاريتاس لبنان قبلت تحدّي الإيمان منذ خمسين سنة واختبرت ثماره غير المتوقّعة، وها هي تكبر وتّتسع في برامجها وخدمتها وسع لبنان، فلنرفع معها ذبيحة الشكر هذه، والتماس مزيدًا من الإيمان.
تأسست كاريتاس في صيدا سنة ١٩٧٢ وحملت تسمية كاريتاس لبنان الجنوبي، وذلك بمبادرة من اساقفة الجنوب، وهمة الاخ اليسوعي ايلي معماري الذي تعرف الى كاريتاس في المانيا.
مع ازدياد الحاجات ، ولا سيما اثر الاحداث التي تخطت منطقة الجنوب لتشمل كل لبنان ابتداء من ١٩٧٥ ، تمدد عمل كاريتاس الى بيروت ثم إلى مختلف المناطق اللبنانية ، في محاولة لمواجهة نتيجة الحروب المحلية التي راحت تتمدد كالنار في الهشيم، وتعبث بالوطن والمجتمع، وتخلف وراءها اضرارا كارثية في البشر والحجر.
اتخذت اسم كاريتاس لبنان، وأصبحت في عِهدة مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان، وجهاز الكنيسة الرعوي-الاجتماعي.
على مدى نصف قرن، اتخذت كاريتاس لبنان موقعها على خريطة العمل الاجتماعي في لبنان، فكانت الكنيسة الحاضرة والشاهدة، التي حقّقت تعليم الكنيسة الاجتماعي في ما يختصّ باحترام كرامة الانسان، وحقّه بحياة كريمة، حرة. فعلت ذلك من دون أيّ تمييز، مع ودعوتها الدائمة إلى التضامن والتعاون من أجل الانسان، المخلوق على صورة الله.
تميزت مسيرة كاريتاس بروح الشركة والمحبة التي طبعت اجيالها، فكانت على مستوى انتظارات الكنيسة والمواطن، وعلى مستوى الثقة التي اكتسبتها بصدقيّتها وشفافيّتها من المانحين المحليين والاجانب، ومن الحكومات، والمنظمات الدولية، الرسمية والاهلية، ومن الافراد على إختلاف إنتماءاتهم.
وهكذا راحت كاريتاس تختبر الصيد العجيب بقوّة الإيمان والمحبّة ما جعلها تضاعف تصميمها على بذل المزيد، يحركها الوعي لمتطلبات كلّ مرحلة، فتتكيّف مع الحاجات، من دون ان تنسى ان الفقراء معها كل حين.
كما كانت كاريتاس في البدء هي الآن وتبقى مرآة التنظيم وحسن الإدارة، يدبّر شؤونها رسل حقيقيون تعاقبوا على حمل امانتها، عاشوا و يعيشون روحها، ويشعون بروحانيتها من خلال برامجها، وهيكلياتها، واقاليمها ومختلف مراكزها، والمحسنين والمتطوّعين وشبيبتها. إنّ الكنيسة بواسطتها تبحث عن اصحاب الحاجات، وتجهد لتكون لهم الحياة وتكون أوفر.
5. والإختبار الكبير للصيد العجيب بقوّة الإيمان بكلمة الله، عاشه الطوباويّ "أبونا يعقوب" الذي جاب لبنان من سواحله إلى جباله يزرع الكلمة في قلوب الأطفال والشبيبة والشعب في المدارس والرعايا، وعلى الأخصّ في تحضير الأطفال للمناولة الأولى التي كان يريدها بسنّ مبكّرة، ويردّد: "إزرعوا القربان في قلوب الأطفال واحصدوا قدّيسين".
عاش "أبونا يعقوب" تحدّي الإيمان عندما بدأ مشاريعه الكبيرة في خدمة المحبّة للمرضى على اختلاف أنواعهم والعناية بهم. بدأ حلمه الكبير أثناء الحرب الكونيّة الأولى وهو يرى عشرات الألوف من المسيحيين يمويون جوعًا وشنقًا ونفيًا، من دون أن يُقام صليب على قبورهم. باشر مشروعه ببركة رئيسه وفلس الأرملة. فرفع على تلّة جلّ الديب صليبًا عاليًا مع كنيسة على إسم سيّدة البحر. وكبر المشروع ليصبح مستشفى لذوي الأمراض العقليّة والنفسيّة والعصبيّة، وكان دير المسيح الملك لخدمة الكهنة المرضى والمسنّين. وأسّس من أجل إستمرار الرسالة والصيد العجيب جمعيّة راهبات الصليب اللواتي يتفانين في خدمة مؤسساتها بروح أبونا يعقوب، نذكر منها مستشفى دير الصليب الذي يخدم ألف مريض مقيم، ومستشفى السيدة-أنطلياس للمسنّات، ومستشفى مار يوسف في الدورة، ومستشفى دير القمر للفتيات ذوات الحاجات الخاصّة، بالإضافة إلى المدارس والمياتم والمراكز الإجتماعيّة والرساليّة في لبنان والخارج. إنّها حقًّا معحزة الصيد العجيب تتحقّق يومًا بعد يوم.
6. كم كنّا نتمنّى لو أنّ المسؤولين المدنيّين والسياسيّين عندنا يتمتّعون بذرّة من الإيمان وشجاعة التحدّي الذي يقتضيه، لَما كنّا نعيش في حالة الإنهيار الكامل سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا ومعيشيًّا واجتماعيًّا.
كنّا نتمنّى لو شاركَت في تسميةِ الرئيسِ المكلَّفِ، أيًّا يكن المسَمّى، شرائحُ نيابيّةٌ أوسَع لتُترجِمَ، بفعلٍ إيجابيٍّ ودستوريٍّ وميثاقيٍّ، الوَكالةَ التي مَنحها إيّاها الشعبُ منذ أسابيع قليلة، لاسيّما أنَّ الاستشاراتِ هي إلزاميّةٌ. هكذا تَشُعرُ جميعُ المكوِّناتِ اللبنانيّةِ أنّها تَتشاركُ في كلِّ الاستحقاقاتِ الدستوريّةِ والوطنيّة. في كلّ حال نَتوجّهُ بالتهنئةِ لدولةِ الرئيسِ نجيب ميقاتي على إعادةِ تكليفِه. وندعو له بالتوفيق.
7. إنّا من جديد نطالبُ بالإسراعِ في تشكيلِ حكومةٍ وطنيّةٍ لحاجةِ البلادِ إليها، ولكي يتَركّز الاهتمامُ فورًا على التحضيرِ لانتخابِ رئيسٍ انقاذّي للجُمهوريّة. فلا تفسيرَ لأيٍّ تأخيرٍ في التشكيلِ سوى إلهائِنا عن هذا الاستحقاقِ الدستوريّ. لا يوجد أيُّ سببٍ وجيهٍ ووطنيٍّ يَحول دونَ تشكيلِ الحكومةِ وانتخابِ الرئيس الجديد. وفي هذا الإطار، نُناشدُ جميعَ الأطراف بأن تتعاونَ مع الرئيسِ المكلَّف بعيدًا عن شروطٍ لا تَليقُ بهذه المرحلةِ الدقيقة، ولا يتَّسِعُ الوقتُ لها، ولا تُساهِمُ في تعزيزِ الوِحدةِ الوطنيّةِ وصورةِ لبنان أمامَ العالم. ونَنتظرُ من الرئيسِ المكلَّف، بالمقابل، تشكيلَ حكومةٍ على مستوى الأحداث، تُشجِّعُ القوى الوطنيّةَ على المشاركةِ فيها، وتُعزّزُ الشرعيّةَ والنزعةَ السياديّةَ والاستقلاليّةَ في البلاد وتجاه الخارج…
هذه العظة نُشرت على صفحة البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.