الأولى بين الشهيدات، تقلا
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
بشموخ السيد المتجسد امام جلاديه، وقفت تقلا، باكورة الشهيدات، امام الوالي الذي سألها من هي ولماذا تراجعت الوحوش امام وداعتها وايمانها. جل ما قالته للوالي انها من المؤمنين بسيد الطريق والحق والحياة، وهو الذي أنقذها.
بسحر كلام بولس اخذت تقلا الصبية التي كانت تتحضر للزواج، ففهمت بسرعة فائقة الكلمة وتبعته تاركة كل شيء وراءها من ثراء ورفاهية وأمان. اختارت تقلا الطريق الصعب فحظيت بشرف ان كانت الشهيدة الأولى في المسيحية، ذلك الايمان الذي تألم من اجل حمله الملايين والذي اوصله الينا اجدادنا بالدم والدموع.
عندما اخذت تقلا القرار الصعب واستبدلت الزواج بالحياة مع السيد المتجسد، كانت توقن ان زمن الالم آت، فانهارت عليها الالام الجسدية والمعنوية من كل حدب وصوب حتى وصلت الى النار. لا الضرب ولا التجويع ولا التهديد بالقتل اثنوها عن خيارها، خيار المحبة.
النار المضرمة بعنف الحقد الوثني لم تنل منها، فخرجت من "الاستشهاد الأول" سليمة معافاة، وخذلت الحاقدين وتركتهم لنار غيظهم تأكلهم.
تخلت عن كل وفرة ورفاه كانت تعيش فيهم هانئة، ورافقت الرسول بولس الى مدينة الله العظمى انطاكية حيث دخلت في معاناة جديدة.
في أنطاكية، عاشت تقلا "استشهادها الثاني" حيث ألقيت للوحوش بوشاية واشٍ يحارب الايمان الجديد، ولكن الوحوش الضارية لم تنل منها اكثر مما نالت منها النار المستعرة، فارتدت عنها خائبة، لأنها، كما اجابت الوالي، "أمة الاله الحي".
بعد ذلك، وبعد فترة من نشر كلمة الرب، قصدت تقلا القلمون، في بلاد الشام، واستقرت ناسكة في مغارة في معلولا، ومكثت هناك حتى بلغت التسعين من العمر، تشفي المرضى وتهدي الناس الى دين المحبة والفداء.
ولكن بما ان الشيطان لا يستكين، ويعمل في الخفاء لينال من الطيبين والشرفاء، كما هي حال البشرية حتى يومنا هذا، اغار عليها اشرار يريدون بها سوءا، فهربت منهم، وهي تصلي، الى صخرة احتمت بها حتى رقادها في العام تسعين من زمن السيد المتجسد، واعتبرت الشهيدة الأولى في المسيحية.
لقد قيل الكثير في القديسة تقلا، وكتب عنها أكثر. ذكرها البطاركة والباحثين والمؤمنين في محاولة لإيفائها حقها نظرا للتضحيات التي بذلتها والنضال الايماني الذي عاشته ولصلابة ايمانها ومضاء عزيمتها.
طروبارّية القديسة تقلا باللحن الثالث تصفها بالمجيدةُ تقلا، وتسميها رفيقةَ بولسَ الإلهي، وتعبّر انها "لمَّا التهبتِ بحُبِّ (خالِقَها) من تعاليمِ الكارزِ الإلهي، (ازدرت) الأرضيَّاتِ الزَّائلة، وقدَّمتِ (نفسَها) للهِ ضحِيَّةً مُقَدَّسةً مَقبولة، غيرَ خائفةٍ من العذابات."
اما الطروبارية باللحن الثاني فتصفها انها أولى الشهيدات وقد "وَطِئتِ اللهيبَ كأنَّكِ في مَرجٍ نَضيرٍ" وان الوُحوشُ قد هابتها لتَسَلُّحِها بالصَّليب.
الطروبارية باللحن الرابع تتوجه الى السيد قائلة له "نعجتك يا يسوع تصرخ نحوك بصوتٍ عظيم قائلة: يا ختني إني أشتاق إليك وأجاهد طالبةً إياك، وأُصلّب وأُدفَن معك بمعموديتك، وأتأَلم لأجلك حتى أملك معك، وأموت عنك لكي أحيا بك. لكن كذبيحة بلا عيب تقبَّل التي بشوقِ قد ذُبحت لك. فبشفاعاتها بما أنك رحيمٌ خلص نفوسنا."
اما تساعية القدّيسة تقلا، فقد اعتبرتها أولى شهيدات المحبة الالهية، وسمتها "عروسة نقية للفادي الالهي، وشريكة الرسل في البشارة بكلمة الحياة والخلاص" و"عنوان الأمانة ومثال التضحية (و) حبيبة المصلوب."
وتتوجه هذه التساعية الى تقلا الشهيدة قائلة لها: "لقد مشيت درب العذاب شاخصةً بعينيك الى المتألم، وبذلت ذاتك على مثال معلمك الالهي فداءً وحبّا، وأنت ترددين مع القديس بولس: اننا من أجلك نماتُ النهار كله، وقد حُسبنا مثل غنم للذبح، ولكننا نغلبُ بالذي أحبّنا."
وتتابع التساعية "لقد عرفت أن الغلبة هي بمحبة المسيح ابن الله مخلص العالم وحمل صليبه. لقد وهبك الرّب بفضل صبرك على المحن، وايمانك به واتكالك عليه، أن تتخطي الزمان والمكان، فظللتكِ قيامتهُ، ومن يده نلت اكليل المجد والحياة."
وتتوجه صلاة للقدّيسة تقلا لها مسمية إياها " زنبقة الطهارة وعنوان الشّجاعة المسيحيّة"، وقائلة لها "يا من صرت أولى الشّهيدات جميعًا كما كان إسطفانوس أوّل الشّهداء، وقد خصّك الله بوفرة الآيات الباهرة فانعطفت نحوك قلوب المؤمنين فشادوا لك الكنائس والمعابد في أربعة أقطار الدّنيا وحفظوا لكِ أجمل الإكرام. فكنت لهم ملاذًا في الشّدائد والأمراض وأضحى اسمك على كل لسان بما نال من نعم كل من لجأ إليك."
هذا من أجمل ما قيل في تاريخ الايمان والاستشهاد المسيحيين، والعاطفة الجياشة التي تنضح بها هذه النصوص، انما هي الدليل القاطع كم اثرت أولى الشهيدات، في مسيرتها وتضحياتها ونضالها ورقادها، في معتقد المسيحيين وصلابة ايمانهم، اذ ان الشهداء هم أولى الانتصارات.
ما زال دير القديسة تقلا في معلولا، في قلمون الشام، حيث هي راقدة، شاهد على الزمن وعلى نضال اخذ طابعا اسطوريا لان من قام به انما تخطى انسانيته ووصل الى درجة القداسة.
ما زالت معلولا تتكلم لغة السيد المتجسد الذي لا فناء لملكه، الآرامية، وما زال الناس في بلادنا، على اختلاف انتماءاتهم الدينية، يئمون الدير مستلهمين تقلا، الشهيدة القديسة، وطالبين شفاعتها.
تقلا تجمعنا بالمحبة!