الكرامة للإنسان المنكوب

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

انه المشرد، المهجر، اللاجئ، البائس، العاطل عن العمل، المهمش، المتروك، المرذول.

انه الذي وُجد في المكان الخطأ في الزمن الخطأ.

هو الذي ضنّت عليه الحياة بعطاياها، ورمته بالأرزاء، حتى لأضحى ضائعا في متاهات الحياة.

الحياة بناء هش، هزيل، قد يتحول بلحظات الى ركام... ما بين رفة عين وانتباهتها، قد تتحول حياة الانسان الى رماد.

النموذج الأخير الصارخ امامنا، هو ليلة زلزلة ارض شمال المشرق الانطاكي، من مرعش الى مديات، الى انطاكية، الى جبلة، الى اللاذقية فحلب. ليلتها، استحالت حياة الناس الامنين جحيما، ومن كان له سقف يأويه، التحف السماء، ومن كان له مصدر رزق يجنبه العوز، أصبح ينتظر الدور للحصول على بعض ما يسد رمقه.

 هذا النموذج الأقرب الى معاناتنا وذاكرتنا، اما إذا عدنا الى الوراء تذكرنا ما حصل في فلسطين النكبة، وكيف شُرّد ابناءها من ارضهم في ارضهم، وكيف هُجّر اللبنانيون واقتيدوا الى العوز والفقر، وكيف دُمّر العراق والشام على رؤوس ابناءهم الامنين. كل شعوبنا في المشرق ذائقة للتشرد والنكبة.

بعد نكبة فلسطين، تحول المشرق، خلال ثلاثة عقود الى امّة من المخيمات، تراها انّا ذهبتَ وكيفما توجهتَ، من غزة الى بين النهرين، مرورا بكل ارض اللبن والعسل، ارض الخمر والخمير.

نحن نعيش يوميا مأساة الانسان المنكوب، حتى لأصبح جزءا طبيعيا من مشهدنا اليومي.

تجده في مخيمات البؤس، وفي احياء اللجوء، في احزمة البؤس، حول المدن حيث الحياة الرغدة تصم الاذان عن صراخ واوجاع البؤساء.

معذبو الأرض هم، هم، يحملون عن غيرهم لعنة لا نعرف مصدرها ولا سببها، إذا اعتبرناها أتية من الماوراء. وبالعكس، نعرف تماما كيف أتت إذا طبقنا قواعد الحساب الاقتصادي، والاحصاء ونماذج توزيع الثروة التي تفضل بعض الطبقات عدم التطرق اليها.

لشدة بؤسه، يظن المستكبرون المتغطرسون انه يمكنهم امتهان كرامته، اذ يرون عوزه على محياه وفي ملابسه وفي تصرفاته وردود فعله.

لا يمكننا ان ننكر ان فاقته قد جعلت منه انسانا ضعيفا، لين العريكة، يمارس التسامح مقابل التنمر في كثير من الأحيان، ولكننا لا نعرف كم يحفر التعرض لكرامته ولمشاعره في نفسه وكم توجعه هذه التصرفات.

انسانيتي ومسيحيتي تخجلان من عوزك أيها المنكوب، وإذا قاربتك من اجل مساعدتك، فإنني افعله بخجل من فاقتك أيها المعوز. اخجل لان الحياة اعطتني وحرمتك، اخجل لأني أشبع وانت جائع، اخجل لأني مكتسٍ وانت عريان، اخجل لأني في دفء وانت بردان، واخجل لأني صحيح وانت مرضان.

إذا قاربتك من اجل ان اخفف عنك بعض احمالك الثقيلة، فإنني سوف استأذنك ذلك لأنك انت الذي تعطيني. انت تعطيني جمال البذل ودفء التضحية. واجبي ان اشكرك لأنك سمحت لهكذا مشاعر ان تجتاح روحي، وان تسكن في نفسي، وان تعطيني بعض من الرضا، رضاي عن نفسي ورضا الباري علي.

بهذا المنطق نعمل في مجلس كنائس الشرق الأوسط وعلى هدي هذه القيم نسير.

صلاتنا اليومية، التي اكررها امام الزملاء، والتي تلازمنا في يومياتنا هي " ان الرب قد وضع بين يدينا موارد – او وزنات – كثيرة، منها العقل والصحة والمال وسلطة اخذ القرار، الاّ قدرنا ان نحسن استعمالها لمصلحة عباده، اخوتنا في الإنسانية. هذا شعارنا وهو يعادل القول الإسلامي "اما اليتيم فلا تقهر، واما السائل فلا تنهر، واما بنعمة ربك فحدث".

كم شعرت بالفرح والاعتزاز يجتاحانني عندما اتصل بي شخص حصل على مساعدة من فريقنا العامل، عندما قال لي انهم اتصلوا به وقالوا له "عندنا هدية لك، او لفتة نحوك"، وكم شعرت ان هذا الانسان المعوز شعر بالكرامة من استعمال هذه المفردات، البسيطة في ظاهرها، والعميقة في فعلها.

هذه هي ثقافتنا في المؤسسة المسكونية التي تجمعنا، وهذا ديدننا، نعطي المحتاج بكرامة، ونحن على يقين ان الكرامة هي اهم ما يملك وأغلى ما بقي لديه بعد ان جار عليه الزمان.

"تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ." (مت 11: 28) قالها السيد المتجسد منذ الفيتين، ونحن نبرّ بهذا القول. نحن، بعملنا، بمحتواه، وبالطريقة التي نؤديه، نريح ثقيلي الاحمال من عبئ العوز ومن خشية المهانة.

في تاريخنا في الإغاثة والخدمة الاجتماعية، كما في التنمية، كما في المجالات الأخرى، منذ برامج خدمة منكوبي فلسطين، الى منكوبي لبنان والشام والعراق، نغلف خدماتنا بالكرامة، ونقدمها مفعمة بالمحبة الى أهلنا وشعبنا واخوتنا في الإنسانية.

هذه المنحى هو حجر زاوية ثقافتنا المؤسسية، ونحن على أبواب مناسبة تأسيسنا الخمسين، ولا ننوي ان نغير ذلك للخمسين القادمة، لا بل سوف نتجذر أكثر في عملنا على الكرامة الإنسانية، وهذه الندوة الليلة هي جزء من هذا العمل، الى جانب برامجنا الأخرى التي تعتمد الكرامة الإنسانية بوصلة عملها.

انني اذ اهنئ زملائي على ما يقومون به، واثني على انجازاتهم وطرائقهم في الاداء، أقول لهم " ابقوا انتم النموذج الصارخ والنفير الداوي للكرامة الإنسانية في هذه الامة"!

Previous
Previous

مومنتوم أسبوعيّة إلكترونيّة من مجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يشارك في اجتماع عالميّ حول تحدّيات الهجرة والفرص الّتي تقدّمها