تنظيم الاسرة، تنظيم المجتمع، وكرامة الانسان

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

في كل مكونات هذا العالم، اكانت من صنع الخالق او من صنع الانسان، تحدد الخلية الأصغر البنية الأكبر او النهائية.

اذا كانت الاسرة تشكل الخلية الأصغر في المجتمعات البشرية، فإن تركيبتها وديناميتها هي التي تحدد تركيبة ودينامية المجتمع، مع الاخذ بعين الاعتبار طبعا البنى الوسيطة التي تقوم بدور أساسي في معظم الأحيان مثل المؤسسات والطبقات والجماعات المتنوعة ثقافيا، وسائر مركبات البنيان الاجتماعي المعقد والجميل بالنسبة الى دارسيه ومحلليه، المعنيين بواقعه ومصيره.

دراسة واقع الاسرة وجهود تنظيمها بالمعنى الواسع، هم اذا جزء من وعي المجتمع لذاته عبر دارسيه، وكم اهملت أفكارهم وطروحاتهم وكم جرى تجاهل انجازاتهم وتطلعاتهم، ولم تنصفهم الكثير من المجتمعات نظراً الى اهميتهم بالنسبة الى تنظيم المجتمع وتحسين احواله.

ان تحاول دراسة الاسرة وطرح بعض الحلول للمشاكل التي تعاني منها، يرقى الى مستوى الطبيب الذب يشخص مرضا – او وضعا غير سوي – ويقترح الحلول للخروج منه.

ان فهم وسبر غور والاستحواذ على تركيبة الاسرة وحركتها في مجتمع ما يؤسس لباقي السياسات الاجتماعية والعمرانية في شتى ابعادها.

اما ان تكون في مجتمع لا يفقه راسمي سياساته شيئا في ديناميات المجتمع الثقافية منها والديموغرافية، ولا يوقنون ان الناس تتزاوج وتنجب أطفالا وان الأطفال سوف يكبرون لذلك يجب إيجاد أماكن لهم في روضات الأطفال والمدارس والجامعات وان هؤلاء الأطفال المتخرجون من الجامعات بعد ربع قرن سوف يحتاجون لإيجاد وظيفة وسوف يتنقلون وسوف يؤسسوا اسرا جديدة اسوة بكل الجنس البشري، فيبتاعون شققا لتأسيس اسرة جديدة، وسوف يزداد استهلاك الكهرباء والمياه إضافة الى الحاجة الى شبكات تنقل وتواصل اكثر استيعابا، وفي وقت ما سوف يحتاجون الى العناية الطبية وغيرها من الخدمات المرافقة، فإنك واقع لا محالة في وضع تستحيل فيه المدن الى احزمة بؤس والى اكتظاظ سكاني وازدحام بشري وتلوث وغلاء فاحش في اكلاف التنقل والسكن وغيرها، إضافة الى تراجع نوعية النسيج العمراني في شتى انحاء البلاد، مما يؤدي الى نشوء مناطق سكنية جديدة مرتجلة وغير مخطط لها، فتصبح بؤرا جديدة من الفوضى العمرانية الى لا حل لها في المدى المنظور.

في المختصر: لبنان نموذجا.

هذه المجتمع الذي لا يعي اواليات نموه وتقدمه، لا يخطط الى توسعه العمراني بالتوازي مع توسعه السكاني، فيقع في فوضى لا توصف، والخروج منها شبه مستحيل.

اما ان يعي المجتمع، عبر الدارسين في هذا المجال، ومن ثم عبر الدولة، المؤسسة المؤطرة لحركية المجتمع، هذه الوقائع، فإن من شأن ذلك ان يسهل النمو العمراني والبشري المرتكز على النمو السكاني، وان يجعل مؤسسات الشأن العام تواكب هذا النمو، فينشأ الناس عالمين ان لكل انسان مكانه ومكانته وليس عليه ان يصارع صراع الضواري في الغابة - صراع البقاء - من اجل الحصول عليها، بل عليه ان يصارع الصراع التقدمي في مجال الإنتاج والابداع والفعالية وحسن الأداء.

هكذا تحفظ الدراسات السكانية وتقنيات تنظيم الاسرة كرامات الشعوب والافراد.

لا بد ان انوه هنا بدور فاعلين اجتماعيين أساسيين في هذا المجال.

اولاً، الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية وعلوم السكان، الذين اغزروا عطاءا في هذا المجال من الدراسات والمحاضرات والبرامج والمشاريع.

اما ثانياً، فلا بد من ان ننوه بالعديد من مبدعي الفن السابع الذين استطاعوا ان يصوروا هذا الواقع المرير في بلاد العرب اوطاني. ما أكثر الأفلام او الربورتاجات التي عالجت هذه المواضع وصورت الواقع بكل بشاعته، في محاولة منها لحث من يجب ان يفعل شيئا، ان يفعله، او على الأقل ان يباشر برسم بعض الحلول له.

كمحاضر وباحث في مجال علم الاجتماع الاقتصادي، اعتبر اننا ما زلنا في مرحلة ما-قبل العقد الاجتماعي، لذلك نرى، بين وقت وآخر، تصرفات تليق بالغابة تذر قرنها في حياتنا اليومية وتعيث الفوضى والفساد في مجتمعاتنا.

مظلومة الدراسات الاجتماعية والديموغرافية في مجتمعاتنا اذ انها، حتى لو حصلت، فإن حظوظها في التطبيق وتحقيق التحول المرتجى قد تكون شبه معدومة.

الامل ان تتراكم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من اجل ان تشكل يوما قوة ضغط كافية لإيجاد مجتمع يسير على قواعد جديدة.

Previous
Previous

متحدون في الصلاة - عيد دخول العائلة المقدّسة إلى مصر

Next
Next

الأمين العام د. ميشال عبس ووفد من مجلس كنائس الشرق الأوسط