الكنيسة في مواجهة فيروس كورونا
عظة المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية في القدس، رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا، لأحد الفصح المجيد ٢٠٢٠
أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء،
وصلنا إلى نهاية الأسبوع المقدس، وهو بكلّ تأكيد، أهمّ الأسابيع، وأكثرها غرابة ودهشة.
لم نحتفل كما كنّا نريد. القيود المفروضة بسبب الوباء دفعتنا بصورة غير مباشرة إلى التفكير في ما هو ضروري فقط. شهدنا في هذه الأيّام الأخيرة، بطريقة جديدة، غياب العلاقات الطبيعيّة بيننا، غياب الإفخارستيا، غياب اللّقاء مع رعايانا. حوصرنا في منازلنا وفُرِضَت قيود على تحركاتنا، وبذلك أدركنا مدى أهميّة ما يُمنَعُ عنّا الآن: حريّة التحرّك، والمدرسة، ومكان العمل، والمشاركة في الحياة الجماعيّة، ولقاء الأصدقاء، وما إلى ذلك. صحيح أنّنا نتعلّم غالبًا قيمة ما لدينا، عندما نفقده. هذه هي حالنا الآن تجاه كل ما فقدناه. ولكن هناك غياب آخر أصبحنا ندركه في هذه الأيام، لا يقل أهمية: وهو إمكانية الاحتفال بسر الخلاص. إن عدم إمكانية الاحتفال بسر الخلاص، في هذه الثلاثية المقدسة، في هذه البيئة من الخوف والتردد، جعلنا أكثر وعياً بضعفنا وحدودنا.
أصبحنا جميعا ندرك، في هذه الأسابيع الأخيرة، كم نحن ضعاف وكم هي ضعيفة كل مؤسساتنا الاجتماعية. أصابتنا الشدة في أعز ما لدينا، فأصبحنا أكثر إدراكًا أن إمكاناتنا البشرية، مهما تطورت وبلغت لا تقدر أن تضمن لنا الخلاص. ظهرت من جديد في أنفسنا الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت، ومن نحن؟ أصبحنا ندرك أن الخلاص لا يرتبط فقط بقدرة العلم على حل المشاكل الكبرى في اللحظة الحاضرة – كلنا نريد ذلك ونسعى إليه ونحن له ممتنون –، إنما الخلاص مرتبط أولاً وقبل كل شيء بالسر الذي يسكن الطبيعة البشرية، والذي لا يمكننا اختراقه بصورة كاملة. لهذا السبب بدت استحالة الاحتفال بأسرار الخلاص في هذا الأسبوع عبسا صعبة وقاسية. لأن هذا السر بالنسبة لنا ليس لغزا غير قابل للحل، ولا هو وهم. سر الخلاص بالنسبة لنا له اسم، هو: "المـَسِيحُ الَّذِي قَامَ مِن بَينِ الأَموَاتِ"، والذي "لَن يَمـُوتَ ثَانِيَةً، وَلَن يَكُونَ لِلمَوتِ عَلَيهِ مِن سُلطَان" (روم ٦ : ٩) وهو الآن "جَالِسٌ عَن يَمِينِ الله" (قولوسي ٣: ١). في هذه الثلاثية المقدسة، نحتفل بهذا السر وهو لنا خبرة نعيشها. في عيد الفصح، المسيح القائم من الموت يقتحم حياتنا الفقيرة وينيرها بنور جديد. والآن، في الوقت الذي نشعر فيه في أنفسنا برغبة شديدة في الاحتفال معا بسر خلاصنا، نجد أنفسنا ممنوعون من ذلك. وهكذا ندرك كم نفتقد الاحتفال بالحب الذي يتغلب على كل موت. بالطبع، نحن نعلم أن يسوع المسيح هو القيامة والحياة، وأن من يؤمن به لن يموت إلى الأبد (رجع يوحنا ١١: ٢٥-٢٦). ومع ذلك، في هذا الزمن الصعب، في زمن العزلة الصعب، نشعر بقوة أشد أن كلمات مارثا الموجهة إلى يسوع هي كلماتنا: "يَا رَبّ، لَو كُنتَ هُنَا، لَمـَا مَاتَ أَخِي!" (يوحنا ١١: ٢١). هذه العزلة ثقيلة علينا. ويصعب علينا أن نتركه يهدينا في هذه الدروب المجهولة!
نحن الآن هنا، أمام هذا القبر الفارغ، نريد أن نصرخ: يا رب، لا تتركنا بين أيدي الموت. القبر فارغ. وأنت لم تعد سجينًا فيه. ونحن نعرف أنك حي.. أنت هنا، معنا. حبك يَسنُدُنا، ويضيء حياتنا، ويقوي آمالنا الضعيفة.
هذا ما نحتفل به اليوم: ليس فقط انتصار الحياة على الموت، ولكن انتصار محبة الله، الذي يأتي ليس فقط ليموت معنا، ليموت من أجلنا، بل يأتي أيضا ليضمَّنا إليه، في ما وراء الموت. الله الآب لا يتخلى عن الإنسان يسوع في الموت، ولكنه ينقذه، ويعطيه الحياة، إلى الأبد، ويدعونا نحن أيضا إلى هذه الحياة نفسها.
بدأ الإنجيلي يوحنا حدث القيامة بملاحظة زمنية: "فِي اليَومِ الأوَّلِ مِنَ الأُسبُوعِ" (يوحنا ٢٠: ١). إنه اليوم الأول، بداية جديدة، بداية الخلق الجديد.
في هذا اليوم الأول من الخلق الجديد، مريم المجدلية، دعت بطرس ويوحنا، ومعًا ذهبوا إلى القبر. معًا رأوا من أحبوه يموت. التقوا مع الموت. ظنوا أن هذه الميتة يمكن أن تضع حدا للزمن، وأنه لم يعد من الممكن أن يكون هناك يوم آخر، وأنه لن يكون هناك يوم "أول". الثلاثة يتحركون معًا: يذهبون (الآية ١)، ويركضون (الآية ٤) وينظرون (الآيات ٦ و٨). إنها أفعال من لا يزال يبحث، على الرغم من كل شيء. لا يعرفون ما الذي يبحثون عنه، لأن شيئًا واحدًا فقط مؤكد لهم: أنّ يسوع مات، ولن يمكن لقاؤه بعد الآن.
رأوا اللفائف التي دفن بها يسوع، مفرغة من الجسم الذي كانت تحتويه. يسوع تركهم، لم يتوقف هناك، وقال انه لم يبقَ سجينًا. اللفائف علامة سلطان الموت. لكنها الآن مطوية على حدة. أصبحت إذًا علامة على أن "الموت لم يعد له سلطان عليه". بتلك العلامة، فهموا وآمنوا، لأنهم "لَم يَكُونُوا قَد فَهِمُوا بَعدُ الكِتَابَ الَّذِي يَقًولُ إنَّهُ يَجِبُ أَن يَقُومَ مِن بِينِ الأَموَاتِ" (يوحنا ٢٠: ٩). هذا الفعل، ، "يجب"، كان يسوع قد استخدمه لما قال إنه يجب أن يتألم ويموت، حتى تتم الكتب. والآن يستخدمه الإنجيلي ليتكلم عن القيامة.
تلك الكتب تكلمت على خطة الله ومحبته للإنسان. تلك الكتب ابتدأت باليوم الأول من الأسبوع الذي خلق فيه الله العالم. تلك الكتب أكدت أن عمل الله، ومجده، سوف يتحقق من خلال المرور عبر مضيق مؤلم، مثل ولادة متعسرة تولد منها الحياة من جديد. تاريخ الآلام يؤكد أن لا شيء يمكن أن يوقف الحب. تلك الكتب تخبرنا أن موتنا، الذي يظهر لنا في هذا الوقت قريبًا جدا ومؤلمـُا جدا، قد يكون جزءا من هذا السر نفسه، ولكنه ليس آخر الأيام.
هناك حقا شيء أقوى من الموت. في الإيمان، يصبح الموت هو المكان الذي يأتي فيه الرب، ليفتقدنا، ليأخذنا إلى أبعد من ذلك. ومن المفارقات أنه يصبح المكان الذي يمكننا فيه، أكثر من أي مكان آخر، أن نعرف قوة حبه، وأن نختبر أمانته لنا.
ولكن، مثل التلاميذ، نحن أيضًا بحاجة إلى علامات تبيِّن لنا الخلاص. نحن بحاجة إلى أن نلمس، أن نختبر. ما هي هذه العلامات التي تشهد اليوم على القيامة؟ ها القبر الفارغ أمامنا. هذه علامة. ولكن أين اللفائف التي كانت تحتويه؟ أين الحركات التي، مثل اللفائف قبل ألفي عام، تجعلنا اليوم نرى ونؤمن بأن المسيح قد قام حقا، وأنه حي بيننا؟ أين العلامات التي تعطينا الأمل؟
أولاً، يجب علينا أيضاً أن نعمل ما عمل تلميذا الإنجيل: يجب أن نركض لنبحث عن القائم. لن نجد علامات إن لم نسعَ إليها أولاً، ولن نلتقي القائم إن لم نخرج من ملاجئنا الصغيرة، حيث حبسنا الخوف. علينا أن نتخلى عن الأمن الذي يصنعه الناس، ويجب أن نترك ادعاءنا أننا لسنا بحاجة إلى الخلاص، يجب أن نركض خارجًا، بحماس، للقائه. وإلا فإن كل جهد سيكون عبثا.
أين نلتقيه؟ أينما كان شخص يعطي شيئاً من نفسه مجانا للآخر، هناك يُعلَن الخلاص. حيث ينحني شخص ويصب بلسمًا على جراح الآخرين، هناك يُحتفَل بوجود المسيح الحي. حيث جماعتنا، الكنيسة، تقدر أن تحمل وأن تقول كلمة عزاء وسند ورجاء، هناك تتم معجزة الخلق الجديد التي بدأت بها قيامة المسيح. نعلن أن "المسيح قام وهو رجاؤنا" عندما نقوم بأعمال محبة ومشاركة، وبها نبيِّن كيف نعطي معنى لحياتنا ولا سيما في أشد أوجاعها، ونفتح فيها آفاقا جديدة، وعندما نشهد بأعمال ملموسة بأن الحياة لها معنى، إن انفتحت على العواطف، والمحبة، وعندما نضم أعمالنا ونشاطاتنا إلى محبته تعالى، وليس إلى كبريائنا.
نحن منغلقون على مخاوفنا أكثر من اللزوم، نحن مرتعبون جداً مما يحدث. مع أن واجبنا هو أن نصرخ بقوة أن المحنة، والكرب، والاضطهاد، والجوع، والعري، والخطر، والسيف لن يفصلنا عن محبة المسيح، وأننا نحن الفائزون، ولا شيء يمكن أن يفصلنا عنه، حتى ولا الموت (راجع روما ٨: ٣٥-٣٧).
إن بحثنا وجدنا العلامات التي تشهد لحضوره: في كل مكان في العالم حتى اليوم هناك من يخرج من مأواه ليكسر خبزه محبةً للإنسان، لكل إنسان. لنطلب هذه النعمة لنا، لجماعاتنا المنطوية والمنغلقة على نفسها أحياناً. لنطلب النعمة والقوة لننظر إلى العلى ونفتح أعيننا لنرى علامات القائم بيننا.
هل نؤمن بذلك؟ هل نحن مقتنعون بأن المسيح القائم يعيش فينا وفي جماعتنا؟ هل نعتقد أن قوة المغفرة منه تنفذ حتى أعمق ثنايا خطايانا؟ هل نؤمن أن عدم الأمانة والخيانات الشخصية، وفي جماعتنا، قد تم التغلب عليها؟ تغلَّب عليها الحب الذي لا حدود له؟ هل اختبرنا ذلك حقاً؟
الإيمان لا يلغي مآسي الوجود، بل يفتح أعيننا وقلوبنا على آفاق الخلاص والحياة الأبدية والفرح. هذا ما نحتفل به في عيد الفصح، وهذا ما نريد أن نحتفل به مع الحياة. قَبرُ المسيح المفتوح ليفتح أيضا قبورنا.
هذا ما نطلبه للكنيسة ولكل إنسان. آمين.
بييرباتيستا
المصدر: البطريركية اللاتينية، القدس