في المصداقية
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
عندما نتكلم عن المصداقية، فإننا نتكلم عن مجموعة من القيم والمثل ومعايير وانماط السلوك، لا بد للإنسان، او المؤسسة، ان يلتزم بها من اجل ان يكون ذو مصداقية.
المتمتعون بالمصداقية، اناس او مؤسسات، راكموا كماً كبيرا من التصرفات الصادقة الشفافة التي لا لبس فيها، شهدها الناس واثّرت فيهم، ودخلت في ذاكرتهم وجعلت لهم هذه الصورة المحترمة الموثوقة في وجدان الجماعة.
مفهوم المصداقية تراكمي، ترافقه مفاهيم أخرى مثل الشفافية والصدق والصراحة، والانسجام مع القيم السلوكية الحميدة، الى ما هنالك من صفات حسنة، كررها على مسامعنا أهلنا ومدرسونا، وتغنى بها الكتاب والشعراء، وارتكزت عليها القوانين، فأضحت اشبه بأخبار الاساطير عبر الامثال والقصص التي تلاها على مسامعنا اهلونا، فدخلت في باطن وجداننا وقولبته على صورتها ومثالها.
عندما اكتب عن المصداقية، تحضر امامي صور من الماضي، سمعنا عنها من اجدادنا، حيث كان الناس يرتبطون بكلمة شرف، ويردون الدين عند استحقاقه، او قبل، ويعتبرون الكذب خطيئة، فلا ينطقون الا بالحق، وكل ما عدا ذلك هو في خانة المنبوذ، من الاهل والمجتمع.
هل تصدقون ان تاجرا قد عمل بعد اعلان افلاسه وتوزيع ثروته على دائنيه، على إعادة الدين بنسبة مئة بالمئة، لان ما تبقى من ثروته لم يغطِ سوى نصف الدين، وهو لا يريد ان يترك هذه الفانية وسمعته ملطخة؟
هل سمعتم بالموظفين غير ميسوري الحال الذين لا تمتد يدهم الى مال مؤسستهم لأنهم قد تربوا على ذلك؟
هل سمعتم بالموظف الذي طرد التجار من مكتبه لأنهم عرضوا عليه عمولة اذا اشترى من منتجاتهم لمؤسسته؟
هل سمعتم بقصة سائق السيارة الذي وجد ان أحد الركاب قد نسي على مقعد سيارته كيسا يحتوي على مبلغ كبير من المال، فأخذ الكيس وسلمه للشرطة؟
يقابل ذلك أناس يعيثون في الأرض فساداً ورشوة واختلاسات وما شابه ذلك من ممارسات لا يرضى عنها لا الدين ولا القيم ولا القانون، والاسوأ من ذلك انهم يبررون عملتهم بشتى الاعذار، التي لا تسمن ولا تغني عن جوع.
هل تساوي كل ثروات الأرض نظرة لوم من قاضٍ في محكمة او نظرة محقق في مكتب النيابة العامة او حتى نظرة مظلوم ينظر الى من سرقه؟
هؤلاء أناس لا يعرفون العار، لأنهم لا يعرفون الشرف!
لا بل يعتبرون الشرف عبئا ثقيلا يعرضون عنه.
مع تقدم علوم الإدارة والمحاسبة والتدقيق وغيرها، لم تعد المصداقية مسألة متروكة فقط للسمعة الناتجة عن تجربة الناس، بل أصبحت نتيجة لعملية منهجية متخصصة، ترتكز على معايير وقواعد يعلن على أساسها الشخص او المؤسسة ذوي مصداقية. كل ذلك مدعوم بتقنيات المعلوماتية التي تمركز ملفات الافراد والمؤسسات.
هذه المصداقية تنعكس بشكل مباشر على اعمال الافراد والمؤسسات ونجاحها، وتحدد حجم الاعتمادات او الاعمال الني يمكن منحها الى هذا الشخص او تلك المؤسسة.
ليس من كنز يمكن للإنسان او المؤسسة التمتع به أكثر من سمعة ذات مصداقية، تشكل له مدخلا الى عقول وقلوب ووجدان المجتمع.
إزاء كل ذلك، أعجب لمن لم يبن لنفسه سمعة طيبة ومصداقية عالية. هؤلاء ينطبق عليهم القول المأثور "إذا قل الحياء عم البلاء".