خواطر في حال ومأل المدمنين والادمان

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة في الندوة الشهريّة الّتي عقدها مجلس كنائس الشرق الأوسط عن بُعد تحت عنوان "الكرامة الإنسانيّة للشاب المدمن"، يوم الخميس 29 شباط/ فبراير 2024.

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

لم اجد افضل من بعض مقاطع قصيدة "المسلول"، للشاعر اللبناني الاخطل الصغير في وصف حال الإدمان، حيث يعتبر ان ما وصل اليه هذا المسلول هو نتيجة ادمانه على حب غانية، واعتبره "قَـتِـيـلُ هَوًى ببنتِ هوًى"، وينصح بأن "فـإذا  مَـرَرْتَ بِـأُخْـتِـها فَحِدِ".

بيدأ الاخطل الصغير قصيدته قائلا

"سَـنَـةٌ مَـضَتْ ، فإذا خرجتَ إلى ذاكَ  الـطـريـقِ بِـظـاهرِ البَلَدِ

 وَلَـفَـتَّ وَجْـهَـكَ يَمْنَةً ، فترى وجـهـاً مَـتـى تَـذكُرْهُ تَرْتَعِدِ"

ويتابع واصفا حال المسلول، ضحية الإدمان قائلا

"هـذا  الـفتى في الأمسِ ، صارَ إلى     رَجُـلِ هَـزيـل الـجِـسْمِ مُنجَرِدِ،

مُـتَـلَـجـلِجِ الألفاظِ مُضطربٍ ، مـتـواصـلِ الأنـفـاس مُـطَّرِدِ."

وبعد ان يصف كيف تحولت نظراته وسيره وتصرفاته وردود فعله من ميزات شخص سليم معافى الروح والجسم ، اصبح يظهر كل اشكال الضعف والانهيار، فيقول فيه  

"عَـيـنـاهُ  عـالِـقـتان  في نَفَقٍ أو كـالـحـبـاحبِ ،

باخَ لامِعُهُ و تَـهْـتَـزُّ  أنْـمُـلُـهُ ، فتَحْسَبُها وَرَقَ الـخَـريـفِ أُصِـيبَ بالبَرَدِ."

مع تحفظنا على ابلسة بنت الهوى وجعلها سببا لمرض هذا المسلول، ومن منهم "بلا خطيئة فليرجمها أولا بحجر" كما ورد على لسان السيد، ولكن وصف الشاعر اللبناني بشارة الخوري، الذي اتخذ لنفسه لقب الاخطل الصغير، لحال الذي ادمن أي شكل من اشكال الموبقات، تعبر كثيرا عن حالات الشباب الذي ادمنوا المخدرات، بعض منهم طلابنا، والبعض الأخر ممن نعرفهم بحكم الجوار او بعض علاقات العمل.

كان يذهلني مرأى من ادمن المخدرات عندما يغيب عني فترة ما، يكون خلالها قد ادمن، حيث يُظهر في البداية بعض الاشكال الباثولوجية التي لا تعلن حقيقة وضعه بالكامل، الى ان ينتقل الى مرحلة متقدمة حيث يخرج امره الى العلن.

بالنسبة الى تربوي، والى ناشط في الكنيسة والمجتمع، اجد ان لا أسوأ من هذه الموبقة ولا اصعب من علاجها على الاطلاق اذ تأتي نتيجة اهتراء دفين استمر لعقود، قليلة او كثيرة، تبعا لسن المدمن، لذلك هي بنوية، وهنا صعوبة معالجتها لان السقوط من جديد يمكن ان يحصل عند أي تحول في عائلة المدمن او في محيطه الاوسع.

نحن نعلم ان اشكال الإدمان متنوعة تنوع المخدرات، وتنوع سقطات الانسان، وتنوع تركيبة محيطه وتنوع المتابعة والتحصين الذين يمكن ان يحصل عليهما خلال او بعد العلاج.

واذا كان تعاطي المخدرات يشكل أفة اجتماعية كبرى تؤشر الى خلل بنيوي، اجتماعي اقتصادي سياسي نفسي، فان الترويج لها، والفشل في القضاء عليها  يؤشران الى امر من اثنين: اما تواطئ القيمين على هذا الامر في الدولة، او هزالة الدولة التي تعجز عن حماية شباب مجتمعها. وفي الحالتين، الامر محزن ويشكل خيبة كبرى للمراقب المعني.

يتحفنا الاعلام بالمشاهد المخيفة عن حقول زراعة المواد المخدرة على أنواعها، وكيف ان هذه الحقول هي تحت سيطرة عصابات مسلحة باتت اقوى من الدولة، وقد استطاعت اثبات جبروتها خلا عقود طويلة عبر تهديد الدولة او قتل القيادات السياسية المعادية لهم في امكنة كثيرة من العالم. اضف الى ذلك امتلاك كارتيلات المخدرات للتجهيزات، وحتى المصانع، القادرة على تأمين الناتج النهائي منها حيث ترتفع الربحية اكثر من تصريف المواد الأولية.

اما الشق الثاني من المأساة، فهو دور الأولاد في انتاج المخدرات، اذ أظهرت الأبحاث عن عمالة الأطفال، تورط الاعداد الكبيرة منهم في الحصاد والإنتاج، وحتى التهريب والترويج.

والذي يزيد القلق في هذا السياق، هو تدني متوسط العمر للمتعاطين بالمخدرات، اذ وصل الى حدود ال 15 عاما من العمر، وهو ينذر بمستقبل خطير للإنسانية.

وكأن المشكلة بكليتها لا تكفي، فقد عمدت العديد من الدول على السماح باستهلاك بعض أنواع المخدرات ومشتقاتها، الطبيعية والمصنعة، مما فتح المجال امام الأجيال الصاعدة على "تذوق" الارتياح الوهمي الذي تؤمنه هذه المنتجات، في مجتمع حداثة يزداد مأزومية، حيث تتفكك العائلة، وسائر الروابط الاجتماعية والكثير من شبكات الأمان الاجتماعي، مما يجعل الشاب اليافع يبحث عن حل وهمي لمشاكله، ولا يعي خطورة الامر الا ويكون قد اصبح في فخ لا يستطيع الخروج منه.

لن ادخل الى النواحي التقنية والاحصائية ولا الى سياسات العلاج، ولا كلفة العلاج، ولا أساليب وتقنيات المتابعة، فهذا اختصاص الخبراء الذين شرفونا بمشاركتهم، اردت فقط ان اتشارك مع الحضور بعضا من المشاهدات وبعضا من مشاعر المعاناة.

المعركة خطيرة، وتطال أجزاء متصاعدة من الإنسانية، والنسب المقدرة عالية، وفي تصاعد مستمر، ولكن لا شيء يوحي ان بنى المجتمع، العائلة خصوصا، سوف تسترد عافيتها بالشكل المناسب من اجل ان تشكل وسيلة حماية للمستضعفين الذين قد يقعون فريسة هذه الأفة.

لا بد من التحصين عبر التوعية والتحسيس بشكل دائم، لان العلاج بعد السقوط يعني خسارة نصف المعركة، معركة المستقبل.  

Previous
Previous

ترقية الأب ميشال جلخ الأنطونيّ إلى الدرجة الأسقفيّة

Next
Next

الكنيسة في لبنان تحتفل باليوم العالمي للصلاة