الصوم الأربعيني: زمن توبة نحو فرح القيامة
كيف تعيش الكنائس هذه الفترة المقدّسة؟
تعرّفوا معنا على تقاليدها!
مجلس كنائس الشرق الأوسط
(جزء أوّل)
إنّه مسيرة صلاة وتوبة ورجوع إلى الذات لتنقية النفس والإقتراب من الله. إنّه الطريق الآمن الّذي من خلاله يعبر المسيحيّون نحو فرح القيامة، عيد الأعياد وموسم المواسم. إنّه زمن الصوم الفصحي الّذي يُعتبر من أقدس المحطّات المسيحيّة تاريخيًّا. زمن يجدّد المؤمنين روحيًّا ونفسيًّا وينقلهم من ضوضاء الحياة وضجيجها إلى برّ الآمان، من الخطيئة إلى الخلاص، ومن اليأس إلى الفرح السماوي.
كم نحتاج اليوم إلى الاتّحاد في الصلاة والاحتفال معًا بعيد القيامة! وكم نتوق إلى وحدة مرجوّة تتوّج غنى تنوّع كنائسنا؟
المميّز هذه السنة هو أنّ الكنائس الشرقيّة والغربيّة ستتحتفل معًا بالعيد الكبير في التاريخ نفسه تزامنًا مع الذكرى الـ1700 للمجمع المسكوني الأوّل الّذي انعقد في العام 325 في نيقية حيث كان محطّة مفصليّة في تاريخ الإيمان المسيحي. واستعدادًا لقيامة ربّنا يسوع المسيح، يجتاز المسيحيّون مسيرة الصّوم كلّ بحسب عقيدة كنيسته وتقاليدها الّتي تتميّز بها.
حجّ نحو الملكوت السماوي
تدخل الكنيسة الأرثوذكسيّة في زمن الصوم عبر زمن التريودي الّذي يُقسَم إلى ثلاث مراحل أساسيّة وهي فترة التهيئة للصوم، الصوم الأربعيني والأسبوع العظيم. وتركّز الكنيسة الأرثوذكسيّة في صومها على الفرح والتوبة مشدّدة على أنّ الصوم هو حجّ ملكوتي يسهم بالعبور من الولادة البشريّة إلى الولادة المسيحيّة. وخلال هذه الفترة المقدّسة، تقوم الكنيسة بصلوات يوميّة مختلفة وهي صلاة النوم الكبرى، خدمة القدّاس السابق تقديسه البروجيازميني، وصلاة النوم الصغرى الّتي تتخلّلها خدمة مديح والدة الإله.
أمّا الكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة فبدأت بالصوم الأربعيني في القرن الثالث للميلاد. وفي الربع الثاني من القرن الرابع أُضيف عليه صوم أسبوع الآلام الّذي كان قد بدأ أصلًا قبل هذا التاريخ. كما تعتبر الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة أنّ الصوم يذكّر المؤمنين بجهاد الربّ يسوع الّذي بدأ تدبيره الإلهيّ بالصوم 40 يومًا و40 ليلة في البريّة كي يعلّمنا الصوم والجهاد الروحي لمواجهة إبليس. علمًا أنّه تُقام خلال هذه الفترة وبحسب الطقس السرياني الشرقي الأرثوذكسي صلوات تُسمّى الرمش أي بمعناها الحرفي "صلاة العصر".
من جهّتها، تبدأ الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة صومها في أحد الكنوز وتستمرّ به حتّى أحد القيامة. تمتدّ هذه المرحلة لمدّة 55 يومًا وتتضمّن ثلاثة أصوام وهي الأربعين المقدّسة في الوسط، يسبقها أسبوع كتمهيد للأربعين المقدّسة، أو تعويضيًا عن أيّام السبوت الّتي لا يجوز فيها الانقطاع عن الطعام، ويعقب ذلك أسبوع الآلام. من هنا، ترى الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة أنّ الصوم يحمل غايتين ساميتين تتجلّيا في الإستعداد لخبرة بهجة قيامة السيّد المصلوب، وإعداد الموعوظين بالتعليم وممارسة العبادة مع التوبة الحقيقيّة كي ينالوا سرّ العماد ليلة عيد الفصح.
الكنيسة الأرمنيّة الرسوليّة تنطلق في صومها مع عيد باريكندان أو المشاعر الطيّبة الّذي يقع بين عيد القدّيس سركيس والصوم الكبير ويُطلق على الباريكندان في الصوم الكبير اسم الباريكندان الحقيقي، لأنّه يسبق الصوم الأطول. وهذا العيد هو إحياء لذكرى السعادة البشريّة الّتي تمتّع بها آدم وحوّاء في الجنّة وهو كذلك مثال لحياة الجنّة حيث سُمح للإنسان بتذوّق كلّ الثمار باستثناء ثمرة شجرة معرفة الخير والشرّ الّتي ترمز إلى الصوم الكبير. يمتدّ هذا الصوم خلال 48 يومًا حيث يتضمّن سبعة آحاد، ووفقًا للعادات الشعبيّة، يُصنع في اليوم الأخير كعكة الصيام من العجين المخمّر.
جهاد وغفران نحو عيد الأعياد
أمّا الكنائس الكاثوليكيّة واللّاتينيّة والمارونيّة فتبدأ بالزمن الأربعيني بإثنين الرماد أو أربعاء الرماد "أذكر يا إنسان أنّك من التراب وإلى التراب تعود". ويتمحور صومها حول عيد الفصح وقيامة المسيح عبر التأمّل في أناجيل الآحاد خلال فترة الصوم لا سيّما أحدَي العجائب. في هذا الإطار، تشدّد الكنائس الكاثوليكيّة على التزام المؤمن بإيمانه بيسوع المسيح الطبيب والشّافي وغافر الخطايا ومحيي الراقدين والمنتصر على الموت والشّيطان والخطيئة.
الكنيسة الكلدانيّة تعيش زمن الصوم ابتداءً من يوم الاثنين حتّى ليلة خميس الفصح. ويشارك المؤمنون في هذا الزمن بساعات الصلاة الّتي يُطلق عليها بحسب الحوذرا أسماء عديدة منها قوطاعا وتعني فاصلًا زمنيًّا، وعدانا تعني الوقت... وتتضمّن صلوات ساعات الصوم مزامير (هولاليه) وصلوات كهنوتية وتسابيح وتراتيل وأدعية وغالبيّتها رهبانيّة ما عدا صلاة ܣܘܒܥܐ– الافطار.
بدورها، تقوم كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك بطقوس خاصّة بزمن الصيام الأربعيني الكبير تتجسّد في ليترجيا الأقداس السابق تقديسها، صلاة النوم الكبرى ورتبة المدائح إكرامًا لوالدة الإله الفائقة القداسة. وفترة الصوم الأربعيني تمتدّ من يوم الاثنين الّذي يسبق "أربعاء الرماد" في الكنيسة اللّاتينيّة، حتّى يوم الجمعة قبل أحد الشعانين. علمًا أنّ مدّة الصوم تغيّرت حيث أصبحت تتضمّن فترتين أخريين وهما فترة الأسبوع العظيم المقدّس، والفترة التحضيريّة للأربعينيّة الّتي تتألَّف من ثلاثة أسابيع، وهي امتداد في معناها للصوم المبارك.
الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة تبدأ صومها يوم الاثنين مع رتبة التوبة أو المسامحة والمسح بالزيت أي رسم الصليب بالزيت على جبين المؤمنين. خلال هذه الرتبة يسجد المترأّس ويطلب من الناس المغفرة ثلاث مرّات وكذلك الغقران من الربّ خصوصًا وأنّ أوّل خطوة في الصوم تكمن في التوبة عن الخطايا. كما تقوم الكنيسة بصلوالت عديدة منها رياضة درب الصليب يوم الجعة من كلّ أسبوع، إضافةً إلى صلاة نصف الصوم وصمد الصليب، وصلوات الفرد الّتي تتُلى في الأديار.
أمّا الكنائس الإنجيليّة فتتّبع التقويم الغربيّ حيث يمتدّ الصّوم على فترة 40 يومًا قبل عيد القيامة ابتداءً من أربعاء الرماد، وتركّز خلال هذه الفترة على الإرتقاء نحو الله والتحضير الروحيّ، والتأمّل بآلام المسيح، موته وقيامته. كما تعمد الكنائس على اختيار ترانيم توبة وطلب رحمة ولا تقوم بتلاوة ترانيم "الغلوريا". هذا وتشدّد الكنائس الإنجيليّة في هذا الفصل المبارك على الإنكسار الشخصي أمام الله وكيفيّة الصوم وترجمته خصوصًا في الخدمة والعطاء وأعمال الرحمة الّتي نلتقي عبرها مع كلّ قريب وغريب ومع كلّ محتاج وضعيف، "أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ" (إش 58: 7). علمًا أنّ هذه الكنائس تحفّز بشكل إجمالي على الصّوم في أي وقت خلال السّنة وليس فقط في الفترة الّتي تسبق عيد القيامة، لأنّ الصّوم والصّلاة يترافقان ويساعدان المؤمنين.
والمؤمنين اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى عيش سلام داخلي يتكلّل في مسيرة صوم وتوبة وأعمال رحمة وصدقة.
دعوتنا في زمن الصوم هي الإرتداد والعودة إلى الله واكتشاف عطيّة كلمته الّتي وحدها تمنحنا القوّة في تخطّي ضعفاتنا وتساعدنا كي نفتح قلوبنا وعقولنا وأرواحنا إلى عمل الروح القدس. الصوم يبني ويقوّي، يجدّد الإنسان ويعزّز إيمانه ويساعده على الإستعداد لقيامة ربّنا يسوع المسيح. هذه القيامة الّتي تبعث الفرح والرجاء في كلّ أنحاء الأرض.