ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط هذه الكلمة في الندوة الّتي نظّمها مجلس كنائس الشرق الأوسط واللّجنة الأسقفيّة للحوار المسيحي - الإسلامي المنبثقة عن مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، لمناسبة عيد البشارة، تحت عنوان "وجه مريم"، وذلك يوم الثلاثاء 25 آذار/ مارس 2025، في كاتدرائيّة سيّدة البشارة للسريان الكاثوليك في المتحف - بيروت.

البروفسور ميشال عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

اتصفح الايقونات، اقرأها بتمعن، أحدق في الرسومات، اتفحص المنحوتات، أحاول ان أرى كيف قرأ كل هؤلاء وجهك يا مريم!

أحاول ان اتخيل محياك، ملامحك، تعابير وجهك، نور عينيك، فرح البشارة، الم الصلب والفراق، فأجد نفسي اُسقط من مشاعري عليك، لعلني افهمك يا سلطانة الجبال والبحار، وأجد نفسي غير قادر على احتجاز روحك وجمال نفسك في أية وسيلة تعبير بشرية، لا الكتابة ولا الرسم ولا النحت ولا حتى الانشاد والموسيقى.

أي مخلوق انت، يا من اختارك الرب هيكل تجسد، أية جليلة انت، يا من حملت الفادي في احشاءك، أية صبورة انت، يا من رأيت الفادي معلقا على الصليب، ينزف ماء ودما، يُطعن بحربة، يُسقى مرا، ويناجي الايل العظيم، باري الخليقة، ويسامح من هدر دمه الذي سقى ارض التجسد، ارض المشرق الانطاكي، من حيث انطلقت البشارة بعد هنيهات.

اية عظيمة انت يا من أجمعت الخليقة على تقديسك وتقديمك على نساء العالمين؟ أي رمز انت واية رسالة وباي درس للإنسانية تكرزين؟

وجهك مريم اراه في وجوه النساء المعذبات في العالم، ضحية العنف القائم على التمييز الاجتماعي، ضحية مجتمع الذكورية المتمادية، ضحية الاتجار بالبشر، ضحية العبودية الحديثة، ضحية الجهل، ضحية القمع والكبت وكم الافواه.

وجهك مريم يليق به النور الإلهي الذي أسبغه عليك هذا الذي ملكه لا يفنى، تليق به الابتسامة، يليق به الفرح، وهو يوزع حنانا وحبا ورحمة لا ينضبون.

وجهك مريم الجأ اليه عند الشدائد، استقي منه عزما وطول اناة لا يهتزون، استقي منه رؤية الى البعيد، ابعد من متاع الدنيا ومكنوناتها الفانية.

وجهك مريم هو جزء من كل، هو مرآة روحك، هو انعكاس عزيمتك وقدرتك على التحمل، وهو أيضا، رغم كل القدرة التي يحمل، مصدر نور سلامي نابع من روحك المفعمة سكينة وهدؤا وسلاما.

يا عظيمة بين النساء، يا متقدمة على سائر البشر، هل تدركين كم الهمت من المشاعر والقيم لسائر نساء العالم؟ هل تدركين كم الهمت من اللاهوتيين والباحثين والكتاب والشعراء في انتاجهم الثقافي؟

هل تدركين، مريم، كم ان صوتك مدوٍ، يكبت أصوات الحقد والكراهية والنفاق المستشرية بين البشر، ويعلو على أصوات الحروب المتنقلة في كافة انحاء العالم؟

ليس كثيرا عليك كل ما ينظم فيك من مدائح، وكل ما توسمين به من مزايا، وكل ما توصفين به من صفات.

وجهك مريم سوف يبقى، ما بقيت الدنيا، رمزا للأمومة بكل ابعادها، من بشارتها بمجيء المخلوق، أي مخلوق، على صورة الله ومثاله، الى احتضانه والعناية به وتربيته تربية تليق بالإنسان، الى الاهتمام بشؤونه ولو بلغ من العمر كثيرا، الى تزويده بوصاياك عندما تهمين بالرحيل.

وجهك مريم، من وجوه توحيد الناس والبلاد، اذ حولك اجماع لم يحظ به أحد.

في لبنان، جعلنا من عيد البشارة عيدا وطنيا، يتحلق فيه المواطنون حولك، على مختلف انتماءاتهم وخلفياتهم الدينية، متخطين الفروقات في المعتقد والتأويل ومجمعين على رمزية وجودك في هذا العالم.

نحن في مجلس كنائس الشرق الأوسط، كوننا مسكونيون، وكون مسكونيتنا تتخطى العلاقات ضمن الدين الواحد، بل تشمل كل اهل المسكونة، جعلنا من عيد بشارتك عيدا وطنيا شاملا الجميع، معتبرين إياه مساحة دينية مشتركة بين ابناء لبنان. وبما اننا مشرقيون وشرق اوسطيون، فإننا سوف نمدد ثقافة المساحات الدينية المشتركة الى سائر بلدان المشرق الانطاكي ووادي النيل، وسوف ندرج في نفس المسار مكان ظهور السيد على شاوول في تل كوكب من ضواحي دمشق، كما مغطس عماد المسيح على نهر الأردن، كما لجوء العائلة المقدسة الى مصر. بوركت هذه المجتمعات وبوركت هذه الدول التي ترعى، او سوف ترعى، هذه الجهود التوحيدية على صعيد المجتمع والناس.

السنة احيينا عيد البشارة مع اللجنة الأسقفية للحوار المسيحي-الإسلامي، التابعة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وهذه بداية مباركة سوف تتبعها مبادرات مماثلة في شتى انحاء المنطقة، فشكرا لمن أطلق الفكرة ونظم العمل ونفذه.

الشكر موصول أيضا الى المحاضِرات الكريمات، الزميلات، اللواتي استجبن لهذه المهمة بكل المحبة والروح التطوعية التي تليق بسيدات بلادي اللواتي نفخر بهن.

ختاما، نشكرك يا امة الرب على وجودك، على ما انت عليه، على ما ترمزين اليه، وعلى الدور الذي ما زلت تقومين به بعد الفين من وجودك على الأرض. سوف تبقين، يا مباركة، مصدر وحي، واشعاع، الى انقضاء الدهر.

Previous
Previous

القِدّيس البارّ إيلاريون الجديد (+754 م)

Next
Next

سعادة سفير جمهوريّة كزاخستان في لبنان الأستاذ راسول جومالي يزور الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس في بيروت