عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في أحد شفاء الأعمى
في التالي عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في قدّاس أحد شفاء الأعمى، يوم الأحد 3 نيسان/ أبريل 2022، في الصّرح البطريركيّ بكركي، لبنان.
"رابوني، يا معلّم، أن أبصر" ( مر 10: 51)
1. يسوع الّذي أعلن ذات يوم عن نفسه أنّه "نور العالم" (يو 8: 12)، آمن به طيما أعمى أريحا، أنّه يستطيع أن يُعطي النور لعينيه المنطفئتين منذ الولادة. ما يعني أنّ يسوع قد أنار بصيرة قلبه، فآمن.
وفي الواقع لمّا سمع الأعمى أنّ "يسوع الناصريّ" يمرّ، ناداه باسمه الإيمانيّ "إبن داود حامل الرحمة، ارحمني". ولـمّا سأله يسوع: "ماذا تريد أن أصنع لك؟ أجاب من دون تردّد :"رابوني أن أبصر" ( مر 10: 51).
نصلّي لكي يمنحنا المسيح-النور ويمنح كلّ إنسان، ولا سيما الغرقى في عمى القلب والضمير، ويهيمون في ظلمات مصالحهم وشرورهم، نعمة الشفاء من عمى البصيرة، الّذي هو العمى الحقيقيّ والأدهى والأخطر من عمى العينين.
2. يسعدني أن أحييكم جميعًا فيما نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، وأوجّه تحيّة خاصة إلى عائلتين عزيزتين محزونتين: عائلة المرحومة جانيت سلامة زوجة عزيزنا الأستاذ المحامي جان حوّاط، ووالدة عزيزينا باتريسيا ونسيب وقد ودّعناها معهم ومع الأنسباء والأصدقاء الكثر في جبيل بالأسى الشديد؛ وعائلة المرحومة سيّدة الحاج أبوناضر التي ودّعناها بكثير من الأسى في بسكنتا مع إبنها وبناتها ونذكر من بينهنّ الإعلاميّة ربيكا، إذ نعزّيها، التي نبارك لها بانتخابها عضوًا في الهيئة التنفيذيّة للرابطة المارونيّة. نصلّي لراحة نفس المرحومتين جانيت وسيدة، وعزاء عائلتيهما.
3. وإنّي أرحّب باللجنة التمثيليّة للأساتذة المتعاقدين في الجامعة اللبنانيّة، التي تضمّ 86000 طالبًا وطالبة. إنّها تمرّ بأزمة إداريّة وماليّة واقتصاديّة خانقة أدّت - بكل اسف - إلى إقفال أبوابها، وتشتّت طلّابها، وهجرة أساتذتها. نأمل من الحكومة والوزارة المعنيّة أن تجد سريعًا الحلول اللازمة والعادلة. فلا يجوز أن ينهار هذا الصرح التربويّ الوطنيّ الكبير أمام أعيننا، بعد إحدى وسبعين سنة من تأسيس هذه الجامعة على أسس متينة.
وفيما احيي نقيب الاطباء، أودّ ان اوجّه تحية الى الحكومة طالبًا منها ان تولي اهتمامًا خاصًا بالاطباء بسبب تردّي ظروف عملهم بسبب ما نعيشه من ازمة مالية. فاذا فقدنا الجامعة وفقدنا الاطباء وفقدنا المصارف ماذا يبقى في لبنان الّذي كان معروفًا بجامعة العرب ومستشفى العرب ومصرف العرب.
4. سقط نداء الأعمى الإيمانيّ في صميم قلب يسوع، فيما كان أناس ينتهرونه ليسكت، أمّا يسوع فأمرهم بأن يدعوه اليه. ولمـّا جاء لم يطلب صدقة كان يستعطيها من الناس، بل طلب منه ما عنده دون سواه:"أن يبصر". طلب النور لعينيه المنطفئتين. فقال له يسوع :"أبصر، إيمانك خلّصك" (مر 10: 52). ذاك الأعمى كان المبصر الحقيقيّ بين الجمع كلّه. هذا ما أراد يسوع إظهاره للملأ.
وهكذا، اكتمل الأعمى في إنسانيّته: بعينين خارجيّتين تنظران جمال خلق اللّه، وببصيرة القلب المستنير بالإيمان التي ترى ما وراء المحسوس والمنظور في عالمنا وفي حياتنا اليوميّة وأحداثها، وكلنا بحاجة لنور البصيرة الداخلية لنعرف كيف نقرأ علامات زمننا المتلاحقة والمتجدّدة.
5. أعطى يسوع ما عنده للأعمى. لا أحد يعطي ما ليس عنده. أعطاه النور أوّلًا لبصيرة قلبه، ثمّ لعينيه. بفضل شفاء الأعمى انكشفت هويّة يسوع ورسالته. هويّته أنّه النور، ورسالته أنّه ينير كلّ إنسان يأتي إلى العالم (يو 1: 4). إنّه نورنا بشخصه وكلامه وأفعاله وآياته. وهو بروحه القدّوس ومواهبه السبع ينير العقل والارادة والقلب. وقد "أرسله الآب نورًا يتجلّى للأمم" (راجع لو 2: 32).
6. في هذه الفترة القصيرة الإستعداديّة للإنتخابات النيابيّة في 15 أيّار المقبل، يحتاج شعبنا الناخب لأن يستمدّ النور الإلهيّ لكي يحسن إنتخاب من هم الأفضل لإجراء التغيير المنشود في الهيكليّات والقطاعات والإداء، ومن هم مخلصون للبنان دون سواه ومخلصون لشعب لبنان. فقيمةُ الانتخاباتِ في المجتمعات الديمقراطيّة أنّها مناسبةٌ للشعوب لتغييرِ واقعِها نحو الأفضل. أنْ ننتخبَ يعني أن نُغيّرَ. أن نَقترعَ يعني أن نختارَ الأفضل. وإذا كانت الانتخاباتُ ركيزةَ الديمقراطيّة، فلا يجب أن تكونَ الشعبويّةُ ركيزةَ الانتخابات. وجديرٌ بالمرشّحين أن يُحدّثوا اللبنانيّين عن مشاريعهم الإصلاحيّة الممكنة، بدلًا من التراشق باتهامات تزيد في الإنقسام والضغينة، وقد شبعنا منها. فليبادر الشعب اللبنانيّ بكلّيته إلى إنتخاب الأفضلين، إذا أراد حقًّا التغيير وإصلاح الواقع. وهذا لا يتم اذا ظل المواطنون في منازلهم والانتخابات جارية.
إنّ إنتخابات نيابيّة ناجحة في إجرائها ونتائجها هي ضمانة لنجاح إنتخاب رئيس جديد للجمهوريّة قبل شهرين من نهاية الولاية الحاليّة بموجب المادة 73 من الدستور، رئيس يكون على مستوى تحدّي النهوض بلبنان.
7. وبالمقابل، على الحكومة اللبنانيّة الإسراع في إجراء الإصلاحات الماليّة والإقتصادية، لأنّ سرعة الإنهيار تفوق بكثير بطء الإصلاحات . أسطع مثل على بطء الإصلاحات مشروع "الكابيتال كونترول" الّذي يحاولون تمريرَه بعدما فَرَغت صناديقُ المصارف، فيما كان عليهم اعتمادُه لدى بَدءِ الأزمةِ النقديّةِ سنةَ 2019. بقطع النظر عن طريقة تاليف اللجنة التنظيميّة بحيث تنأى عن التسييس والمذهبيّة وتفتيت صلاحيّة حاكميّة مصرف لبنان، فإن فائدةَ الـــ"الكابيتال كونترول" في كونه جُزءًا من مشروعٍ إصلاحيٍّ متكامِلٍ، وإلا يُصبح سيفًا مُصلَــــتًـــا على الناس يَمنعُهم من التحويلات إلى الخارج ومن سحبِ الأموال في الداخل أيضًا. فكيف يعيشون؟
ما لم يُعَدَّل هذا المشروعُ ليتلاءمَ مع واقعِ لبنان واقتصادِه الحرِّ وحاجةِ الناس، سيكون مشروعَ حَقٍّ يُرادُ به باطلٌ، إذ سيَعزِلُ لبنان عن الدورةِ الماليّةِ العالميّةِ، كما سيَدفع ثمنَه المودِعون والمستثمِرون والمستورِدون والمصدِّرون والمغترِبون وجميعُ القطاعاتِ الاقتصادية. فيجب حماية النظامِ الليبراليِّ الّذي شكّل، طَوالَ تاريخِ لبنانَ الحديث، أساسَ النموِّ والازدهارِ وبوليسةَ تأمينٍ للودائعِ اللبنانيّةِ والعربيّةِ والدُوليّةِ التي كانت تُوظَّفُ في المصارف اللبنانية، لكونها حتى الأمس القريب وُجهةً مضمونة…
هذه العظة نُشرت على موقع البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، لقراءة المزيد إضغط هنا.