امة تحت الحصار والدمار
ألقيت هذه الكلمة في الطاولة المستديرة من طوروس الى غزة: 110 أعوام على نزيف المشرق
التي عقدت في بيت الاستقلال في بشامون-جبل لبنان في 23.05.2024
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
الصورة الواردة ادناه في هذه الصفحة هي صورة الغلاف للطبعة الأولى من تقرير لجنة كينغ-كرين التي عملت خلال عام 1919 والتي عينها الرئيس الأميركي وودوورد ويلسن أنذاك لاستطلاع أوضاع اهل المشرق الانطاكي، والوقوف على رأيهم وتطلعاتهم بما يختص بمصير بلادهم. هذه النشرة مؤرخة في نهاية سنة 1922.
والصورة هي لجماهير من احدى حاضراتنا في المشرق الانطاكي، تستعطي الخبز، وقد كتب تحتها: الدبلوماسية السرية ربحت. هي الان تحصد، والملايين في الشرق الأدنى يتوسلون للحصول على الخبز.
الملايين يتوسلون للحصول على الخبز؟
كان ذلك عام 1922 حيث كانت الاحتياجات محدودة والمتطلبات متواضعة، اما اليوم فان الملايين يتوسلون للحصول على أي شيء!
الغذاء الدواء، المحروقات، والكهرباء، والماء، والهواء، وحدّث ولا حرج!
لكن الملايين يتوسلون أيضا من اجل ما هو أكثر من ذلك بكثير: الاستقرار السياسي والعسكري، والحكم الرشيد، وحقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية، والتعليم، ورعاية المعاقين والمسنين، وما إلى ذلك.
لجنة كينغ كرين ونتائجها
لقد تم تعيين اللجنة بناء على طلب الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون خلال مؤتمر باريس للسلام عام 1919، وذلك لتحديد مواقف سكان سوريا وفلسطين من تسوية أراضيهم بعد الحرب العالمية الأولى.
أثناء قيامها بجولتها في سوريا وفلسطين بين 10 يونيو و21 يوليو 1919، وتلقي العرائض من السكان المحليين، وجدت اللجنة أن الغالبية العظمى من الشعب يريد سوريا مستقلة، خالية من أي انتداب فرنسي، كما انه من أصل 1875 عريضة تم تلقيها من قبل اللجنة، كان 72% منها معاديين للخطة الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
مثل هذه النتائج، إلى جانب الحديث الصهيوني عن تجريد العرب من ممتلكاتهم، دفعت اللجنة إلى تقديم المشورة لإجراء تعديل جدي لبرنامج الهجرة الصهيونية إلى فلسطين.
المشرق الانطاكي يفقد شماله، ثم جنوبه
بين سيفر 1920 ولوزان 1923، فُقدت كل المنطقة الشمالية، ذات الحضور المسيحي التاريخي والحالي الكثيف، وهذه المنطقة مؤلفة من المناطق الخمس المسلوبة وهي كيليكية، الاسكندرونة، هضبة عينتاب، الجزيرة الفراتية العليا وهكاري.
لقد ترافق السلب مع ارتكاب مجازر في هذه المناطق، وتهجير العدد الأكبر من سكانها، وأدى هذا الواقع الى وضع المجتمع الشرق أوسطي – المشرق الانطاكي - في خطر، ومنذ تلك الحقبة وهذا المجتمع يكافح من أجل البقاء.
لقد نُصبت مخيمات للارمن والسريان أولا، ثم بعض من الجماعات الاثنية الأخرى في هذه المنطقة، واستمرت المنطقة على هذا المنوال، حيث هُجر الاشوريون من العراق سنة 1933، بعد ان هجروا من هكاري مع باقي الجماعات في بداية القرن، واستمرت المؤامرة-النزيف وصولا الى كارثة جنوب المشرق الانطاكي في العام 1948، عند حصول نكبة فلسطين، التي يتشدق منافقو الديموقراطية بتسميتها استقلال الكيان الصهيوني المصطنع على ارض فلسطين. ثم أتت حرب ال 1967، وراحت القدس، وأصبح رأسي المسيحية المشرقية، انطاكية والقدس، رهينتين.
ولم يكذّب المتآمرون الدوليون خبرا، ففتكوا بلبنان ابتداء من نصف السبعينات، وعند استراحة هذه الجبهة في بداية التسعينات، فتكوا بالعراق، وبعد ان دمروا الأخ الأكبر والاقوى، الذي تجرأ وحاز القدرة التكنولوجية، ارتدوا الى الشام، المحاصرة، فدمروها ومزقوها.
ويكلمونك عن نظرية المؤامرة معتبرين إياها نوعا من رهاب الاضطهاد يعيشها القلقون على مصير هذه الامة.
مخطط حصاري- تدميري متنقل
خلال هذا المسار، تحولنا الى امة من المخيمات. لقد أصبح مجتمعنا مجتمع مخيمات.
المرحلة الأولى في بداية القرن، مخيمات للأرمن والسريان-الاشوريين وروم الاناضول والبونتيك.
المرحلة الثانية في أواسط القرن، الاستيلاء على فلسطين وتحويل شعبها الى المخيمات.
المرحلة الثالثة، في ثلاثة ارباع القرن، ضرب لبنان، المكان النموذجي للتفاعل والحريات، وتحويل شعبه الى مهجرين ومعوزين.
المرحلة الرابعة، في نهاية القرن، حصار العراق وخرابه وتشتيت شعبه وتحويله الى المخيمات.
المرحلة الخامسة، نهاية القرن وبداية الذي يليه، الهجوم على الشام وتمزيقها وتخريبها وتحويل شعبها الى المخيمات التي نصبت لهم في لبنان والشام والاردن.
المسار واضح لمن يحسن القراءة، وغامض لمن اختار أسلوب النعامة.
قرن من التهجير والقتل والافقار. انه نزيف المشرق الانطاكي المعذب. مشرق بلاد العرب اوطاني!
المجتمع الذي شكل مهدا لكل حضارة في العالم، الذي كان اول من بنى واكتشف وابتكر واخترع، تحول الى مجتمع بؤس المخيمات.
منذ قرن ونيف وهذا المجتمع يتعرض لتهديدين: الحصار والتدمير.
كل أنواع الاتفاقيات التي حيكت له، كانت تؤول الى الحصار وقد حددت مصير هذه المنطقة: سايكس بيكو، سان ريمو، فرساي، إلخ. وكانت الطامة الكبرى وعد بلفور.
ان طريقة سلخ فلسطين عن كيانها الأصلي، عن وطنها الام، هي نفسها طريقة سلخ أنطاكية والمناطق المجاورة لها عن وطنها الام: ضرورة جواز السفر للعبور الى كيليكيا، ثم تعلن عملية السلخ عن الوطن الام. نفسه حصل لفلسطين، وفي كلتا الحالتين لم تنفع لا الانتفاضات ولا الثورات ولا كل اشكال المقاومة، حينها.
فلسطين كلها تحت الحصار اليوم، وتخضع للتدمير بشكل وحشي منهجي: غزة تحت الحصار، مدن الضفة الغربية تحت حصار المستوطنات،
العراق وضع تحت الحصار لعقود قبل تدميره واحتلاله... فقط للاشتباه في وجود أسلحة نووية... ثم اعتبر اعتذار وزير خارجية المحاصر الفدية التي دفعها مقابل ملايين الضحايا،
الشام تحت الحصار بذرائع مماثلة،
لبنان تحت الحصار مباشرة وعبر الشام، ولا يسمح له لا باستخراج الغاز ولا باستجرار الكهرباء عبر اخوته وجيرانه،
ان المشهد لمأساوي حقا!
لقد أدت الحصارات والحروب، مباشرة وبالواسطة، الى تدمير هذه المجتمعات وتفكيك بناها الاجتماعية والاقتصادية وراس مالها الاجتماعي وثقافتها ونجم عن كل ذلك:
- انقسامات اجتماعية وصراعات أهلية
- نزوح للسكان
- إفقار: فرق تسد تكتمل ب فقر تسد
- فقدان المجتمع لكيانه على كل الصعد
المجتمع المشرقي مهدد بالتحلل، وهو عرضة للقتل السياسي.
الى اين يتجه المشرق الانطاكي؟
أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط، وخاصة المشرق الأنطاكي، تتجه نحو كارثة اجتماعية وثقافية شاملة. انهيار تام للقيم وخسارة أجزاء من الثقافة، رغم وجود جزر من المقاومة الثقافية والاجتماعية، وغيرها.
هذا المشروع قديم، عمد منذ عقود تحت مسمى: ملليه (Milletisation) الشرق الأوسط.
هل كل ما حصل هو محض صدفة او مجرد تعاقب للأحداث، ام جزء من مخطط مدروس محكم التنفيذ؟
حرب فلسطين هجرت الملايين إلى الدول العربية المجاورة، خصوصا الى لبنان. العنصر الفلسطيني استخدم كصاعق لتفجير لبنان. نهاية 15 عاما من الحرب في لبنان تمثل بداية الحرب على العراق مع عقد من الحصار أدى إلى ملايين الضحايا من كل الأنواع. بمجرد أن أصبح العراق "تحت السيطرة"، شنت الحرب على الشام، الدولة العربية الوحيدة السليمة اقتصاديا والمكتفية ذاتيا. هل صدفة ان تقاتل 80 جنسية في الشام؟
قدر هذا الوطن الصمود
لقد أصبح لدى أهالي هذه المنطقة قناعة راسخة بثابتة أساسية في تاريخهم، هي المقاومة، وهي تتخذ اشكالا متعددة تبين مدى حيوية هذه الامة:
- إعادة البناء مقابل التدمير
- إعادة التركيب مقابل التحلل
- إعادة الهيكلة مقابل التفكيك
- إعادة الإنسانية مقابل التجريد من الإنسانية
- إعادة التوحيد مقابل التفتيت
- إعادة التأهيل مقابل الضياع
النضال مستمر، والمجتمع يقاوم.
ماذا يعني ذلك؟
هل ان التاريخ يعيد نفسه؟ ربما!
ولكن هذا يعني أننا نتعامل مع تهديدات جديدة، امام شرق أوسط، سموه جديد، وفي مفهومهم انه منطقة مقسمة دينياً وعرقياً وعنصرياً...
يريدونه ان يكون مكونا من جزر من "الأقليات" متناحرة مع بعضها البعض وتحكمها أقلية كبيرة ومجهزة بشكل أفضل سياسيا وماليا وتقنيا، ومدعومة من قوى عظمى تنفذ لها مشاريعها.
هذا يعني أن منطقتنا قد تشهد أحداثًا ليست أفضل ما يمكن أن يشهده أي مجتمع في العالم.
ماذا نفعل نحن، المؤسسات الدينية، الكنسية بالتحديد؟
لا يكلف الله نفسا الا وسعها!
نحن في خضم الصراع دفاعاً عن شعبنا، بكل مكوناته. نحن نحاول ان نكون نموذجا يحتذى به في العديد من أبعاد حياتنا في ضوء الدور المجتمعي الذي اضطلعنا به بحكم ايماننا، بسلوكنا المناهض للتمييز، والذي يحفز للعدالة والسلام، وخصوصا الكرامة الإنسانية، التي جعلناها محور نشاطاتنا. من خلال المشاريع التي نقوم بها، نعبد الطريق لعقد اجتماعي جديد بين المجموعات المختلفة التي تتكون منها مجتمعاتنا.
بحكم بنيتنا وثقافتنا وعلاقاتنا الدولية، نحن مؤسسات إنذار مبكر ودفاع متقدم عن المجتمع، برمته، تجاه أعداء وجهلة الداخل والخارج، معتمدين على خبراتنا في التواصل والمناصرة.
الطريق واضحة، وليس امامنا من خيار سوى الاستمرار في مهامنا، على أساس عقيدتنا التي منها نستمد قيمنا، وقواعد سلوكنا، وبشكل أساسي، شجاعتنا للاستمرار.
إن دورنا في أرض أجدادنا، حيث ولد الايمان ومن حيث انطلق الى المعمورة، واضح ويزداد وضوحا يوما بعد يوم، ومحبتنا، لبعضنا، لأرضنا، لتاريخنا ولأجيالنا التي لم تولد بعد، هي أساس الرابطة الاجتماعية والصمود الذين سيكونان خلاصا لمجتمعنا.