مواعظ الأسبوع المقدّس 2023 من غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو

تجدون في التالي مواعظ الأسبوع المقدّس من غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم.

بكلّ سرور أُقدّم لكهنتنا الأعزّاء مواعظ الأسبوع المقدّس، لكي تساعدهم على إعداد كرازاتهم، خصوصًا أنّهم منشغلون في هذه الأيّام بتحضير الرُتَب اللّيتورجيّة.

تجعلنا قراءة معمّقة للأحداث الّتي عاشها المسيح، أي السرّ الفصحي، في يقظة لمواجهة الأحداث الثقيلة الّتي يعيشها عالمنا، وحالة عدم الإستقرار والقلق والمعاناة.

ضروري للغاية

أن يُسلِّط الواعظ الضوء على أهمية الإيمان والصلاة في هذه الأوضاع فضلاً عن التذكير بتراثنا المسيحي الحيّ.

تحمل هذه الاحتفالات علامات قوية للأمل بالمستقبل.

الإيمان يساعد الإنسان على تخطي الصعوبات،

وفي الصلاة يعبّر “عن قلب ثابت يتَّكل على الله” (مزمور 112/ 7)، فيها يجد سنداً قويّاً للرجاء والصمود وعدم الاستسلام.

الشعانين

من سيُنصِّب المسيح ملكاً؟

هو الله الذي سيبعثه حياً الى الأبد

دخول المسيح الى اورشليم (لوقا 19/ 29-38)، موكب مسيحاني إحتفالي، لا علاقة له بالسياسة. دخولُه المدينة المقدسة وهيكلها حجٌّ، وليس مظاهرة إنقلابية. هذا واضح من معالم الإحتفال المتواضعة. دخولُه صورة رمزيّة، تسبق إرتفاعه على الصليب في جبل الزيتون. بدخوله إلى اورشليم ضَجَّتِ المدينة (متى 21/ 10) تماماً كما كانت قد ارتجَّت في ولادته (متى 2/ 3)، لأن الآمه مخاض ولادة جديدة، وقيامة مجيدة، وجماعة جديدة (الكنيسة).

في الهيكل يُعلن التلاميذ إيمانهم بيسوع، بينما يرفضه رجال الدين والمتشدّدون، ويصدمهم هو بتطبيق نبوءة زكريا على نفسه: “اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً متواضعاً… وتُستاصَلُ قَوسُ القِتال ويُكَلِّمُ الأُمَمَ بِالسَّلام” (زكريا 9/ 9-10).

في هذا المشهد الاحتفالي، يعلن لوقا، المسيح ملكاً، بالرغم من المظاهر الفقيرة: ركوبه على “جحش”، واستقبال الجمهور بسعف النخل وهتاف الاطفال: اوشعنا لابن داود.. وليس راكباً على فرس مزيّنة أو ببنادق الجنود. مُلكه من مستوى آخر، لكن حُجبَت عقولهم عن إدراك ذلك.

ليست الجموع من سينصِّب يسوع ملكاً، لكن من سينصِّبه هو الله، عندما سيبعثه حياً الى الأبد. الجموع إنقلبت عليه بتاثير رجال الدين وراحت تهتف في الجمعة العظيمة: اُصلبه اُصلبه. في هذا السياق، يأتي طلب اليهود ليسكّت تلاميذه والجموع، لكن يسوع يجيب: إن سكتَ هؤلاء فالحجارة ستهتف. يسوع هو ابن الله الذي يزور شعبه ليخلّصه، لكن الشعب يقتله (مَثَل الكرّامين القتلة، متى 21/ 33-46).

التلاميذ، حيارى وحزانى، لكن يسوع يشجِّعهم ويَشحن رجاءهم بخطاب إسكاتولوجي: “لا تَرَونَني حتَّى يَأتيَ يومٌ تَقولونَ فيه: تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ!” (لوقا 13/ 35).

دخول المسيح إلى الهيكل، دخولٌ إلى قلوبنا وحياتنا، وبيوتنا وكنائسنا وبلداننا. دخوله يحثّنا على اتّباعه إلى النهاية بأمانة وثقة، وحماسة وفرح، معطينَ له كلَّ شيء، لكي يصير لنا طريق الحياة.

لنهيئ ذاتنا لاستقباله من خلال الاهتداء والمصالحة والتجديد، وبقلوب بيضاء ونقيّة كقلوب الأطفال…

خميس الفصح

من يخون الأمانة ينتهي سريعاً

نحن أمام مشهد تراجيدي:

موقفان متناقضان للتعامل مع يسوع: بطرس ويهوذا

فصح يسوع بحسب إنجيل يوحنا هو يوم الصلب، لذا لا نجد عنده الحَمَل الفصحي كما هو عند متى ومرقس ولوقا. يسوع المصلوب هو الحَمَل الفصحي للعهد الجديد.

ما يعطي المعنى لغسل الأرجل والذهاب الى الموت هو قول الإنجيل: لقد احبَّهم للغاية (يوحنا 13/ 1). يكشف غسل يسوع لأرجل التلاميذ عن التجاوب مع حبّهم العظيم: الأمانة والخدمة من جهة، والكذب والخيانة من جهة اُخرى.

بطرس يرفض في البداية غسل رجليه، ثم يندم ويقبل ويتحمَّس ويرافقه في موته. أما يهوذا فراح يعجِّل ساعة موته من أجل الحصول على شيء من المال، بالرغم من مبادرة يسوع بإعطائه لقمة الخبز علامة الصداقة والمشاركة. هذا المشهد – الخيانة نجده  في قصة اجتماعية – سياسية عندما يقوم بروتس الذي كان يوليوس قيصر قد تبنّاه واعتنى به، بضربه خنجراً في ظهره فأرداه قتيلاً؟ وقول يوليوس قيصر المشهور: وأنت أيضاً يا بروتس؟ هذا المشهد حاضر في مجتمعنا العراقي والمسيحي. خيانة الأمانة والوطن في سبيل المصالح الخاصة والفئوية…  والخيانة الزوجية!!

النتيجة، الأمين يَخلُص والخائن ينتهي. يهوذا ينتحر، وبطرس يتحتم عليه أن يجاهرَ بإيمانه وحبّه قبل أن يمنحه يسوع الثقة ويعهَد اليه مهمة رعاية الكنيسة – الجماعة.

الخائن لن يعيش بل ينتهي جسدياً ومعنوياً،

الأمين يتألم ويعاني، لكنه بركة وتبقى صورته خالدة…

بعد غسل الأرجل يعود يسوع يجلس الى المائدة ثانية ويُعلّم تلاميذه: “فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضاً أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعض. فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم” (يوحنا 13/ 14 و 15).

انها مدرسة يسوع، نتعلم منه كيف نكون شهوداً وخُدّاماً متواضعين، كيف نحبّ ونخدم ونغفر… تُشكّل التلمذة أساس الشِركة مع يسوع والعلاقة بيننا. إنها تجعل الجماعة المسيحية (الكنيسة) تنمو وتزدهر. هذه الشِركة عبور منذ الآن الى القيامة والحياة، اذ يختم يسوع تعليمه قائلاً: “طوبى لكم اذا عملتم هذا” (يوحنا 13/ 17).هذا يتيحُ لنا أن نتذوق فرح الانجيل، فرح التطويبات منذ الآن. ممارسة هذه التطويبة تجعلنا نخرج من بعض التوترات ونتحمّل الآخر ونقوّي الشركة. “ما أَطيَبَ، ما أَحلى أَن يَسكُنَ الإِخوَةُ مَعاً!” (مزمور 133/ 1). علينا أن ندرك الآفاق التي تنفتح لنا.

الجمعة العظيمة

لنستودع ذاتنا مثل يسوع بين يدي الله بمحبة وثقة

“فأَمسَكوا يسوع، فخَرَجَ حامِلاً صَليبَه إِلى المَكانِ الَّذي يُقالُ لَه مَكانَ الجُمجُمة، ويقالُ لهُ بِالعِبرِيَّةِ جُلْجُثَة. فَصَلبوهُ فيه، وصَلَبوا معَه آخَرَين، كُلٌّ مِنهُما في جِهَة، وبَينَهما يسوع (يوحنا 19/ 17-18).

علينا أن نقرأ هذه الأحداث في جوّ من الخشوع والصلاة والسكينة…

يسوع يسير نحو موته بصورة واعية: “الراعي الصالح يتخلى عن حياته لأجل خرافه“. الجملة تتكرر ثلاث مرات (يوحنا 10/ 11 و 18).

دُهِنَ يسوع بالطيب في بيت عنيا قبل الفصح بستة أيام، مقدمة إحتفالية نحو القيامة والمجد، بالرغم من الظلم الشنيع الطاغي في عملية الصلب. يسوع الذي تعرَّض للخيانة والصلب تبدأ ملامح قيامته ومجده بالظهور. صلبه بين إثنين، أي في المركز هو مكان الشرف. والرُقعة المعلّقة فوق الصليب المكتوب عليها: “هذا مَلِكُ اليَهود” (يوحنا 19/ 19) هي دليل على ذلك. والكتابة باللاتينية واليونانية والعبرية – الآرامية أي بلغات العالم آنذاك، تشيرُ الى انه مَلِكُ البشرية كلها. هذه الكتابة نبوية وإعلان ملوكي، وعلى الجميع ان يعرفوا ذلك… وبيلاطس عندما قدّمه لليَهود قال كلاماً رسميّاً: “ها هُوَذا الرَّجُل!” (يوحنا 19/ 5) أي الرجل الكامل.

إستاء رؤساء الكهنة من هذه الشمولية، لكن بيلاطس أصرَّ على إبقاء العبارة “ما كُتِبَ قد كُتِب!” (يوحنا 19/ 22). فيسوع المسيح هو مَلِك، لكن من مستوى آخر كما يعلن نثنائيل: “راِّيي، أَنتَ ابنُ الله، أَنتَ مَلِكُ إِسرائيل” (يوحنا 1/ 49). وهذا يتماشى تماماً مع ما قاله الملاك في البشارة: “سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية” (لوقا1/ 31- 33).

يسوع يُعلَن ملكاً بالصليب الذي هو صليب القيامة، صليب فارغ، من دون جسد كما في كنائسنا الكلدانية. هناك وعي عام يعبّر عنه إنجيل يوحنا بأن موتَ يسوع هو تعبير عن حبّ عظيم، وأن محبةَ الله سوف تَغلب في النهاية. الحبّ يتجلّى عِبر الآلام. هذا الإيمان يمنح المؤمنين الثقة بأن يسوعَ المصلوب لم يُهزَم ولم ينتهِ، بل هو مُنتصرٌ على الشَرّ، ويمدُّ يده لكل إنسان ليُخرِجَه من الشَرّ والخطيئة. هذا يتم عندما يصبح اتّباع يسوع موضوع حبّ حتى العمق والنهاية.

هناك مشهد خاص بيوحنا: وجود مريم والتلميذ الحبيب الى جانبها تحت الصليب. يقول يسوع لمريم: “هذا ابنُكِ وللتلميذ هذه اُمُّكَ، ومن تلكَ الساعِة أخذها التلميذ الى بيتِه” (يوحنا 19/ 26-27).

لا يريد يسوع ان تبقى اُمّه وحيدة، بل بمبادرة مليئة بالحب والحنان والشكران يعهدها الى يوحنا. مريم صورة الكنيسة هي اُمّ المؤمنين الذين يمثّلهم التلميذ الحبيب. يوحَنا في هذه اللحظة يمثّل كلّ واحدٍ منّا وكلّ البشرية. يريد يسوع من مريم أن تبدأ اُمومة جديدة وصِلَة جديدة مع تلاميذه (الكنيسة). يقول اوريجانس (+ 253) أحد أباء الكنيسة: “لا أحد يستطيع فهم إنجيل يوحنا، اذا لم يكن قد إرتمى على صدر يسوع، وقبِل مريم اُمّاً له“. يسوع يصلي: يا رب بين يديك استودع روحي.. كلُّ شي قد تم” (يوحنا 19/ 30).

القيامة

الحَجَرُ الَّذي رَذَلَهُ البنَّاؤُونَ صارَ رَأسَ الزَّاوِيَة

من عِندِ الرَّبِّ كانَ ذلك وهو عَجَيبٌ في أَعيُنِنا (متى 21/ 42)

قيامة المسيح تعزية ورجاء وانتعاش للحياة

ظنت ماكنة الأشرار انها قضت على يسوع نهائياً، لكن ماكنة الخير، التي هي ماكنة الله فاجأتهم وأقامته حياً ومنتصراً. قيامة المسيح لا تزال تتواصل بعد الفي عام، في قلوب الملايين من البشر.

علينا أن نذهب الى العمق، بعيداً عن عيون الجسد العاجزة عن رؤيته، وعن المفاهيم السطحية، والتأويلات المغلوطة. لنقرأ علامات حضوره، والتأمل بها، والتمعُّن فيها وفهمها وعيشها عِبر الصلاة والصمت ونور النعمة لنتعرّف أكثر وأكثر على البعد الوجودي لسرّ قيامة المسيح فتسير حياتنا منذ الآن نحو القيامة والحياة والفرح.

مواقف التعثُّر في الإيمان بالقيامة عند مريم المجدلية وبطرس وتوما والصيادين هي مواقفنا نحن أيضاً في اكتشاف المسيح الحيّ والانفتاح على أهمية رسالته والشهادة لها بقوّة.

هنا يتطلب منا أن نفتحَ آفاقنا ونندفع بإعجاب وحماسة الى الرسالة والشهادة له بفرح وإندهاش كما فعلت المجدلية في القيامة، وبطرس والتلميذ الآخر وتوما عندما خَرَّ أمام قدميه ساجداً ومعبِّراً عن إيمانه بعبارة: “رَبِّي وإِلهي!” (يوحنا 20/ 28). موقف توما مصدر تعزية لنا.

يلحّ إنجيل يوحنا على التعرّف على الحي – القائم من بين الأموات واكتشاف حضوره حيّاً بيننا في كنيستنا والشهادة لها بواقعية وطريقة جديدة خصوصاً في مجتمع يميل أكثر فاكثر الى العلمَنة واللامبالاة والفردية والاستهلاك والفوضى.

إنجيل يوحنا هو إنجيل الذين لهم الإيمان بيسوع الحياة والنور والرجاء. والحياة معه تصبح نوراً وفرحاً كما هو شعار ليتورجيتنا الكلدانية القيامة والحياة والتجدد ܢܘܗܪܐ ܘܚܝ̈ܐ ܘܚܘܕܬܐ̤ “فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس” (يوحنا 1/ 4).

علامات الانبعاث واضحة إيمانياً: القبر الفارغ، اللفائف على الأرض والتلميذ الذي كان يُحبّه “رأَى وآمَنَ” (يوحنا 20/ 8). لننصت الى المسيح المنبعث يقول: “طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا” (يوحنا 20/ 29)، هذه الطوبى يجب ان تمسّ قلوبنا وتساعدنا أن نكون أكثر نضجاً وثقة وانتعاشاً وسلاماً وسط معاناتنا وألمنا وقلقنا ومخاوفنا. يجب ألّا نقف مكتوفي الأيدي وننتظر الحلول الجاهزة. لنعطِ القدرة للروح ليعمل في صلاتنا، ولنَسِر معاً قُدماً بإيمان وثقة ونتعاون من أجل المستقبل، ومثلما فَرِحَ التَّلاميذُ “لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ” (يوحنا 20/ 20) نحن أيضاً سوف نفرح بمشاهدة مستقبل بشريتنا في العيش بسلامٍ واستقرارٍ وحرية وكرامةلتشحن قيامة المسيح رجاءَنا.

هذه المواعظ نُشرت على موقع البطريركيّة الكلدانيّة في بغداد.

Previous
Previous

‎قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني يكرّم نيافة المطران مار ثاوفيلوس جورج صليبا

Next
Next

غبطة البطريرك يوسف العبسي يشارك في رتبة صلاة الختن التأمليّة مع رعيّة وشبيبة الروم الملكيّين الكاثوليك عبر تطبيق زوم