الكلمة صار حقاً جسداً
البروفسور د. ميشال عبس
امين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط
افتتاح "منبر الكلمة" بيروت 07.11.2024
نلتقي اليوم، لقاءً اول في "منبر الكلمة"، زملاء وشركاء في العمل المسكوني، من اجل ان نحتفل بافتتاح المنبر، المشروع الذي جهزته مؤسسة نورسات لمجلس كنائس الشرق الأوسط، من اجل دفع الاعلام المسكوني في الشرق الأوسط والعالم قدما.
لقد كانت ساعة مباركة، حين قررت تيلي لوميار، وبسعي دؤوب من إعلامية مسكونية مناضلة، زميلتنا في المجلس وعريقة في تيلي لوميار، تزويد المؤسسة الاعرق في العمل المسكوني في المنطقة بوسائل نشر الرسالة الخلاصية بشكل حديث متطور.
تأتي هذه المبادرة في السنة الخمسين لتأسيس مجلس كنائس الشرق الأوسط عام 1974، وفي السنة الخامسة والتسعين لتأسيس المجلس المسيحي للشرق الأدنى عام 1929، النواة الأساسية لمجلسنا.
ولكن هذه المبادرة، إضافة الى العمل على تحقيقها من قبل المعنيين، لم تأت من فراغ، اذ بين نورسات ومجلس كنائس الشرق الأوسط عروة وثقى بحكم التفاعل لعقود، كما بفعل الهدف الواحد، العمل المسيحي المشترك، أي المسكوني.
قد يسأل المراقب البصير لعمل هاتين المؤسستين نفسه، لماذا ليست هاتين المؤسستين مؤسسة واحدة، ليس فقط بفعل الأهداف، بل أيضا بفعل التجانس في المقاربة والمنهج. في هذا المنبر، أصبحت المؤسستان واحدة في العمل على رفع السراج عاليا في قبة السماء، لكي يضيء السبيل لبني البشر.
لقد قامت الرسالة المسيحية، منذ بداياتها، على التواصل، عبر الوسائط التي كانت متاحة أنذاك، وتاج هذا التواصل كانت موعظة السيد على الجبل، حيث تحدى كل الأعراف والمفاهيم العتيقة البالية التي كانت سائدة في تلك الحقبة، واستبدلها بتعاليم العهد الجديد، الذي رسم مسارات الحضارة الإنسانية القائمة على المحبة، تلك التي لا تسقط ابدا، وتلك التي، بعد الفين ونيف، لم يجد الجنس البشري لها بديلاً.
لقد رافق التواصل كل اعمال الرسل، حيث ان المتجسد قد أشار لهم ان يذهبوا ويبشروا جميع الأمم، ويعمدوهم باسم الثالوث الاقدس.
إضافة الى عمل الكرازة، فان الليتورجيا المسيحية، ونظام القداس الإلهي وكافة الصلوات، يرتكزون على تقنيات متقدمة في التواصل، والباحث في هذا المجال يوقن ماذا اقصد في قولي هذا. لقد سبق القداس الإلهي، والصلوات على تنوعها، والليتورجيا، كل علوم التواصل وديناميات الجماعات وعلم النفس الاجتماعي، وأدوا دورا أساسيا في شد ازر الجماعة المؤمنة وتوحيد روحيتها ونظرتها الى الحياة والكون والفن. ليس صدفة ان تبقى كل هذه الابداعات الروحية على رونقها وألقها وجماليتها الإلهية بعد الفين من الاضطهاد والفتك والتشرد.
لن ندخل في هذه العجالة في دراسةٍ عن حضور مفاهيم التواصل في الكتاب المقدس، فهي لا عد لها ولا حصر، والذي يقرأ الانجيل واعمال الرسل من هذه الزاوية لا بد له ان يصل الى نتائج مذهلة.
ان مجلس كنائس الشرق الأوسط يعي كل ذلك، وقد كُتبت مقالات كثيرة في منشوراته حول هذه المواضيع، وكان السبّاق في انشاء دائرة للتواصل والاعلام، فقد كانت هذه الدائرة المتخصصة احدى أكبر دوائره منذ تأسيسه، كما شهدنا حينها، وكما هو وارد في انتاجه ومحفوظاته.
إضافة الى ذلك، كانت دائرة الإنتاج السمعي البصري، خلال الثمانينات وحتى بدايات القرن، من انشط دوائر المجلس وأكثرها حرفية، وضمت اعلاميين رفيعين من المنطقة، وقد انتجت كميات هائلة من المواد التي نحن بصدد تجميعها وحفظ جزء منها، عبر نورسات، التي وُضعت بتصرفها. لقد كان مركز الإنتاج السمعي-البصري في المجلس، الذي كانت تستضيفه آنذاك كلية اللاهوت للشرق الأدنى، كما سوف تستضيف المرحلة التالية من مشروع المنبر، من أفضل المراكز في لبنان تجهيزا، ولكن الازمات التي مر بها المجلس قد اجهزت عليه ولم يبق منه الا اطلال مواد نحن بصدد المحافظة عليها مع نورسات، وننوي جعلها متاحة للمعنيين بتاريخ ونشاط الحركة المسكونية في الشرق الأوسط.
اليوم، وبعد عقدين تقريبا، يعود المجلس الى خوض غمار الإنتاج الإعلامي، المرئي والمسموع، وبدعم من شريك تاريخي، نورسات الذي شكل هو نفسه، نقلة نوعية في مجال الاعلام المسيحي، بحلته المسكونية في الشرق الأوسط.
نورسات-تيلي لوميار، الضرورية الوجود، شامة على جبين المسيحية المشرقية، والعربية عامة، وقد كانت ساعة مباركة حين تأسست، وإننا نعتبر استمرارها ضرورة إنسانية-اجتماعية بقدر ما هي ضرورة مسيحية.
عبر الوثائق التي ننوي انتاجها، والتي نقوم ببرمجتها من ضمن مخطط توجيهي عام لعمل "منبر الكلمة"، سوف نحاكي، من منطلق مسيحي مسكوني، كل الظواهر التي تهم انسان العصر الحديث، الذي تتقاذفه موجات الاعلام المضلِّل-المضلَّل، والتي تحرفه عن المسار السوي لشؤون الحياة. لن نترك باباً الا وسنطرقه، هادفين نشر الوعي في عصر المعرفة. لذلك، نعتبر ان اليوم، السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، هو يوم تاريخي ومفصلي في الاعلام المسكوني، في بعديه، الديني-الليتورجي والاجتماعي-الخدماتي. سوف يتحول المجلس تدريجيا الى حالة إعلامية ترافق الأنشطة العملية الميدانية.
إضافة الى هذه المناسبة المميزة في تاريخ المجلس والحركة المسكونية، تأتي أيضا مناسبات متزامنة تشكل وزنات جديدة تضاف الى الوزنة الكبرى المتمثلة ب "منبر الكلمة".
هذه المناسبات هي اولا اعادة انتخاب الأمين العام لأربع سنوات مستقبلية، وهذا القرار هو بمثابة تجديد للثقة بالأمين العام والفريق العامل معه وبرامجه ومنهجياته في العمل، وثانيا انتخاب مدير دائرة الدياكونيا والخدمة الاجتماعية في المجلس عضوا في مجلس إدارة مؤسسة اكت الليانس، ارفع مؤسسة تنموية مسكونية في العالم، وثالثا حصول المديرة المالية في المجلس على شهادة الدكتوراه في إدارة الاعمال من جامعة في فرنسا، وقد تمحورت اطروحتها حول التنمية الإدارية في مجلس كنائس الشرق الأوسط.
السنة الخمسون للمجلس سنة مباركة، مزدحمة بالأنشطة والمناسبات، توّجها انشاء "منبر الكلمة"، حيث سوف تستحيل الكلمة جسدا بشكل يومي بجهود الفريق العامل، طارحة التحديات على الشر والخطيئة، منبهة الناس الى مكائد من يسكن الجحيم قلوبهم، ناشرة الوعي قدر المستطاع، في محاولة لتحصين الناس، الناشئة خصوصا.
في نهاية كلمتي، لا بد لي ان اشكر اللجنة التنفيذية للمجلس، وعلى رأسها رؤساؤه الأربعة، للثقة التي يولونا اياها، كما لا بد لي ان اشكر زملائي في المجلس، شركائي في تجديد الثقة بأمانتي العامة، في بيروت والسبتية والجنوب وعكار، كما في دمشق، ودرعا، وحلب، وعمان، والقدس، والناصرة، وغزة، لكل الجهود التي يبذلونها من اجل خدمة الانسان باسم السيد المتجسد، بَرا بوصاياه.
ولكن لا يمكنني ان اختم كلمتي، في هذه اللحظة التاريخية، دون ان اشكر الجندي المجهول، أحد "عساكر السما"، هذا العامل في الخفاء، حامل الهواجس، الذي رأيت فيه الوعد عندما التقيته ولم يمض على ارتدائه ثوب الزهد اسابيع، ذلك الذي يتكلم بصمت، ويحضر بخفر، صاحب الرؤية الثاقبة، الأخ نور الحبيب، الذي لولاه لما أبصر "منبر الكلمة" النور، ولما حُفظ جزء أساسي من تراث المجلس. تحية محبة لك أيها الأخ نور الحبيب، سلام المسيح كما نقولها لبعضنا البعض. نحن على العهد كما توافقنا.
واختم كلمتي متوجها الى الرب الرحوم قائلا له "يا روح الحق الحاضر في كل مكان، يا خالق كل ما يرى وما لا يرى، ألهمنا واهلنا ان نبر بإرادتك ووصاياك، وان نخدم الذين تجسدت لأجلهم، لعلنا نساهم باسمك ان تكون لبني الانسان حياة افضل".
أمين!