قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني يترأّس قدّاس عيد الميلاد المجيد في كاتدرائيّة مار جرجس البطريركيّة في باب توما، سورية
صباح يوم الأحد ٢٥ كانون الأوّل/ ديسمبر ٢٠٢٣، إحتفل قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة في العالم، بالقدّاس الإلهي لمناسبة عيد الميلاد المجيد في كاتدرائيّة مار جرجس البطريركيّة في باب توما - دمشق، سوريا.
وقد عاون قداسته في القدّاس الإلهي نيافة المطارنة: مار كيرلس بابي، النائب البطريركي لأبرشيّة دمشق البطريركيّة، ومار يوسف بالي، المعاون البطريركي، ومار أندراوس بحي، النائب البطريركي لشؤون الشباب والتنشئة المسيحيّة، ومار أوكين الخوري نعمت، السكرتير البطريركي، والمطران أرماش نالبنديان، مطران الأرمن الأرثوذكس في دمشق، إلى جانب إكليروس البطريركيّة في دمشق وبعض رهبان وطلّاب دير مار أفرام السرياني وجوقة مار أفرام السرياني الّذين خدموا القدّاس الإلهي.
ألقى قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني موعظة روحيّة جاء فيها:
اللّه يصبح ابنًا للإنسان والإنسان يصبح ابنًا للّه
”لِأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْنًا، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ ٱلسَّلَامِ.“ (سفر إشعياء 9: 6).
بهذه الكلمات، تنبّأ إشعياء النبيّ الذي وُلِد عام ٧٦٠ قبل الميلاد في مدينة أورشليم القدس، عن تجسّد الله الكلمة عند ملء الزمان، أيّ اكتمال الزمان، لافتقاد الله للبشرية بإرسال المسيح المنتظر ليفدي الخليقة كلها ويعيد الإنسان إلى مجده السابق.
لقد رأى إشعياء النبي بعين الروح يومَ الربّ الذي اشتهى كثيرون أن يروه ولم يروه كما يقول الربّ في الإنجيل المقدّس (متى ١٣: ١٧)؛ رأى ما لا يُرى. رأى الله يصبح بشرًا، فدعى اسمه عجيبًا. حقًّا، إنّه أمر عجيب أن يترك الله سماء عليائه ومجد سناه سالكًا طريق التواضع ليولد من بتول أرضية بدون زرع بشر. فيصبح إلهًا متجسدًا.
وهذا السر العظيم لا يفهمه الكثيرون، فيظنّون أنّنا نؤلّه إنسانًا، والحال أنّنا نُعلِن أنّ الله أصبح بشرًا، شاركنا بكلّ شيء ما عدا الخطيئة. وهذا ما يعبّر عنه القديس بولس الرسول بقوله في رسالته الأولى إلى تلميذه تيموثاوس: "”وَبِٱلْإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلَائِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي المجد.“ (١ تي ٣: ١٦).
ولكي لا يظنّ أحدٌ أنّ إشعياء يتحدّث عن أيّ ولد قد يولد أو طفل يُعطى لبني إسرائيل، فهو يطلق عليه صفات لا يمكن لبشر أن يتّصف بها: إنّه يدعو هذا المولود إلهاً قديراً وأباً أبديّاً ورئيساً للسلام.
لقد كان إشعياء فعلاً نبيّ زمن الميلاد والتجسّد الإلهي: ففي مكان آخر من نبوءته، يُعلن عن الحبل بهذا الطفل الإلهي إذ يقول: "وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْنًا وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ ».“ (إشعياء ٧: ١٤). وهنا يزيد فيعطيه اسماً يعبّر عن رسالته فيدعوه عمانوئيل أيّ الله معنا، كما يشرح بعدئذ القديس متى في الإنجيل المقدّس. إذًا، إنّ هذا الطفل المعجزة ما هو إلّا الله الآتي ليكون مع شعبه، يقودهم إلى الخلاص والحياة الأبدية.
أمام هذا الإعلان الإلهي بأنّ الله اختار أن ينضمّ إلى عائلتنا البشرية فينزل إلينا ويولد بيننا ليرفعنا إلى عالم الألوهية عبر طريق القداسة، نسأل أنفسنا: ماذا يعني كلّ هذا بالنسبة إلينا؟ ما هي مفاعيل هذا الحدث في حياتنا؟
إنّ الإجابة عن هذا التساؤل تَرِدُ على لسان القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية حيث يقول: ”إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا ٱلْآبُ ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لِأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلَادُ ٱللهِ.“ (
إذًا، أهمّ مفاعيل التجسّد الإلهي، أيّها الأحبّاء، هي إمكانيّة أن يصبح البشرُ أبناءً لله. فالله الذي وُلِد كطفل بيننا، منحنا إمكانيّة أن نصبح جميعًا أولاد الله. وهذا ما عبّر عنه أيضًا القديس يوحنا في إنجيله عندما قال عن السيّد المسيح: ”إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلَادَ ٱللهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللهِ.“ (يُوحَنَّا 1: 11-
بميلاده المخلّصي، صار الله ابناً للإنسان إذ ظهر بالجسد واحتمل آلام بشريّتنا من أجل خلاص العالم، كما يصرح هو نفسه بقوله: "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو ١٩: ١٠) وكذلك بميلاده أصبحنا نحن أبناءً لله. وهذه البنوّة لله تجعلنا أفراد أسرته أي أبناء بيته. لسنا بعد عبيداً بل أبناءً أعزّاء محبوبين من قِبَلِ الله منتهى الحبّ الذي يقوده إلى الموت، موت الصليب. وهذا ما قاله الربّ يسوع في الإنجيل المقدّس: ”لَا أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لِأَنَّ ٱلْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ، لِأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي.“ (يُوحَنَّا
أمام هذه المحبّة الفائقة وغير المتناهية، أيّها الأحبّاء، والتي تجسّدت بتخلّي الربّ عن مجده الإلهي وتجسّده، ومن ثمّ بتحمّله آلام الصلب والموت، وأخيراً بقيامته المجيدة، نحن مدعوّون إلى أن نتفاعل مع هذه المحبّة المُحيية. وبما أنّنا لا نستطيع أن نبادلها بالقدر ذاته بسبب محدوديّتنا البشرية، فإنّنا مدعوّون لأن ننهل من نبع المحبّة هذا الذي لا ينضب، فنعكس هذه المحبّة في حياتنا نحو الله ونحو أخينا الإنسان. وبهذا، نصبح شهوداً حقيقيّين للمحبّة الحقيقية التي هي الله. ”وَمَنْ لَا يُحِبُّ، لَمْ يَعْرِفِ الله، لِأَنَّ ٱللهَ مَحَبَّةٌ." (يُوحَنَّا ٱلْأُولَى 4: 8).
أيّها الأحبّاء،
يمرّ علينا عيد الميلاد المجيد هذه السنة وعالمنا يتخبّط بحروب وأوبئة ومجاعات وخصومات. وفي منطقتنا، ما زال بلدُنا العزيز سوريا ينوء تحت ثقل الحصار الاقتصاديّ الجائر والعقوبات الأحادية وغير الشرعيّة التي تصيب شعبَنا بأكله ومشربه، وتؤدّي إلى إفقار غالبيّة المواطنين. وكذلك الوضع في لبنان العزيز الذي، بالإضافة إلى الكوارث الاقتصادية التي يعاني منها والحرب التي تخوضها المقاومة في الجنوب دفاعاً عن الوطن وإغاثةً لشعب فلسطين، فقد ابتُلِي أيضاً بمصائبَ سياسيّةٍ شلّت فيه الحياة وأدّت إلى عدم انتخاب رئيسٍ للبلاد رغم مرور أكثر من سنة على الفراغ الرئاسي.
وتبقى المأساة الإنسانيّة الأكبر في هذه الأيّام، هي ما يحصل في غزّة بشكل خاص، وفلسطين أرض الميلاد بشكل عام. فالحرب الهوجاء التي تشنّها دولة الاحتلال إسرائيل على الشعب الأعزل هي الأقسى في تاريخنا المعاصر: ففي أقلّ من ثلاثة أشهر، سقط أكثر من عشرين ألف شهيد، بينهم آلاف الأطفال والرضّع. وأكثر ما يؤلمنا هو هذا الصمت القاتل من البعض أو المساندة المكشوفة من الآخرين. وبذلك، يشترك معظم حكّام العالم بهذه الجرائم ضد الإنسانية…
هذه العظة نُشرت على صفحة قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.