عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في عيد مار مارون
تجدون في التّالي عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في عيد مار مارون، يوم الجمعة 9 شباط/ فبراير 2024، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس المارونيّة، في بيروت.
"حبّة الحنطة، اذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير" (يو 12: 24)
1.ربّنا يسوع المسيح هو حبّة الحنطة بامتياز. فمن موته على الجلجلة وُلدت البشريّة الجديدة المتمثّلة في الكنيسة. وعلى مثاله بالتقشّف ونكران الذات مات القدّيس مارون عن نفسه في منطقة قورش ما بين حلب وأنطاكية، فوُلدت الكنيسة المارونيّة، بإرثها السريانيّ الأنطاكيّ، على إيمان الكنيسة الجامعة. هذا النهج تركه لنا المسيح ربّنا بسرّ موته وقيامته :موت وقيامة بالمفهوم الروحي والإجتماعيّ. وهذا ما أكّده الربّ يسوع بقوله : "من يحبب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها لحياة الأبد" (يو 12 : 26). ما يعني أنّ التضحية بالذّات وبمصالحها الخاصّة تنتج ثمار الخير في المجتمعات البشريّة.
2. يُسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، تكريمًا لأبينا القدّيس مارون، أبي الطائفة المارونيّة وشفيعها ومثالها. وكون العيد وطنيًّا في لبنان، فإنّنا نهنّىء كلّ اللّبنانيّين، مسيحيّين ومسلمين، ونوّجه تهنئة خاصّة إلى كلّ أبناء كنيستنا وبناتها، أساقفة وكهنة ورهبانًا وراهبات ومؤمنين العائشين في النطاق البطريركي المشرقي وفي بلدان الإنتشار. وأوّد أن أشكر سيادة أخينا المطران بولس عبد الساتر، رئيس أساقفة بيروت، على الدعوة للإحتفال معكم بهذا العيد وعلى كلمته اللّطيفة في مستهلّ احتفالنا. كما أشكر أيضًا صاحب الغبطة البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان وأصحاب الغبطة الّذين أوفدوا السادة الأساقفة لتمثيلهم، وسيادة السفير البابوي والآباء، وأصحاب المعالي الوزراء والسعادة النواب والسفراء وسائر المقامات المدنيّة والعسكريّة، والإخوة والأخوات الأحبّاء. ولا أستطيع في المناسبة أن أخفي عليكم دمعة القلب لغياب رئيس البلاد للسنة الثانية، هو الّذي كان يتقدّم المشاركين في قدّاس العيد. ولسنا ندري لماذا لا يُدعى المجلس النيابي للإنعقاد والقيام بأوّل واجب عليه أساسي وهو أن ينتخب رئيسًا للجمهوريّة لكي تنتظم جميع المؤسّسات الدستوريّة وأوّلها مجلس النوّاب ومجلس الوزراء والقضاء ومسيرة العدالة، ولكي تبدأ مسيرة الإصلاحات والنهوض بالإقتصاد وضبط الفساد. بتنا في هذه الحالة نشكّ بالنوايا، ونرى في تعطيل انتخاب الرئيس خلفيّات مشبوهة غير مقبولة ومدانة.
3. وُلد القديس مارون نحو سنة 350 وتوفي نحو سنة 410.. كتب سيرته المطران تيودوريتس أسقف أبرشية قورش في كتابه "أصفياء الله" ما بين سنتي 440 و444. لم يكن يعرفه شخصيًا، بل عرفه من خلال تلاميذه الذين نهجوا نهجه بالعيش في العراء والزهد والصلاة والتجرّد. فشبّههم "بالحديقة التي غرسها مارون، وأزهرت في "القورشيّة"، وامتدّت في أرجاء سوريا.
4. أطلّ تلاميذ القدّيس مارون، الذين سمّوا "موارنة"، على الواقع الكنسيّ، بتراثهم السريانيّ الأنطاكيّ الموروث خاصّةً من مار أفرام السرياني ومار يعقوب السروجيّ؛ وأطلّوا بنهج حياتهم النسكيّة لعيش الإنجيل وأمانتهم لمارون وصولًا إلى يومنا الحاضر؛ وأطلّوا بروحانيّة مريميّة ملأت كتبهم الليتورجيّة وتقواهم الشعبيّة، وقد استقوها من مجمع أفسس (431) الذّي أقرّ أنّ مريم هي والدة الإله يسوع المسيح ببشريّته الكاملة؛ وأطلّوا بروحانيّتهم المسيحانيّة وفق عقيدة مجمع خلقيدونية (451) الذي أثبت أنّ في المسيح طبيعتين كاملتين، الواحدة إلهيّة والثانية بشريّة في أقنوم واحد. على أسس هذين المجمعين المسكونيين تكوّنت الشركة التامّة بين الكنيسة المارونيّة وكرسيّ بطرس في رومية، وبفضل هذه الشركة في الإيمان اعترفت الكنيسة المارونية بجميع المجامع المسكونيّة السابقة واللاحقة. وإذ تكوّنت كنيسة بطريركيّة في أواخر القرن السابع، أدركت أنّها تحمل دعوة إلهيّة ورسالة في لبنان والعالم العربيّ وفي علاقتها على الأخصّ مع الإسلام، ساعية إلى تعزيز الخدمة والمحبّة والعيش معا والحريّة والاحترام المتبادل والتكامل.
فلا يحاولنّ أحدٌ تحويل الموارنة من رسل أحرار إلى أتباع، ولا جعلهم بدون تاريخ فيما لهم تاريخ خاص بهم لا يُمحى (راجع المطران أنطوان حميد موراني: الهويّة المارونيّة في مجاليها اللبنانيّ والعربيّ، صفحة 15).
5. هل من أحدٍ يجهل، أو ربّما يتجاهل، أنّ الموارنة لعبوا الدور الحاسم في إنشاء دولة لبنان الكبير، بالتعاون طبعًا مع سواهم. وقد توّج مسيرتهم البطريرك المكرّم الياس الحويّك الذي ترأس شخصيًّا الوفد اللبنانيّ الثاني إلى مؤتمر الصلح في فرساي بفرنسا، والمؤتمر الثالث بانتداب نائبه المطران عبدالله الخوري. فكان إعلان "دولة لبنان الكبير" في أوّل أيلول 1920، متميّزًا عن سائر دول المنطقة بالخصائص التالية:
أ- لبنان يفصل الدين عن الدولة، فيما البلدان المجاورة دينيّة إسلاميّة، وإسرائيل دولة يهوديّة.
ب- الإنتماء إلى لبنان عبر المواطنة، لا عبر الدين.
ج- لبنان يعتمد التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة،
د- لبنان قائم على ميثاق العيش المشترك بين المسيحيّين والمسلمين المنظّم في الدستور بحيث يتعاونون بالمساواة في الحكم والإدارة.
ه- لبنان يقرّ جميع الحريّات المدنيّة العامة ولا سيما حريّة المعتقد والتعبير…
هذه العظة نُشرت على صفحة البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.