رسالة عيد القيامة 2023 لغبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بعنوان "إنّه حيّ"
تجدون في التالي رسالة عيد القيامة المجيدة 2023 من غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، بعنوان "إنّه حيّ".
ܐܓܪܬܐ ܕܥܐܕܐ ܕܩܝܡܬܐ ܒ̱ܟܓ
رسالة عيد القيامة المجيدة 2023
إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام
وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل،
وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب
اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في بلاد الشرق وعالم الإنتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات:
«ܕܚܰܝ ܗ̱ܘ»
"إنّه حيّ" (لو24: 23)
1. مقدّمة
في بداية رسالتنا هذه، يطيب لنا أن نتقدّم بالتهاني القلبية والأدعية الحارّة والتمنّيات الخالصة بمناسبة عيد قيامة ربّنا يسوع المسيح من بين الأموات، إلى جميع إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلاء آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين، في لبنان وسوريا والعراق والخليج العربي والأراضي المقدّسة والأردن ومصر وتركيا وأوروبا والأميركتين وأستراليا.
وإلى الرب يسوع فادينا ومخلّصنا القائم من بين الأموات، الحيّ أزلاً وأبداً، نتضرّع كي يفيض على العالم بأسره نِعَمَه وخيراته وبركاته، فيشعّ نوره وسط الظلمات التي تحيط بنا، وتعمّ النعمة ويغلب الخير، ويزول الخوف واليأس، ويبطل الموت والخطيئة، ويغيب البغض وتُدفنَ الكراهية، ويسود فرحُ الحياة والطمأنينة بدل الألم والحزن، وتحلّ المحبّة والرجاء والسلام. فالقيامة هي عربون الحياة الجديدة والغلبة بالرب يسوع، مَعين كلّ صلاحٍ، ومنبع السلام والأمان في المجتمعات والأوطان.
2. القيامة عيد الخليقة الجديدة
نفرح، نحن المؤمنين، كلّ عامٍ بنوعٍ خاص في عيد القيامة، لأنّ المسيح لم يبقَ في القبر، بل قام منتصراً في اليوم الثالث، إذ لم يعرف جسده الفساد. ولكن لماذا قام؟ ولماذا نفرح؟ هل فكّرنا بذلك؟
يقول البابا بنديكتوس السادس عشر: "إنّ عيد القيامة هو عيد الخليقة الجديدة. لقد انفتحَ بُعْدٌ جديدٌ للبشرية. أصبحَت الخليقة أعظم وأكبر" (من موعظة ليلة عيد القيامة، 7 نيسان 2012).
"إنّه حيّ!" (لو24: 23). لم يبقَ يسوع داخل القبر، "مثوى الأموات"، بل تجلّى جسدُه في نور الحياة. قام يسوع ولن يموت من بعد، فيسوع ينتمي إلى عالم الأحياء لا إلى عالم الأموات. لقد فتح لنا البابَ لحياةٍ جديدةٍ، فلا نستسلم للمرض والموت. قادَ بنفسه بشريتنا إلى الله، وبقيامته حرَّرها من نير الخطيئة، لنعود إلى بنوّة الآب السماوي. لذلك نفرح، ونفرح أيضاً لأنّنا واثقون بأنّ "المسيح هو هو، بالأمس واليوم وإلى الأبد" (عب13: . فمع يسوع، الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للحياة.
لنسمع مار بولس: "أقول لكم أيّها الإخوة، لا يمكن للجسد والدم أن يَرِثا ملكوتَ الله" (1كور15: 50). ولكنّه يؤكّد لنا مراراً: مع المسيح أصبح كلّ شيءٍ ممكناً، وبقيامته أضحى لحياتنا معنىً آخر في تجديد الروح القدس، لأنّ قيامة الفادي هي عربون لقيامتنا وسعادتنا. وفي هذا السياق، كتب ترتليانوس في القرن الثالث: "اطمَئِنّ، أيّها الجسد والدم، بالمسيح نلتَ مكانكَ في السماء وفي ملكوت الله".
كان المسيح متَّحداً مع الله الآب، فأصبح معه كياناً واحداً. عانق مَن هو الحياة. وحياته لم تكن ملكاً له وحسب، بل دخلت في شركةٍ وجوديةٍ مع الله الآب، ولذلك أشعَّت حبّاً وخلاصاً على المسكونة، فتغلّبَ بقوّة محبّته على الموت. لقد اتَّحَدَ حبّه بحبّ الآب، وهكذا من أعماق الموت استطاع أن يرتقي إلى الحياة، وهو الآن يرفعنا من الموت إلى الحياة الحقّة. عندما نعيش في شركةٍ مع المسيح ونتّحد به، ننال الحياة الأبدية، إذ هو الحقيقة والمحبّة، وهو الله نفسه.
3. أحد القيامة سلامنا
في أحد القيامة، تتهلّل كنيستنا السريانية بأناشيد السلام، وهتافات التمجيد المفرحة. كان يوم الجمعة محزناً ومؤلماً: الحكم الإجرامي بالصلب، الآلام والمسامير، الشتائم والإهانات. وإذا بالمعلّم الإلهي ينبعث حيّاً، ويظهر لتلاميذه الحزانى الخائفين، ليبشّرهم بـ "السلام"، ثمرة الفداء المميَّزة. كان التلاميذ في رعبٍ، فلمّا رأوا الرب حيّاً فرحوا، وبقدر ما كانوا في حزنٍ وقلقٍ شديدَين يوم الجمعة، ازداد فرحهم يوم الأحد، وتحقَّق قول الرب يسوع لهم: "ولكنّي سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم" (يو16: 22). فبالقيامة لم يعُد الصليب عاراً وألماً، بل أصبح إكليلاً ومجداً.
لقد أعطتنا القيامة رجاءً في العيش مع المسيح، "في الرجاء نلنا الخلاص" (رو8: 24). فرحة القيامة هي أن نقوم مع المسيح، لنحيا معه، حيث يكون هو.
وها هو مار يعقوب السروجي يتغنّى بعظمة القيامة: «ܫܰܒܩܳܗ̇ ܒܩܰܒܪܳܐ ܠܰܡܚܺܝܠܽܘܬܳܐ ܕܥܶܠܰܬ݀ ܥܰܡܶܗ܆ ܘܓܰܢ̱ܒܳܪܽܘܬܳܐ ܡܶܢ ܒܶܝܬ ܐܰܒܽܘܗ̱ܝ ܐܶܬܥܰܛܰܦ ܗ̱ܘܳܐ». وترجمته: "ترك الضعف في القبر حيث قد دخله معه، وتسربل الجبروت من بيت أبيه" (من باعوث أي طلبة مار يعقوب السروجي، صلاة صباح عيد القيامة في كتاب الفنقيث ܦܢܩܝܬܐ، وهو كتاب صلوات الآحاد والأعياد، الجزء الخامس، صفحة 350).
4. القيامة عنوان الرجاء
الرجاء فضيلةٌ إلهيةٌ يحتاجها كلٌّ منّا، نحن المؤمنين بقيامة يسوع فادينا، فنقبل شروط الحياة في كلّ مراحلها، منذ الصغر وحتّى النفَس الأخير! فهي الفضيلة التي تغذّي إيماننا وتنعشه، كما أنّها تكلّل محبّتنا وتجعلها مثمرة.
يخبرنا متّى الإنجيلي أنّ مريم المجدلية ومريم الأخرى ذهبتا فجر الأحد إلى القبر، فوجدتاه فارغاً (راجع متى 28: 1-10)، وهناك قابلتا ملاك الرب الذي بشّرهما: "لا تخافا... إنّه ليس ههنا" (الآيتان 5-6). ثمّ التقتا بيسوع منبعثاً، فأزال الشكّ من نفسهما، وغلب محدودية أفكارهما البشرية، وأكّد لهما قيامته، لتحملا البشارة إلى التلاميذ المختبئين في العلّية، كي يتعزّوا ويبتهجوا ويحملوا بدورهم رجاء الخلاص إلى العالم.
وفي هذا السياق يجمع أحد الآباء بين مريم المجدلية والكنيسة في مقاربة الفرح بحدث القيامة المذهلة:
«ܡܰܢܽܘ ܚܙܳܐ ܬܰܪܬܶܝܢ ܐܰܚܘ̈ܳܢ ܕܰܠܩܰܒܪܳܐ ܪ̈ܳܗܛܳܢ. ܕܰܢܒܰܟܝ̈ܳܢ ܠܗܰܘ ܕܰܡܒܰܝܰܐ ܟܰܪܝܽܘܬܶܗ ܕܥܳܠܡܳܐ. ܛܥܺܝܢܳܐ ܡܰܪܝܰܡ ܡܶܫܚܳܐ ܪܺܝܫܳܝܳܐ܆ ܛܥܺܝܢܳܐ ܥܺܕ̱ܬܳܐ ܫܽܘܒܚܳܐ ܒܠܶܫܳܢܳܗ̇. ܠܒܺܝܟܳܐ ܠܳܗ̇ ܡܰܪܝܰܡ ܒܺܐܝܕܳܗ̇ ܠܟܰܠܬܳܐ ܫܰܦܺܝܪܬܳܐ. ܘܡܳܪܰܢ ܒܰܕܡܽܘܬ ܓܰܢܳܢܳܐ ܫܠܳܡܳܐ ܦܰܢܺܝ ܠܗܶܝܢ. ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ ܘܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ». وترجمته: "من رأى أختين مسرعتين إلى القبر، تبكيان ذاك الذي يعزّي حزن العالم. تحمل مريم (المجدلية) الطيبَ الفاخر، وتنشد الكنيسة المجدَ بلسانها. تمسك مريم بيدها العروس البهيّة (أي الكنيسة)، والرب بهيئة بستاني حيّاهما بالسلام، هللويا وهللويا" (من قول بلحن ܩܽܘܩܳܝܳܐ (الفخّاري)، صلاة صباح ثلاثاء القيامة في كتاب الفنقيث ܦܢܩܝܬܐ، الجزء الخامس، صفحة 385-386).
ويذكّرنا قداسة البابا فرنسيس بأنّ رجاء القيامة "هو رجاءٌ حيٌّ جديدٌ، وليس مجرّد تفاؤلٍ، أو تشجيعاً ظرفيّاً، مع ابتسامةٍ عابرة. كلا، إنّه هبةٌ من السماء، لم نكن نستطيع الحصول عليها بمفردنا"، مؤكّداً أنّ "رجاء يسوع مختلفٌ لأنّه يولّد في القلب اليقينَ بأنَّ الله يعرف كيف يحوّل كلّ شيءٍ إلى خيرٍ، لأنَّه يُخرِجُ الحياة حتَّى من القبر" (موعظة ليلة عيد القيامة، 11 نيسان 2020).
إنّ نور المسيح يدعونا إلى عدم الاستسلام لليأس، وإلى أن نغذّي روح الرجاء فينا، أي الثقة غير المشروطة ولا المحدودة بفادينا. إنَّ الكلمة الفصل لا تعود إلى الظلام والموت، فيسوع فادينا الإلهي أمينٌ وقادرٌ على كلّ شيءٍ، ومعه لا يضيع شيء. هو الذي أزاح الصخرة عن باب القبر، ويستطيع أن يُحطِّم الصخور التي تُغلق أبواب قلوبنا.
5. يسوع يتقدّمنا إلى "الجليل"
بالعودة إلى نصّ الإنجيلي متّى، يكلّف الملاك، وبعده يسوع، المريمات بالذهاب إلى الرسل وإبلاغهم بأنّ الرب القائم "يتقدَّمكم إلى الجليل" (مت28: 7)، "وهناك يرونني" (مت28: 10). إنّ يسوع يتقدّمنا إلى "الجليل"، هذه الكلمة تحملُ في طيّاتها معنيَيْن: الأول من الناحية الجغرافية، والثاني من الناحية الروحية.
أولاً، بما أنَّ الجليل هو "المدخل إلى العالم"، هو "جليل الأمم" (مت4: 15)، أرسل يسوع إليه تلاميذه، لينطلقوا منه حاملين بشرى القيامة. إنّها دلالةٌ على أنّ نور الإنجيل هو للعالم كلّه، وليس فقط للتلاميذ والشعب اليهودي. وعلى مثال النسوة المبشّرات بقيامة فادينا، واقتداءً بالتلاميذ حاملي هذه البشرى إلى العالم، نعيش الرجاء "فوق كلّ رجاء"، ونحمل هذا الرجاء إلى جميع الناس التائقين إليه، كي يفرحوا بغلبة الحياة على الموت.
ثانياً، لقد وعد يسوع تلاميذه بأن يسبقهم إلى الجليل، وها هو يرافقنا، بل يسبقنا دوماً، وينير "جليلنا اليومي"، ويزور حياتنا اليومية بمراحلها كافّةً. هو أيضاً يدعونا للعودة إلى ذلك المكان حيث التقينا بيسوع للمرّة الأولى، إلى المكان الذي يحمل كلّ ذكرياتنا، حيثُ وُلِدنا ونُولَد مجدَّداً مِن دعوة حبٍّ مجّانية. يريدنا يسوع الحيّ فينا أن نعيش الرجاء وننشره أينما حللنا، فيعمّ الفرح فينا وحولنا.
علينا أن نحمل العزاء، ونتقاسم أعباء الآخرين، ونبشّر بغلبة الحياة على اليأس والحزن والقلق، لتأتي شهادتنا عن قيامة الفادي صادقةً ومُقنِعةً، ونحن نتواكب برفقة الرب يسوع، فنبقى قرب إخوتنا وجميع المحتاجين إلى سندنا الأخوي، خاصّةً في هذه الأيّام الصعبة التي نعيشها. وهذا ما تعمل عليه الكنيسة من خلال ما تطلقه من مبادراتٍ للوقوف إلى جانب المؤمنين في مواجهتهم المحن والأزمات على أنواعها، وفي السير نحو "كنيسة سينودسية: شركة ومشاركة ورسالة".
6. هلمّوا نفرح!
"إفرحوا دائماً في الرب، وأقول لكم أيضاً: إفرحوا" (فل4: 4). هلمّوا، أيّها الإخوة والأخوات، نلبّي دعوة رسول الأمم إلى الفرح. هلمّوا نفتح قلوبنا لنِعَم القيامة، فنقوم بفعل توبةٍ صادقةٍ، أي نعود بثقةٍ بنويةٍ إلى أبينا السماوي بندامةٍ عميقةٍ، كي ننال المغفرة، فيملأنا الفرح، كما غمرت السعادة قلبَ الإبن الشاطر، إذ ضمّه أبوه إلى حضنه.
لِنُلقِ عن كاهلنا ثقلَ همومنا البشرية التي تنسينا دعوتنا الحقيقية أن نطلب أولاً ملكوت السماوات وبرّه. لنجدّد ثقتنا كاملةً بيسوع "القيامة والحياة"، فنسير معه على درب آلامه نحو جلجلة الفداء، حيث اكتملَ أعظمُ حبٍّ عرفته البشرية، ونضحي شهوداً أمناء لقيامته.
لِنسعَ، أحبّائي، كي نكون رسلاً لإنجيل الرب الخلاصي، راسخين في الإيمان، وثابتين في الرجاء، ومتفانين في أعمال الرحمة والمحبّة.
7. صدى العيد في عالمنا اليوم
انتصر ربّنا يسوع المسيح على الخطيئة والموت بقيامته ظافراً بعد أيّامٍ ثلاثة. فحُقَّ لنا أن نحتفل معه بهذا العيد المجيد، إذ يستحقّ شعبنا المضطهَد والمعذَّب منذ فجر المسيحية في هذا الشرق، أن يرى النور المنبعث من القبر الفارغ مُشرقاً عليه، وينعم بحياةٍ كريمةٍ ومستقبلٍ مستقرٍّ وسلامي. فلا يزال أبناؤنا يعانون، ولا تزال أوطاننا ترزح تحت وطأة الخراب والدمار والعذابات، ما ينغّص فرحة العيد.
إنّ لبنان يُعاني ما يعانيه على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية كافّةً، فضلاً عن انهيار العملة الوطنية، واستمرار تعدُّد أسعار صرف الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية، وحجز أموال المودعين في المصارف وسرقتها، وكل ذلك دون أن يرفّ جفنٌ لدى من يعنيهم الأمر من الذين ابتُلِيَ بهم الوطن واستلموا مواقع المسؤولية في الدولة. هؤلاء الفاسدون والمُفسدون يُمعِنون في تعطيل عمل المؤسّسات السياسية والدستورية والإدارية، ويهدمون آمال الشباب اللبناني بالبقاء في وطنهم، وبناء مستقبلهم فيه.
إنّنا نشجب التقاعس المتعمَّد من قِبَل المسؤولين عامّةً، والنواب خاصّةً، الذين صمّوا آذانهم عن التجاوب مع ما يمليه عليهم الحسّ والضمير والكرامة الوطنية. عليهم أن يكفوّا عن المماحكات والمناورات، فينتخبوا فوراً رئيساً للجمهورية يكون الأجدر والأنزه، كي يُنقذ ما تبقّى من هذا الوطن الحبيب، وينتشله من كلّ ما يتخبّط به من أزماتٍ وكبواتٍ، ويعمل دون إبطاءٍ على تشكيل حكومةٍ وطنيةٍ تقوم بتنفيذ الإصلاحات الواجبة، ليعود لبنان إلى الخارطة الدولية، وإلى سابق عهده من التطوّر والازدهار. إلا أنّنا نرى أنّ المسؤولين في هذا البلد عازمون على عدم انتخاب رئيسٍ، كيلا تتمّ محاسبة الفاسدين وردعهم عن انتهاك حقوق اللبنانيين، وكي يبقى التفلّت سائداً في كلّ مرافق الدولة وأركانها التي بدأت تتهاوى الواحد تلو الآخر، بانتظار الارتطام الكبير الذي بات وشيكاً، إن لم يعُد المسؤولون ويرتدعوا.
فها هو الدمار الشامل يتربّع على عرش المؤسّسات التربوية والإستشفائية، وكأنّما المسؤولون يسعون بكلّ قدرتهم لتفتيت كلّ معقلٍ وصرحٍ تربوي وطبّي، بينما يقاوم المخلصون ويبذلون الجهود المضنية كي يبقى لبنان منارةً ورسالة.
ولا يسعنا إلا أن نجدّد مطالبتنا الدائمة بإنهاء التعطيل المقصود في تحقيقات تفجير مرفأ بيروت الإجرامي، بغية الوصول إلى كشف الحقيقة في هذا الملفّ، ومحاكمة المتّهَمين ومحاسبتهم عمّا ارتكبوا من جريمة نكراء.
نسأل الرب يسوع القائم أن تحمل هذه الأعياد المباركة الرجاء والقيامة الحقيقية لهذا الوطن، لأنّ الشعب يستحقّ الحياة الكريمة، والشباب الأملَ بغد أفضل لهم في بلدهم.
وسوريا التي تعاني الأزمات والحروب منذ سنواتٍ، كيف لا نشعر ولا نتألّم بسبب الزلزال المروّع والهزّات الإرتدادية الذي أصابتها، لا سيّما في حلب والمناطق الشمالية الغربية! وخلال الزيارة الأبوية التفقّدية التي قمنا بها إلى حلب في شباط الماضي، عاينّا بعض نتائج هذه الكارثة، وما سبّبته من دمارٍ هائلٍ، ومن فقدان الأهل والأحباب، وخلّفته من جروحٍ نفسيةٍ وجسديةٍ، مع الخوف والقلق الشديدين. ومع هذه النكبة الطبيعية وما حملته من آلامٍ ومعاناةٍ، لمسنا صدق التضامن والتعاضد بين جميع المواطنين دون تفرقةٍ أو تمييز.
ومع بارقة الأمل التي تلوح في الأفق مبشّرةً بانفتاح سوريا إقليمياً ودولياً، نسأل الله أن يحميها من الإرهاب والشرور، ويجمع المواطنين بمصالحةٍ صادقةٍ، كي يحقّقوا معاً الإعمار والسلام والاستقرار.
وفي العراق، أرض ما بين النهرين، حيث تشرّفنا في شباط الماضي بزيارة فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس النواب ودولة رئيس مجلس الوزراء وسعادة رئيس المحكمة العليا، لمسنا لديهم روح الإنفتاح على قضايا الشعب وحاجاتهم المشروعة دون تمييزٍ، وعلى الرغبة في العمل لإعادة جمع مكوّنات الوطن في بوتقةٍ واحدة. وقد عبّروا لنا عن تقديرهم للمكوّن المسيحي واعترافهم به مكوّناً أصيلاً ومؤسِّساً في البلد. وبدورنا أكّدنا لهم تمسُّك المسيحيين بوطنهم الغالي العراق والبقاء أوفياء له، ومحبّتهم له رغم الصعوبات والتحدّيات.
وإذ نعود من زيارتنا الأبوية إلى أبرشية الموصل، حيث فرحنا وتعزّينا بترؤّسنا الاحتفال المهيب ومسيرة الشعانين في شوارع قره قوش (بخديدي)، بمشاركة الآلاف من المؤمنين، نصلّي كي يتابع المسؤولون عملهم لبناء السلام والألفة بين مختلف المكوّنات، فتتضافر الجهود لعودة العراق الغالي إلى استقراره وازدهاره.
وتركيا، التي عانت وتعاني بسبب الزلازل المدمّرة والمتلاحقة التي تعرّضت لها في الأسابيع الماضية، مع كلّ ما سبّبَتْه من دمارٍ وضحايا وآلام. أملُنا أن يستمرّ تعاضُد حكّامها ومسؤوليها ومواطنيها لنجدة المنكوبين والمتضرّرين، وإعادة بناء ما تهدّم، ضارعين إلى الله كي يجنّب هذا البلد والعالم خطر هذه الكوارث ومثيلاتها.
والأراضي المقدسة، حيث عدم الإقرار بحقوق الآخر لا يزال متجذّراً في نفوس البعض، ممّا يسبّب الخلافات والعداوات، نصلّي من أجلها كي تكون أرض سلامٍ ووئامٍ وأخوّةٍ، فتتلاقى القلوب في الله الواحد، وهو المحبّة والسلام.
ومصر والأردن وبلدان الخليج العربي، فإنّنا نثمّن الجهود المبذولة من الحكومات والمسؤولين فيها لتعزيز الازدهار ونشر الوئام والانسجام بين مختلف المكوّنات، ممّا ينشر فيها جوّاً من الألفة والمودّة والتسامح.
إنّنا نجدّد صلاتنا من أجل إحلال السلام والأمان في العالم، وخاصّةً على نيّة إنهاء الحرب المدمِّرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي تهدّد السلام والاستقرار العالميين، ومن أجل وضع حدٍّ لكلّ الحروب والأزمات في كلّ مكان.
كما نتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في بلدان الإنتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، ونحثّهم على متابعة الشهادة للرب يسوع والتعلّق بإيمانهم والتزامهم بكنيستهم وتراثهم السرياني ومبادئهم الأصيلة التي تربّوا عليها في بلادهم الأمّ في الشرق، إلى جانب محبّتهم وإخلاصهم للأوطان الجديدة التي احتضنَتْهم، فيبقى حضورنا مشعّاً وسط عالمنا المضطرب.
وإنّنا نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التام. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوَزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله كي يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.
8. خاتمة:
نختم رسالتنا بصلاةٍ من وحي عيد القيامة، نستوحيها من القديس مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة:
«ܒܗܳܢܳܐ ܥܺܐܕܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ ܨܰܒܶܬ ܠܰܢ ܡܳܪܝ̱ ܒܢܰܟܦܽܘܬܳܐ. ܒܗܳܢܳܐ ܥܺܐܕܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ܆ ܙܰܡܶܢ ܠܰܢ ܠܰܓܢܽܘܢ ܢܽܘܗܪܳܐ... ܫܰܝܢܳܟ ܢܰܡܠܶܟ ܒܰܝܢܳܬܰܢ܆ ܘܰܨܠܽܝܒܳܟ ܢܢܰܛܰܪ ܠܟܽܠܰܢ. ܫܰܝܢܳܟ ܡܳܪܽܢ ܘܰܫܠܳܡܳܟ ܫܰܟܶܢ ܠܰܢ ܒܝܽܘܡ ܥܰܕܥܺܐܕܳܟ. ܒܰܗܳܢܐ ܝܰܘܡܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ ܚܰܕ̱̈ܬܶܐ ܢܗܶܐ ܚܠܳܦ ܥܰܬܺܝ̈ܩܶܐ. ܒܗܳܢ ܢܽܘܗܪܳܐ ܚܰܕ̱ܬܳܐ ܢܶܢܗܰܪ܆ ܕܰܐܢܗܰܪ ܡܳܪܝܳܐ ܠܢܰܦܫ̈ܳܬܰܢ». وترجمته: "في هذا العيد المقدس، زيِّنّا يا ربّ بالعفاف، في هذا العيد المقدس، أُدعُنا إلى خدر النور... فليملك أمانك بيننا، وليحفظنا صليبك جميعاً. امنحنا ربّنا أمنك وسلامك في يوم عيدك. في هذا اليوم المقدس، فلنُضحِ جدداً بدلاً من عتقاء. ولنستنِر بهذا النور الجديد، إذ أنار الرب نفوسنا" (من باعوث أي طلبة مار أفرام، صلاة الساعة التاسعة من صباح أربعاء القيامة في كتاب الفنقيث ܦܢܩܝܬܐ، الجزء الخامس، صفحة 406).
وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. والنعمة معكم. كلّ عام وأنتم بألف خير.
ܡܫܺܝܚܳܐ ܩܳܡ ܡܶܢ ܒܶܝܬ ܡܺܝ̈ܬܶܐ... ܫܰܪܺܝܪܳܐܺܝܬ ܩܳܡ
المسيح قام من بين الأموات... حقّاً قام
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت – لبنان
في اليوم الخامس من شهر نيسان/ أبريل سنة 2023
وهي السنة الخامسة عشرة لبطريركيّتنا
غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي
هذه الرسالة نُشرت على صفحة بطريركيّة السريان الكاثوليك الأنطاكيّة على موقع فيسبوك.
وإلى الرب يسوع فادينا ومخلّصنا القائم من بين الأموات، الحيّ أزلًا وأبدًا، نتضرّع كي يفيض على العالم بأسره نِعَمَه وخيراته وبركاته، فيشعّ نوره وسط الظلمات التي تحيط بنا، وتعمّ النعمة ويغلب الخير، ويزول الخوف واليأس، ويبطل الموت والخطيئة، ويغيب البغض وتُدفنَ الكراهية، ويسود فرحُ الحياة والطمأنينة بدل الألم والحزن، وتحلّ المحبّة والرجاء والسلام. فالقيامة هي عربون الحياة الجديدة والغلبة بالرب يسوع، مَعين كلّ صلاحٍ، ومنبع السلام والأمان في المجتمعات والأوطان.
2. القيامة عيد الخليقة الجديدة
نفرح، نحن المؤمنين، كلّ عامٍ بنوعٍ خاص في عيد القيامة، لأنّ المسيح لم يبقَ في القبر، بل قام منتصراً في اليوم الثالث، إذ لم يعرف جسده الفساد. ولكن لماذا قام؟ ولماذا نفرح؟ هل فكّرنا بذلك؟
يقول البابا بنديكتوس السادس عشر: "إنّ عيد القيامة هو عيد الخليقة الجديدة. لقد انفتحَ بُعْدٌ جديدٌ للبشرية. أصبحَت الخليقة أعظم وأكبر" (من موعظة ليلة عيد القيامة، 7 نيسان 2012).
"إنّه حيّ!" (لو24: 23). لم يبقَ يسوع داخل القبر، "مثوى الأموات"، بل تجلّى جسدُه في نور الحياة. قام يسوع ولن يموت من بعد، فيسوع ينتمي إلى عالم الأحياء لا إلى عالم الأموات. لقد فتح لنا البابَ لحياةٍ جديدةٍ، فلا نستسلم للمرض والموت. قادَ بنفسه بشريتنا إلى الله، وبقيامته حرَّرها من نير الخطيئة، لنعود إلى بنوّة الآب السماوي. لذلك نفرح، ونفرح أيضاً لأنّنا واثقون بأنّ "المسيح هو هو، بالأمس واليوم وإلى الأبد" (عب13: . فمع يسوع، الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للحياة.
لنسمع مار بولس: "أقول لكم أيّها الإخوة، لا يمكن للجسد والدم أن يَرِثا ملكوتَ الله" (1كور15: 50). ولكنّه يؤكّد لنا مراراً: مع المسيح أصبح كلّ شيءٍ ممكناً، وبقيامته أضحى لحياتنا معنىً آخر في تجديد الروح القدس، لأنّ قيامة الفادي هي عربون لقيامتنا وسعادتنا. وفي هذا السياق، كتب ترتليانوس في القرن الثالث: "اطمَئِنّ، أيّها الجسد والدم، بالمسيح نلتَ مكانكَ في السماء وفي ملكوت الله".
كان المسيح متَّحداً مع الله الآب، فأصبح معه كياناً واحداً. عانق مَن هو الحياة. وحياته لم تكن ملكاً له وحسب، بل دخلت في شركةٍ وجوديةٍ مع الله الآب، ولذلك أشعَّت حبّاً وخلاصاً على المسكونة، فتغلّبَ بقوّة محبّته على الموت. لقد اتَّحَدَ حبّه بحبّ الآب، وهكذا من أعماق الموت استطاع أن يرتقي إلى الحياة، وهو الآن يرفعنا من الموت إلى الحياة الحقّة. عندما نعيش في شركةٍ مع المسيح ونتّحد به، ننال الحياة الأبدية، إذ هو الحقيقة والمحبّة، وهو الله نفسه.
3. أحد القيامة سلامنا
في أحد القيامة، تتهلّل كنيستنا السريانية بأناشيد السلام، وهتافات التمجيد المفرحة. كان يوم الجمعة محزناً ومؤلماً: الحكم الإجرامي بالصلب، الآلام والمسامير، الشتائم والإهانات. وإذا بالمعلّم الإلهي ينبعث حيّاً، ويظهر لتلاميذه الحزانى الخائفين، ليبشّرهم بـ "السلام"، ثمرة الفداء المميَّزة. كان التلاميذ في رعبٍ، فلمّا رأوا الرب حيّاً فرحوا، وبقدر ما كانوا في حزنٍ وقلقٍ شديدَين يوم الجمعة، ازداد فرحهم يوم الأحد، وتحقَّق قول الرب يسوع لهم: "ولكنّي سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم" (يو16: 22). فبالقيامة لم يعُد الصليب عاراً وألماً، بل أصبح إكليلاً ومجداً.
لقد أعطتنا القيامة رجاءً في العيش مع المسيح، "في الرجاء نلنا الخلاص" (رو8: 24). فرحة القيامة هي أن نقوم مع المسيح، لنحيا معه، حيث يكون هو.
وها هو مار يعقوب السروجي يتغنّى بعظمة القيامة: «ܫܰܒܩܳܗ̇ ܒܩܰܒܪܳܐ ܠܰܡܚܺܝܠܽܘܬܳܐ ܕܥܶܠܰܬ݀ ܥܰܡܶܗ܆ ܘܓܰܢ̱ܒܳܪܽܘܬܳܐ ܡܶܢ ܒܶܝܬ ܐܰܒܽܘܗ̱ܝ ܐܶܬܥܰܛܰܦ ܗ̱ܘܳܐ». وترجمته: "ترك الضعف في القبر حيث قد دخله معه، وتسربل الجبروت من بيت أبيه" (من باعوث أي طلبة مار يعقوب السروجي، صلاة صباح عيد القيامة في كتاب الفنقيث ܦܢܩܝܬܐ، وهو كتاب صلوات الآحاد والأعياد، الجزء الخامس، صفحة 350).
4. القيامة عنوان الرجاء
الرجاء فضيلةٌ إلهيةٌ يحتاجها كلٌّ منّا، نحن المؤمنين بقيامة يسوع فادينا، فنقبل شروط الحياة في كلّ مراحلها، منذ الصغر وحتّى النفَس الأخير! فهي الفضيلة التي تغذّي إيماننا وتنعشه، كما أنّها تكلّل محبّتنا وتجعلها مثمرة.
يخبرنا متّى الإنجيلي أنّ مريم المجدلية ومريم الأخرى ذهبتا فجر الأحد إلى القبر، فوجدتاه فارغاً (راجع متى 28: 1-10)، وهناك قابلتا ملاك الرب الذي بشّرهما: "لا تخافا... إنّه ليس ههنا" (الآيتان 5-6). ثمّ التقتا بيسوع منبعثاً، فأزال الشكّ من نفسهما، وغلب محدودية أفكارهما البشرية، وأكّد لهما قيامته، لتحملا البشارة إلى التلاميذ المختبئين في العلّية، كي يتعزّوا ويبتهجوا ويحملوا بدورهم رجاء الخلاص إلى العالم.
وفي هذا السياق يجمع أحد الآباء بين مريم المجدلية والكنيسة في مقاربة الفرح بحدث القيامة المذهلة:
«ܡܰܢܽܘ ܚܙܳܐ ܬܰܪܬܶܝܢ ܐܰܚܘ̈ܳܢ ܕܰܠܩܰܒܪܳܐ ܪ̈ܳܗܛܳܢ. ܕܰܢܒܰܟܝ̈ܳܢ ܠܗܰܘ ܕܰܡܒܰܝܰܐ ܟܰܪܝܽܘܬܶܗ ܕܥܳܠܡܳܐ. ܛܥܺܝܢܳܐ ܡܰܪܝܰܡ ܡܶܫܚܳܐ ܪܺܝܫܳܝܳܐ܆ ܛܥܺܝܢܳܐ ܥܺܕ̱ܬܳܐ ܫܽܘܒܚܳܐ ܒܠܶܫܳܢܳܗ̇. ܠܒܺܝܟܳܐ ܠܳܗ̇ ܡܰܪܝܰܡ ܒܺܐܝܕܳܗ̇ ܠܟܰܠܬܳܐ ܫܰܦܺܝܪܬܳܐ. ܘܡܳܪܰܢ ܒܰܕܡܽܘܬ ܓܰܢܳܢܳܐ ܫܠܳܡܳܐ ܦܰܢܺܝ ܠܗܶܝܢ. ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ ܘܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ». وترجمته: "من رأى أختين مسرعتين إلى القبر، تبكيان ذاك الذي يعزّي حزن العالم. تحمل مريم (المجدلية) الطيبَ الفاخر، وتنشد الكنيسة المجدَ بلسانها. تمسك مريم بيدها العروس البهيّة (أي الكنيسة)، والرب بهيئة بستاني حيّاهما بالسلام، هللويا وهللويا" (من قول بلحن ܩܽܘܩܳܝܳܐ (الفخّاري)، صلاة صباح ثلاثاء القيامة في كتاب الفنقيث ܦܢܩܝܬܐ، الجزء الخامس، صفحة 385-386).
ويذكّرنا قداسة البابا فرنسيس بأنّ رجاء القيامة "هو رجاءٌ حيٌّ جديدٌ، وليس مجرّد تفاؤلٍ، أو تشجيعاً ظرفيّاً، مع ابتسامةٍ عابرة. كلا، إنّه هبةٌ من السماء، لم نكن نستطيع الحصول عليها بمفردنا"، مؤكّداً أنّ "رجاء يسوع مختلفٌ لأنّه يولّد في القلب اليقينَ بأنَّ الله يعرف كيف يحوّل كلّ شيءٍ إلى خيرٍ، لأنَّه يُخرِجُ الحياة حتَّى من القبر" (موعظة ليلة عيد القيامة، 11 نيسان 2020).
إنّ نور المسيح يدعونا إلى عدم الاستسلام لليأس، وإلى أن نغذّي روح الرجاء فينا، أي الثقة غير المشروطة ولا المحدودة بفادينا. إنَّ الكلمة الفصل لا تعود إلى الظلام والموت، فيسوع فادينا الإلهي أمينٌ وقادرٌ على كلّ شيءٍ، ومعه لا يضيع شيء. هو الذي أزاح الصخرة عن باب القبر، ويستطيع أن يُحطِّم الصخور التي تُغلق أبواب قلوبنا.
5. يسوع يتقدّمنا إلى "الجليل"
بالعودة إلى نصّ الإنجيلي متّى، يكلّف الملاك، وبعده يسوع، المريمات بالذهاب إلى الرسل وإبلاغهم بأنّ الرب القائم "يتقدَّمكم إلى الجليل" (مت28: 7)، "وهناك يرونني" (مت28: 10). إنّ يسوع يتقدّمنا إلى "الجليل"، هذه الكلمة تحملُ في طيّاتها معنيَيْن: الأول من الناحية الجغرافية، والثاني من الناحية الروحية.
أولاً، بما أنَّ الجليل هو "المدخل إلى العالم"، هو "جليل الأمم" (مت4: 15)، أرسل يسوع إليه تلاميذه، لينطلقوا منه حاملين بشرى القيامة. إنّها دلالةٌ على أنّ نور الإنجيل هو للعالم كلّه، وليس فقط للتلاميذ والشعب اليهودي. وعلى مثال النسوة المبشّرات بقيامة فادينا، واقتداءً بالتلاميذ حاملي هذه البشرى إلى العالم، نعيش الرجاء "فوق كلّ رجاء"، ونحمل هذا الرجاء إلى جميع الناس التائقين إليه، كي يفرحوا بغلبة الحياة على الموت.
ثانياً، لقد وعد يسوع تلاميذه بأن يسبقهم إلى الجليل، وها هو يرافقنا، بل يسبقنا دوماً، وينير "جليلنا اليومي"، ويزور حياتنا اليومية بمراحلها كافّةً. هو أيضاً يدعونا للعودة إلى ذلك المكان حيث التقينا بيسوع للمرّة الأولى، إلى المكان الذي يحمل كلّ ذكرياتنا، حيثُ وُلِدنا ونُولَد مجدَّداً مِن دعوة حبٍّ مجّانية. يريدنا يسوع الحيّ فينا أن نعيش الرجاء وننشره أينما حللنا، فيعمّ الفرح فينا وحولنا.
علينا أن نحمل العزاء، ونتقاسم أعباء الآخرين، ونبشّر بغلبة الحياة على اليأس والحزن والقلق، لتأتي شهادتنا عن قيامة الفادي صادقةً ومُقنِعةً، ونحن نتواكب برفقة الرب يسوع، فنبقى قرب إخوتنا وجميع المحتاجين إلى سندنا الأخوي، خاصّةً في هذه الأيّام الصعبة التي نعيشها. وهذا ما تعمل عليه الكنيسة من خلال ما تطلقه من مبادراتٍ للوقوف إلى جانب المؤمنين في مواجهتهم المحن والأزمات على أنواعها، وفي السير نحو "كنيسة سينودسية: شركة ومشاركة ورسالة".
6. هلمّوا نفرح!
"إفرحوا دائماً في الرب، وأقول لكم أيضاً: إفرحوا" (فل4: 4). هلمّوا، أيّها الإخوة والأخوات، نلبّي دعوة رسول الأمم إلى الفرح. هلمّوا نفتح قلوبنا لنِعَم القيامة، فنقوم بفعل توبةٍ صادقةٍ، أي نعود بثقةٍ بنويةٍ إلى أبينا السماوي بندامةٍ عميقةٍ، كي ننال المغفرة، فيملأنا الفرح، كما غمرت السعادة قلبَ الإبن الشاطر، إذ ضمّه أبوه إلى حضنه.
لِنُلقِ عن كاهلنا ثقلَ همومنا البشرية التي تنسينا دعوتنا الحقيقية أن نطلب أولاً ملكوت السماوات وبرّه. لنجدّد ثقتنا كاملةً بيسوع "القيامة والحياة"، فنسير معه على درب آلامه نحو جلجلة الفداء، حيث اكتملَ أعظمُ حبٍّ عرفته البشرية، ونضحي شهوداً أمناء لقيامته.
لِنسعَ، أحبّائي، كي نكون رسلاً لإنجيل الرب الخلاصي، راسخين في الإيمان، وثابتين في الرجاء، ومتفانين في أعمال الرحمة والمحبّة.
7. صدى العيد في عالمنا اليوم
انتصر ربّنا يسوع المسيح على الخطيئة والموت بقيامته ظافراً بعد أيّامٍ ثلاثة. فحُقَّ لنا أن نحتفل معه بهذا العيد المجيد، إذ يستحقّ شعبنا المضطهَد والمعذَّب منذ فجر المسيحية في هذا الشرق، أن يرى النور المنبعث من القبر الفارغ مُشرقاً عليه، وينعم بحياةٍ كريمةٍ ومستقبلٍ مستقرٍّ وسلامي. فلا يزال أبناؤنا يعانون، ولا تزال أوطاننا ترزح تحت وطأة الخراب والدمار والعذابات، ما ينغّص فرحة العيد.
إنّ لبنان يُعاني ما يعانيه على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية كافّةً، فضلاً عن انهيار العملة الوطنية، واستمرار تعدُّد أسعار صرف الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية، وحجز أموال المودعين في المصارف وسرقتها، وكل ذلك دون أن يرفّ جفنٌ لدى من يعنيهم الأمر من الذين ابتُلِيَ بهم الوطن واستلموا مواقع المسؤولية في الدولة. هؤلاء الفاسدون والمُفسدون يُمعِنون في تعطيل عمل المؤسّسات السياسية والدستورية والإدارية، ويهدمون آمال الشباب اللبناني بالبقاء في وطنهم، وبناء مستقبلهم فيه.
إنّنا نشجب التقاعس المتعمَّد من قِبَل المسؤولين عامّةً، والنواب خاصّةً، الذين صمّوا آذانهم عن التجاوب مع ما يمليه عليهم الحسّ والضمير والكرامة الوطنية. عليهم أن يكفوّا عن المماحكات والمناورات، فينتخبوا فوراً رئيساً للجمهورية يكون الأجدر والأنزه، كي يُنقذ ما تبقّى من هذا الوطن الحبيب، وينتشله من كلّ ما يتخبّط به من أزماتٍ وكبواتٍ، ويعمل دون إبطاءٍ على تشكيل حكومةٍ وطنيةٍ تقوم بتنفيذ الإصلاحات الواجبة، ليعود لبنان إلى الخارطة الدولية، وإلى سابق عهده من التطوّر والازدهار. إلا أنّنا نرى أنّ المسؤولين في هذا البلد عازمون على عدم انتخاب رئيسٍ، كيلا تتمّ محاسبة الفاسدين وردعهم عن انتهاك حقوق اللبنانيين، وكي يبقى التفلّت سائداً في كلّ مرافق الدولة وأركانها التي بدأت تتهاوى الواحد تلو الآخر، بانتظار الارتطام الكبير الذي بات وشيكاً، إن لم يعُد المسؤولون ويرتدعوا.
فها هو الدمار الشامل يتربّع على عرش المؤسّسات التربوية والإستشفائية، وكأنّما المسؤولون يسعون بكلّ قدرتهم لتفتيت كلّ معقلٍ وصرحٍ تربوي وطبّي، بينما يقاوم المخلصون ويبذلون الجهود المضنية كي يبقى لبنان منارةً ورسالة.
ولا يسعنا إلا أن نجدّد مطالبتنا الدائمة بإنهاء التعطيل المقصود في تحقيقات تفجير مرفأ بيروت الإجرامي، بغية الوصول إلى كشف الحقيقة في هذا الملفّ، ومحاكمة المتّهَمين ومحاسبتهم عمّا ارتكبوا من جريمة نكراء.
نسأل الرب يسوع القائم أن تحمل هذه الأعياد المباركة الرجاء والقيامة الحقيقية لهذا الوطن، لأنّ الشعب يستحقّ الحياة الكريمة، والشباب الأملَ بغد أفضل لهم في بلدهم.
وسوريا التي تعاني الأزمات والحروب منذ سنواتٍ، كيف لا نشعر ولا نتألّم بسبب الزلزال المروّع والهزّات الإرتدادية الذي أصابتها، لا سيّما في حلب والمناطق الشمالية الغربية! وخلال الزيارة الأبوية التفقّدية التي قمنا بها إلى حلب في شباط الماضي، عاينّا بعض نتائج هذه الكارثة، وما سبّبته من دمارٍ هائلٍ، ومن فقدان الأهل والأحباب، وخلّفته من جروحٍ نفسيةٍ وجسديةٍ، مع الخوف والقلق الشديدين. ومع هذه النكبة الطبيعية وما حملته من آلامٍ ومعاناةٍ، لمسنا صدق التضامن والتعاضد بين جميع المواطنين دون تفرقةٍ أو تمييز.
ومع بارقة الأمل التي تلوح في الأفق مبشّرةً بانفتاح سوريا إقليمياً ودولياً، نسأل الله أن يحميها من الإرهاب والشرور، ويجمع المواطنين بمصالحةٍ صادقةٍ، كي يحقّقوا معاً الإعمار والسلام والاستقرار.
وفي العراق، أرض ما بين النهرين، حيث تشرّفنا في شباط الماضي بزيارة فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس النواب ودولة رئيس مجلس الوزراء وسعادة رئيس المحكمة العليا، لمسنا لديهم روح الإنفتاح على قضايا الشعب وحاجاتهم المشروعة دون تمييزٍ، وعلى الرغبة في العمل لإعادة جمع مكوّنات الوطن في بوتقةٍ واحدة. وقد عبّروا لنا عن تقديرهم للمكوّن المسيحي واعترافهم به مكوّناً أصيلاً ومؤسِّساً في البلد. وبدورنا أكّدنا لهم تمسُّك المسيحيين بوطنهم الغالي العراق والبقاء أوفياء له، ومحبّتهم له رغم الصعوبات والتحدّيات.
وإذ نعود من زيارتنا الأبوية إلى أبرشية الموصل، حيث فرحنا وتعزّينا بترؤّسنا الاحتفال المهيب ومسيرة الشعانين في شوارع قره قوش (بخديدي)، بمشاركة الآلاف من المؤمنين، نصلّي كي يتابع المسؤولون عملهم لبناء السلام والألفة بين مختلف المكوّنات، فتتضافر الجهود لعودة العراق الغالي إلى استقراره وازدهاره.
وتركيا، التي عانت وتعاني بسبب الزلازل المدمّرة والمتلاحقة التي تعرّضت لها في الأسابيع الماضية، مع كلّ ما سبّبَتْه من دمارٍ وضحايا وآلام. أملُنا أن يستمرّ تعاضُد حكّامها ومسؤوليها ومواطنيها لنجدة المنكوبين والمتضرّرين، وإعادة بناء ما تهدّم، ضارعين إلى الله كي يجنّب هذا البلد والعالم خطر هذه الكوارث ومثيلاتها.
والأراضي المقدسة، حيث عدم الإقرار بحقوق الآخر لا يزال متجذّراً في نفوس البعض، ممّا يسبّب الخلافات والعداوات، نصلّي من أجلها كي تكون أرض سلامٍ ووئامٍ وأخوّةٍ، فتتلاقى القلوب في الله الواحد، وهو المحبّة والسلام.
ومصر والأردن وبلدان الخليج العربي، فإنّنا نثمّن الجهود المبذولة من الحكومات والمسؤولين فيها لتعزيز الازدهار ونشر الوئام والانسجام بين مختلف المكوّنات، ممّا ينشر فيها جوّاً من الألفة والمودّة والتسامح.
إنّنا نجدّد صلاتنا من أجل إحلال السلام والأمان في العالم، وخاصّةً على نيّة إنهاء الحرب المدمِّرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي تهدّد السلام والاستقرار العالميين، ومن أجل وضع حدٍّ لكلّ الحروب والأزمات في كلّ مكان.
كما نتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في بلدان الإنتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، ونحثّهم على متابعة الشهادة للرب يسوع والتعلّق بإيمانهم والتزامهم بكنيستهم وتراثهم السرياني ومبادئهم الأصيلة التي تربّوا عليها في بلادهم الأمّ في الشرق، إلى جانب محبّتهم وإخلاصهم للأوطان الجديدة التي احتضنَتْهم، فيبقى حضورنا مشعّاً وسط عالمنا المضطرب.
وإنّنا نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التام. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوَزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله كي يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.
8. خاتمة:
نختم رسالتنا بصلاةٍ من وحي عيد القيامة، نستوحيها من القديس مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة:
«ܒܗܳܢܳܐ ܥܺܐܕܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ ܨܰܒܶܬ ܠܰܢ ܡܳܪܝ̱ ܒܢܰܟܦܽܘܬܳܐ. ܒܗܳܢܳܐ ܥܺܐܕܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ܆ ܙܰܡܶܢ ܠܰܢ ܠܰܓܢܽܘܢ ܢܽܘܗܪܳܐ... ܫܰܝܢܳܟ ܢܰܡܠܶܟ ܒܰܝܢܳܬܰܢ܆ ܘܰܨܠܽܝܒܳܟ ܢܢܰܛܰܪ ܠܟܽܠܰܢ. ܫܰܝܢܳܟ ܡܳܪܽܢ ܘܰܫܠܳܡܳܟ ܫܰܟܶܢ ܠܰܢ ܒܝܽܘܡ ܥܰܕܥܺܐܕܳܟ. ܒܰܗܳܢܐ ܝܰܘܡܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ ܚܰܕ̱̈ܬܶܐ ܢܗܶܐ ܚܠܳܦ ܥܰܬܺܝ̈ܩܶܐ. ܒܗܳܢ ܢܽܘܗܪܳܐ ܚܰܕ̱ܬܳܐ ܢܶܢܗܰܪ܆ ܕܰܐܢܗܰܪ ܡܳܪܝܳܐ ܠܢܰܦܫ̈ܳܬܰܢ». وترجمته: "في هذا العيد المقدس، زيِّنّا يا ربّ بالعفاف، في هذا العيد المقدس، أُدعُنا إلى خدر النور... فليملك أمانك بيننا، وليحفظنا صليبك جميعاً. امنحنا ربّنا أمنك وسلامك في يوم عيدك. في هذا اليوم المقدس، فلنُضحِ جدداً بدلاً من عتقاء. ولنستنِر بهذا النور الجديد، إذ أنار الرب نفوسنا" (من باعوث أي طلبة مار أفرام، صلاة الساعة التاسعة من صباح أربعاء القيامة في كتاب الفنقيث ܦܢܩܝܬܐ، الجزء الخامس، صفحة 406).
وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. والنعمة معكم. كلّ عام وأنتم بألف خير.
ܡܫܺܝܚܳܐ ܩܳܡ ܡܶܢ ܒܶܝܬ ܡܺܝ̈ܬܶܐ... ܫܰܪܺܝܪܳܐܺܝܬ ܩܳܡ
المسيح قام من بين الأموات... حقًّا قام
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت – لبنان
في اليوم الخامس من شهر نيسان/ أبريل سنة 2023
وهي السنة الخامسة عشرة لبطريركيّة السريان الكاثوليك الأنطاكيّة
غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي
هذه الرسالة نُشرت على صفحة بطريركيّة السريان الكاثوليك الأنطاكيّة على موقع فيسبوك.