مداخلة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في مؤتمر التسامح والسّلام والتنمية المستدامة في الوطن العربيّ
"التسامح في المسيحيّة ودوره في ترسيخ أسس السّلام الإجتماعيّ"
في التالي مداخلة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في مؤتمر التسامح والسّلام والتنمية المستدامة في الوطن العربيّ، 17- 18 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022، في مقرّ الأمانة العامّة للجامعة العربيّة - القاهرة.
معالي الأمين العام لجامعة الدول العربيّة، راعي هذا المؤتمر،
سعادة رئيس المجلس العالميّ للتسامح والسّلام
أصحاب القداسة والسماحة والنيافة والسّيادة والمعالي والسّعادة
السيّدات والسّادة
1. يسعدني أن أشارك في المؤتمر بدعوة كريمة من الدكتور أحمد بن محمّد الجروان رئيس المجلس العالي للتسامح والسّلام، ومن السفيرة الدكتورة هيفاء أبو غزالة الأمين العام المساعد، رئيس قطاع الشؤون الإجتماعيّة، وأن أتكلّم عن الموضوع المطلوب منّي: التسامح في المسيحيّة ودوره في ترسيخ أسس السّلام المجتمعيّ.
2. أودّ أوّلًا توضيح مصطلح التسامح الّذي يدعو إليه الجميع، تجنّبًا للوقوع في مفهومه السلبيّ. بالمفهوم الإيجابيّ، التسامح يعني قبول الآخر المختلف، والعيش معه بسلام ومساواة وتكامل. فبدون الآخر ليس بوسعي أن أعي ذاتي في غَيرِيَتها. فالآخر هو الطريق إلى ذاتي. ومع ذلك، عليّ أن أكون ذاتي لكي أستطيع اللّقاء بالآخر، ومحاورته ومعايشته والتنامي معه في تآلف الإختلاف. الإنتماء الديني والثقافي والحضاري والجغرافي، في مضامينه الفلسفيّة والوجوديّة، لا يعني بالضرورةِ التعارضَ مع الآخر والدخولَ معه في صراع الهويّات القاتلة. قبول الآخر بهذا المعنى يرسّخ السّلام الإجتماعيّ.
أمّا بالمفهوم السلبيّ، فالتسامح يعني مسًّا خطيرًا بحقوق الإنسان الأساسية. المتسامح هو الأقوى الذي يتنازل ويسمح للآخر المختلف والمستضعف بالبقاء على قيد الحياة، أو بمشاركته الحياة، ولكن ضمن ضوابط لا ترقى مطلقاً إلى مستوى الندية. لذا إعتماد الإنسان مبدأ التسامح تجاه إنسان آخر، أكان فردًا أم جماعة، ينمّ عن تصرّف فوقيّ، ولو كان الهدف نبيلًا وصادرًا عن سلطة يدّعيها فريق تجاه فريق آخر. أتسامح بوجودك، بسكنك، بعملك، بممارستك، بنمط حياتك المختلف ... لكن، من نكون حتى نستعمل سلطان التسامح تجاه أخ في الإنسانيّة؟ نفضّل قبولك بسلام، لا قبولك بتسامح. السّلام حقّ دائم ذاتيّ، بينما التسامح حقّ قابل للطعن، لأنّه مرهون بتسامح الآخر.
انطلاقاً من حقوق الإنسان الطبيعية، الكائن البشري لا يستجدي وجوده من أحد، وبناءً على ذلك، فهو ليس بحاجة إلى تسامح الآخرين في حقه اللامنقوص في الاختلاف. له الحريةُ المطلقة في أن يكون كما هو يريد أن يكون، ضمن حدود احترام الآخر في الأمور عينها والمحافظة على السلم العام.
3. ترتكز المسيحيّة في تعليمها على قبول الآخر المختلف دينيًّا وثقافيًّا وإتنيًّا وإجتماعيًّا، وعلى التضامن معه لمساعدته، والتكامل مع مواهبه لخير الجماعة البشريّة والمجتمع الذي نعيش فيه.
فالقاعدة الأساس هي أنّ جميع الناس أبناء للخالق الأحد وهو أبو الجميع، وكلّنا بالتالي إخوة وأخوات لهذا الآب السماويّ؛ والقاعدة أيضًا أنّ كلّ إنسان، ذكرًا كان أم أنثى، مخلوق على صورة الله، بتنوّع فرادته. ولكوننا مجبولين بالضعف نحتاج إلى فضيلتين أساسيّتين: المحبّة والمغفرة.
هذا هو الطريق الذي يؤدّي بنا إلى "ترسيخ أسس السّلام المجتمعيّ"، وهذه هي الوسيلة "لمكافحة الكراهية ونشر ثقافة التسامح في الخطاب الدينيّ".
إنّنا نلتقي هنا مع مقدّمة "وثيقة الأخوّة الإنسانيّة" (أبو ظبي 16 فبراير 2019) حيث نقرأ:
" يحملُ الإيمانُ المؤمنَ على أن يَرَى في الآخَر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبَّه. وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خَلَقَ الناسَ جميعًا وخَلَقَ الكونَ والخلائقَ وساوَى بينَهم برحمتِه، فإنَّ المؤمنَ مَدعُوٌّ للتعبيرِ عن هذه الأُخوَّةِ الإنسانيَّةِ بالاعتناءِ بالخَلِيقةِ وبالكَوْنِ كُلِّه، وبتقديمِ العَوْنِ لكُلِّ إنسانٍ، لا سيَّما الضُّعفاءِ منهم والأشخاصِ الأكثرِ حاجَةً وعَوَزًا."
4. نتناول من المسيحيّة ثلاثة نماذج متكاملة عن قبول الآخر المختلف (التسامح) بكلّ أبعاد هذا القبول. وهي تلتقي مع تعليم الإسلام و "وثيقة الأخوّة الإنسانيّة":
النموذج الأوّل، الإنفتاح على الإختلاف الدينيّ وعدم جعله حاجزًا أمام العلاقة مع الآخرين.
نذكر لقاء الربّ يسوع مع المرأة السامريّة على بئر يعقوب في مدينة من السامرة إسمها سوخار (يوحنا 4: 5-42)، جلس يسوع على حافّة البئر وكان تعبًا من السفر، فيما تلاميذه ذهبوا إلى المدينة يشترون طعامًا. جاءت إمرأة سامريّة لتستقي ماءً. فطلب منها أن تعطيه ليشرب. فأجابت: "أنت يهوديّ وأنا سامريّة. فكيف تطلب منّي أن أسقيك، واليهود لا يخالطون السامريّين" (الآية 9).
أمّا يسوع فأكمل حواره الصعب معها، مرتفعًا بها إلى قمم الروح، وأفهمها أنّه عارف بكلّ ظروف حياتها حتى هتفت: "يا سيّدي، أرى أنّك نبيّ" (الآية 19). وانتهى اللقاء بأنّ كثيرين من السامريّين آمنوا به، وألحوّا عليه أن يقيم عندهم، فمكث يومين (الآية 40).
أراد يسوع مواصلة الحوار مع تلك المرأة السامريّة لكي يخرجها من تقوقعها وأفكارها المسبقة. ويريد ذلك منّا جميعًا لكي ننفتح على جميع الناس كما فعل هو. ويحثّنا على أن لا نعتبر انتماءاتنا كافية لتبرئتنا، إذا كنّا لا نعيش حقًّا بحسب قيم هذه الإنتماءات وتعاليمها.
هذا التعليم يلتقي مع كلام الله في القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (سورة هود (11): آية 118). وأيضًا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة الحجرات (49): آية 13).
النموذج الثاني، التضامن مع الآخر المختلف ومساعدته على أساس المحبّة الشاملة والرحمة.
نذكر مثل السامريّ الصالح (لوقا 10: 30-37)، وقد شرح به يسوع لأحد معلّمي الشريعة معنى: "من هو قريبي" الذي عليّ أن أحبّه كنفسي؟ كما نقرأ في التوراة (الآيات 26-29). القصّة أنّ رجلًا كان نازلًا من أورشليم إلى أريحا. فوقع بين أيدي لصوص عرّوه وضربوه ثمّ تركوه بين حيّ وميت. مرّ على طريقه إثنان من ملّته ومسؤولان روحيًّا، الواحد تلو الآخر، كاهن ولاويّ، فمالا عنه ومشيا. ومرّ سامريّ مسافر – من غير ملّته ودينه – فتوقّف وضمّد جراحه وحمله على دابتّه وجاء به إلى فندق وأنفق عليه ما لزم.
فسأل يسوع عالم الشريعة: "أيّ واحد من هؤلاء الثلاثة كان قريب هذا المعتدى عليه؟ فأجابه: الذي عامله بالرحمة. فقال له يسوع: إذهب أنت واعمل مثله".
خلاصة هذا المثل: إنّ التضامن بين الناس بروح المحبّة والرحمة يجب ألّا يحدّه أيّ إختلاف دينيّ أو مذهبيّ أو إجتماعيّ. بهذا المثل يرتفع يسوع بمفهوم "القريب" من صلة الدمّ والعائلة أو الوطن أو الدين، إلى معنى روحيّ لاهوتيّ، هو أنّ كلّ إنسان قريب لأخيه الإنسان، لأنّهم جميعًا مخلوقون على صورة الله. لهذا علّم يوحنّا الرسول: "من كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجًا فأغلق قلبه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه. يا أبنائي، لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق." (1 يوحنا 3: 17-18).
هذا التعليم يلتقي مع الحديث الشريف "الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله". ويلتقي أيضًا مع "وثيقة الأخوّة الإنسانيّة"، التي إذ تنبّه إلى أهميّة دور الأديان في بناء السّلام العالميّ، تؤكّد "القناعةَ الراسخةَ بأنَّ التعاليمَ الصحيحةَ للأديانِ تَدعُو إلى التمسُّك بقِيَمِ السّلام وإعلاءِ قِيَمِ التعارُّفِ المُتبادَلِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المشترَكِ، وتكريس الحِكْمَةِ والعَدْلِ والإحسانِ، وإيقاظِ نَزْعَةِ التديُّن لدى النَّشْءِ والشبابِ؛ لحمايةِ الأجيالِ الجديدةِ من سَيْطَرَةِ الفكرِ المادِّيِّ، ومن خَطَرِ سِياساتِ التربُّح الأعمى واللامُبالاةِ القائمةِ على قانونِ القُوَّةِ لا على قُوَّةِ القانونِ"…
هذه المداخلة نُشرت على صفحة البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.