ثلاث سنوات انقضت

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

في الرابع من الشهر الحالي، أي بعد يومين، يكون قد مضى ثلاث سنوات على الانفجار التاريخي الذي هز بيروت ولبنان والعالم، والذي صُنف من اقوى الانفجارات في تاريخ البشرية بعد الانفجارات الذرية.

يومها، وتحت ضغط هول الكارثة ووجع الناس وغضب الشارع، قطعت الدولة اللبنانية العلية وعدا للبنانيين انها سوف تكشف ملابسات الانفجار وتقبض على الجناة خلال أسبوعين من تاريخه.

ومنذ ذلك اليوم، ينتظر اللبنانيون الخبر اليقين الذي لم يأتي، ويبدو انه لن يأتي.

حوالي 225 قتيل و6000 جريح و35000 وحدة سكنية وانتاجية مدمرة، وثلث العاصمة معطلة وشعبها مهجر، واحياء برمتها لم تعد صالحة للوجود الإنساني، كل ذلك لم يشكل الحافز الكافي لتحرك ذوي الضمائر وحاملي المسؤوليات والمنصبين أنفسهم حماة لمصائر الناس ومصالحها. انه صمت الكهوف و، في أفضل الحالات، ملئ الفضاء الإعلامي بالثرثرة والنفاق والتسويف ورمي التهم والمسؤوليات على الغير.

أنتج هذا الانفجار مجلدات من مرويات معاناة الناس، وسوف يذكره التاريخ الى ازمنة بعيدة، وسوف يُكتب عنه الكثير، ولكن لا نتائج ملموسة تشفي غليل اهل الضحايا الذين يصرون على معرفة من المسؤول عن ضياع من يحبون.

كل قصة ضحية مأساة بحد ذاتها، قصة الذي قتل موجعة مثل قصة الذي جرح مثل قصة الذي اصابته إعاقة مثل قصة الذي خسر جنى العمر في منزله او مكان عمله.

لم نكن نحتاج لتلك الكارثة لكي نؤكد كم ان الدولة في لبنان هي عبارة عن فدرالية مؤسسات امتهنت الفشل واللامبالاة، لا بل تخصصت في العداء لشعبها، لمن هي مسؤولة عن صيانة حياته ومصالحه.

لا نقصد التعميم المطلق، ولا يمكننا الا ان نقف اجلالا لمؤسسات او لأفراد في مؤسسات صانوا تعهدهم يوم دخلوا الوظيفة، ومنهم من أصبح في عداد الشهداء، ولكن الفساد المستشري في لبنان، تضاف اليه روح انعدام المسؤولية، جعل ان أصبح المواطن اللبناني مخلوقا لا قيمة إنسانية له. هو فقط يصلح لان يكون اما عاملا برواتب بؤس، او من الازلام الذين يهللون لمجرمي الحرب والسلم في البلاد، او من المستهلكين الذين يقبلون بكل شروط المنتجين ذات الطابع اللاإنساني.

انه مجتمع الاستغلال غير المشروط والذي لا نهاية له. انه حكم مصاصي الدماء الذين اتقنوا الاختباء وراء لغة الإنسانية والورع.

لقد اكتشفت هذه الطبقة ان الطائفية السياسية هي أفضل وسيلة لحماية الفساد، فاعتمدوها وجعلوها متراسا يحميهم من اية مساءلة او عقاب. المساءلة، المفهوم الأساس الذي يشكل حجر زاوية الديموقراطيات الحديثة، منعدم الوجود تماما في لبنان.

شعب تحول الى قطعان، يسيرون وراء فاسدين، وإذا وجد من يحثه على الوعي، حركوا له حادثة ذات طابع طائفي من هنا او من هناك.

لقد أيقنا ان هذا الشعب مستعد ان يموت من اجل من يجوعه...المهم الطائفة ورمزها القيادي السياسي مهما كان.

بسبب هكذا ثقافة وهكذا عقلية تَحكُم مجتمعنا في لبنان، بلاد مئات الألوف من المتعلمين والمبدعين والعباقرة، لم يجرؤ أحد على كشف حقيقة أكبر انفجارات التاريخ الحديث.

انفجار المرفأ بحد ذاته، والتحقيق فيه، ليسوا سوى المؤشر على ثقافة الإهمال وانعدام المسؤولية وانتفاء المساءلة.

ان تسقط سيدتان مسنتان الأسبوع الماضي في حفرة مصعد بناية وتقضيان بأشنع الطرق، لان متعهد صيانة المصعد والمسؤولين عن البناء لم يتنبهوا لضرورة اقفال أبواب المصعد في الطوابق ولا حتى لوضع إشارة الصيانة، لهو مؤشر على ثقافة تلاشي المسؤولية التي ذكرناها.

الذي أهمل وضع الإشارات وحماية سكان البناء من اخطار صيانة المصعد، هو نفسه الذي ادخل المواد المتفجرة الى مرفأ بيروت وأهملها لعقد من السنوات، حتى اتى من او ما يفجرها.

هكذا حياتنا في لبنان، على فوهة بركان، على شفير هاوية، رهن غباء او فساد او جهل، والامر لا يمكن تغييره بمرسوم، بل بعمل تشريعي تربوي اعلامي دؤوب قد يستغرق عقودا من الزمن.

هذا التلاشي هو شكل من اشكال انهيار الرأسمال الاجتماعي الذي نركز عليه في مجلس كنائس الشرق الأوسط، اذ يفيدنا علم الاجتماع ان البنى الاجتماعية تنهار مع بعضها البعض، ولا يمكن ان تصمد أية من بنى المجتمع اذا انهارت باقي البنى.

امامنا درب طويل وشاق قبل استرداد حياتنا السوية التي تليق بناس القرن  الواحد والعشرين.

هل فهمتم الأن لماذا انفجر مرفأ بيروت ولماذا لم نقبض بعد على الذي تسببوا بذلك؟   

Previous
Previous

اَجلِسْ في آخِرِ مَقعَدٍ،... فيكبُرُ قَدرُكَ

Next
Next

في الذكرى الثالثة لإنفجار 4 آب