تحصين السلم الاجتماعي عبر تحصين الانسان

المقاربات والأدوات والمحاذير

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

ألقيت هذه الكلمة في مؤتمر عالميّ حول السّلم الأهلي

الانسان كل متكامل، كائن اجتماعي واقتصادي ونفسي في آن، ولا يمكن فصل هذه الابعاد عن بعضها البعض، ولا العمل على واحد منها دون الاخر، كما يشكل الدين البعد الأكثر ضرورة فيها، كونه يكتنز قصة الخلق ومسار الخلاص بالنسبة الى الانسان الذي ما فتئ يكتشف ضعفه يوما بعد يوم، وعجزه امام عظمة الخالق والخليقة، وذلك رغم تقدم العلوم والمعارف. لا بل أكثر، كلما ازداد علمه وازدادت معارفه، كلما أيقن أهمية سمو الخالق وضعفه من دون الرجوع اليه.

لقد حاولت بعض العقائد والاتجاهات الفكرية والسياسية التطاول على الدين، ونكران الخالق، وتدمير كل منظومة الايمان التي شكلت حجر زاوية تقدم البشرية، فلم تفلح، لا بل سقطت بالضربة القاضية التي اتتها من قبل المؤمنين ذوي العلاقة الوثيقة مع خالقهم والذين يستلهمونه ويطلبون بركته ورعايته في كل ما يقومون به، في كل زمان وكل مكان.

الدين إذا، هو معطى لا يمكن لا تجاهله ولا التحايل عليه، لا بل يجب اخذه بعين الاعتبار في كل ما يمكن رسمه من سياسات اجتماعية او تربوية، خصوصا لجهة القيم التي ينضح بها، والتي تشكل الضوابط الفضلى للسلوك الاجتماعي السوي.

إضافة الى ذلك، لقد اثبت التاريخ ان الناس مستعدة للتضحية بحياتها من اجل معتقدها، وتعتبر ان التضحية في سبيله ترخص، لذلك يضحي المؤمنون من دون حساب، معتبرين ان الرب يرى ويحاسب ويجازي خيراً من ضحى في سبيله.

بناء على كل ما ورد، نعتبر ان حرية المعتقد هي تاج الحريات لأنها تعنى بالمصير الإنساني في جذوره، منذ الازل والى الابد. يعني ذلك انه لا سبيل لمحاولة لجم حرية المعتقد ولا التدخل فيها، طالما ان من يمارسون معتقدهم يلتزمون حدود الايمان، ولا تشكل ممارساتهم ضررا لأخوتهم لا في الدين ولا في الإنسانية.

ولكن البشرية تتجه أكثر فأكثر الى نمط المجتمعات المتنوعة والمتعددة الديانات، والاعراق، والإثنيات، والعقائد السياسية، وغيرها من ابعاد الهوية ومجالات الانتماء الإنساني، مما يعني حكما ان مجالات التفسخ الاجتماعي والنزاعات متعددة، والله فقط يعلم ما قد ينتج عن ذلك من اضطرابات امنية وصولا الى حروب اهلية.

من هنا ضرورة بناء الانسان-المجتمع، الانسان الجديد، الذي ينتمي الى مقولة المواطنة الشاملة، الحاضنة للتنوع، والتي تحسن إدارة هذا التنوع، محولة إياه من نقمة محتملة الى نعمة محققة.

نحن اليوم في زمن ثقافة حقوق الانسان، في زمنٍ المطلوب فيه ان يكون صوت الجميع مسموعا، وان يكون الناس قادرين ان يُعبّروا عن أفكارهم وأراءهم وتوجهاتهم وخياراتهم، من اجل ان تكون لهم حياة وان تكون لهم حياة افضل، كما ورد على لسان السيد المتجسد.

لذلك، ورغم ان حرية الايمان والمعتقد تشكل حرية أساسية، لا بل حجر زاوية الحريات، فإنها تقودنا الى الحريات الأخرى التي يحتاج ان يتمتع بها الانسان لكي تكون حياته أفضل.

كوننا نعتبر ان الانسان كل متكامل، وان الانماء هو انماء كل انسان وانماء كل الانسان، كما أطلقها رائد الفكر الانمائي اللبناني الدكتور حسن صعب، فان العمل على بعد واحد لا يكفي ولا يأمن المجتمع الخلل والتشرذم الذي يمكن ان يعتريه. إذا كانت حرية الايمان والمعتقد تشكل حجر زاوية للحريات، فإن أهمية حجر الزاوية تكمن بأن نكمل البناء انطلاقا منه.

لذلك نعتبر ان العمل على مركب واحد من مركبات المواطنة الحاضنة للتنوع، رغم انه الأهم، لا يكفي، اذ أظهرت دراسات التنمية انه إذا جرى تطوير مركب اجتماعي واحد، وتُركت باقي المركبات في حالة تخلف، فلا بد انها سوف تقضي على المركب الذي شهد تقدما بمفرده.

انطلاقا من هذا الامر، نعتبر ان العمل على تنمية القيم الاجتماعية والثقافة وصولا الى المواطنة الشاملة، او المواطنة الحاضنة للتنوع، هي المقاربة الأنسب والاشمل، والتي يجب العمل عليها كإطار حاضن لجميع الأنشطة التي تؤول الى بناء الانسان السوي، المحترِم للغير في معتقده ولونه وعرقة وانتماءه السياسي او الطبقي او العائلي، وخياراته. كل ذلك ضمن إطار الشروط والضوابط المرعية الاجراء والتي تنص عليها القوانين.

علميا وعمليا، لا يمكنني بناء انسان يحترم عقيدة غيره الدينية ولا يحترم باقي ابعاد كيانه الاجتماعية والثقافية. لا بل العكس، إذا نجحنا في بناء الانسان الذي يقبل الاخر – وأحيانا يكون الانا الاخر – فإننا نكون قد نجحنا في ادراج تحول جذري في القيم والسلوك الاجتماعيين.

ان هذا المسار صعب وشاق، ونتائجه ليست مضمونة، نظرا للانتكاسات التي شهدناها في هذا المجال، حيث الارتداد يكون أحيانا المتنفس الوحيد للإنسان المصاب بمتلازمة مقاومة التغيير. (resistance to change)

نعم، هذا المسار، مسار بناء انسان جديد، انسان مجتمعي، الانسان-المجتمع، الذي يعي انه يكتنز بشخصه كل غنى وخصائص المجتمع، لهو مسار خطير وصعب ولا يسير به الا من حزم امره وقام بخياراته النهائية التي لا رجوع عنها، وصولا الى عقد اجتماعي جديد. والا، فإن الميكانيزمات النفسية (psychological mechanisms) التي أولها مقاومة التغيير، هي بالمرصاد من اجل ان تُدخله في نفق فقدان الأمان وتُعيده الى حيث اتى، الى المُربع الأول، مُربع التمييز والتعصب وابلسة الاخر ورفضه.

لا بد لنا، في هذا السياق، ان نفرق بين نوعين من الانتماء، الديني في حالتنا هذه.

النوع الأول من الانتماء قائم أساسا على المقومات الايمانية المنفتحة السمحة، المرتبطة بعلاقة جميلة مع الخالق ومع الانسان، اخوه في الدين والإنسانية. هذا النوع من الانتماء يكون موجها الى داخل الانسان، الى ايمانه وورعه ومحبته للخالق وقائم على جوهر المعتقد، لذلك هو حكما، غير موجه ضد الغير. هؤلاء الناس اتفاعل معهم بشكل يومي في مجتمعي، واسميهم المسيحي النورمال او المحمدي النورمال.

اما النوع الثاني من الانتماء، فهو حال من لم يفقه من الدين شيا، فاعتبر ان انتماءه الديني موجه ضد الغير، وهذه حال من جهل كنه الدين وابعاده. هذا النوع هو الذي يحمل في عقله ونفسيته التهديد الأساسي للاجتماع البشري وللسلم الأهلي.

هنا التحدي المطروح على القيادات والمؤسسات الدينية، ان تبني الانسان السوي، الذي يفهم مأل الدين، ويعتبره وسيلة سلام لا وسيلة نزاع وفتنة.

ولكن التحديات المطروحة على باقي قيادات ومرجعيات المجتمع أكثر بكثير.

ان السير بالمجتمع نحو العقد الاجتماعي، يتطلب تعاونا ومؤازرة ودعما من المرجعيات الروحية، ولكن مشروعا من هذا النوع، إذا اريد له ان يكون مُكتملا لكي يُكتب له النجاح ويتحلى بالديمومة والاستدامة، عليه ان يكون مشروع وطن برمته، وتاليا لا يمكن السير به من دون تأطير من قبل الدولة بكافة أجهزتها.

إذا أردنا فعلا الانتقال من حالة الانتماءات الابتدائية القاعدية الى حالة الانتماءات المجتمعية المتقدمة، فلا يمكننا التحرك وإنتاج فرق عن الماضي المخيف، الا عبر حضور الدولة الكامل.

نحن نعطي ما لقيصر، لقيصر وما لله، لله، ولكن ذلك لا يمنعنا من ان نقول لقيصر ان الله لا يرضى ان يقتتل الناس بسببه، او بسبب مصالح البسوه إياها وباسمه.

لذلك، نرى ان دور المرجعيات الدينية يكمن في بعدين اساسيين:

- البعد الأول هو في الضغط على المرجعيات السياسية من اجل إرساء برامج تؤول الى وحدة المجتمع وتحصين تماسكه. هنا على المرجعيات الدينية ان تبلغ الحاكم، متخذ القرارات، أصحاب الحل والربط، ان الدين لا يحتاج الى مجتمع مفسخ، يقتتل أبناؤه كل بضعة عقود، وان قوة الدين تكمن في الالفة بين الناس لا في العداء بينهم.

- البعد الثاني هو في إيصال الكلمة الطيبة الى المؤمنين لأنهم يستمعون عادة لما يقوله رجل الدين. إذا كان هناك رجال دين يحضون الناس على العنف والاقتتال، فهناك آلاف منهم يبشرون بالوئام والمودة والمحبة. ان المؤسسات الدينية تستطيع ان تلعب دورا على مستوى الغراس روت (grass root) بقدر ما هي قادرة على التأثير على مستوى النخب.

في هذا السياق، لا بد لنا ان نشدد على ضرورة نزول منطق الاحترام المتبادل والقبول بالفروقات واحترامها، من المستوى النخبوي الى المستوى الشعبي، والا استحالت هذه القيم شعارات لا تأثيراً اجتماعياً لها.

اما بالنسبة الى الدولة، جمعية الشعب الكبرى، حامية الناس وضامنة مصالحها، فعليها تعود المسؤولية الأكبر والعبء الاثقل.

على الدولة التي تتوخى بناء مجتمع متماسك، يتسم بالاستقرار المحفز للاستثمار الذي يرفع المداخيل ويزيد الثروات ويؤمن البحبوحة، عليها اعتماد سياسة التكامل الاجتماعي في سياق بناء مجتمع المواطنة الكاملة والهوية الحاضنة للتنوع.

تتكون هذه السياسة من عدة ابعاد، لا بد من تضافرها، وعملها مع بعضها البعض من اجل التناغم في تحقيق الأهداف المرحلية وصولا الى الهدف النهائي.

ان المقاربة سهلة وصعبة في آن.

هي سهلة إذا صفت النوايا وكان في الحكم نخب نيرة تريد تحقيق السلم الأهلي وبناء المواطن السوي. أما إذا كان في الحكم مجموعات من الذين امتهنوا التلاعب بمشاعر الجماهير ومص دماء الشعوب والزج بها في أتون الفتن، فعبثا نحاول.

ان المقاربة في بناء الانسان المجتمعي، والخروج بالناس من حالة الغابة الى حالة المجتمع، تتطلب الابعاد الثلاثة التالية: التشريع والتربية والاعلام.

على المستوى التشريعي، لا بد من إعادة النظر بالقوانين وتعديلها من اجل الغاء كل بعد تمييزي فيها، اكان عرقيا ام اثنيا ام دينيا ام جنسيا ام طبقيا ام عائليا، واللائحة قد تطول. هل يعقل ان يكون في مجتمع ما قوانين أحوال شخصية عددها عدد الطوائف كما في لبنان؟ تعديل القانون يؤدي حكما الى تصحيح الكثير من المفاهيم التي قد ترعى التمييز بين الناس مما يؤدي الى ابلسة مكونات المجتمع لبعضها البعض. ان التشريع الموحد لكافة نواحي الحياة هو وسيلة أولى للمساواة بين المواطنين وجعلهم متساوين امام القانون وتاليا انتفاء أي مجال للتمييز بين الناس.

على المستوى التربوي، تتطلب الخطة بناء نظام تربوي حديث، يبث القيم الصالحة في أوساط الناشئة، ويؤهلهم دخول المجتمع بالشكل السليم، ويحضرهم لكي يكونوا مواطنين في هوية حاضنة للتنوع. ان مواد مثل التربية المدنية والادب والتاريخ هي المواد المناسبة التي لا بد من التعويل عليها من اجل الترويج للقيم البناءة التي تحفظ وحدة المجتمع وسلامه ومستقبله.

من نافلة القول، ان النشاطات الشبابية، مثل الكشافة وهيئات الدفاع المدني والصليب الاحمر والهيئات البيئية وغيرها، تشكل المكان المناسب للتربية على التعرف على الاخر والديموقراطية والمواطنة الكاملة والمسؤولية الاجتماعية. من الضروري ان تشجع الدولة على ذلك عبر التشريع والتمويل أيضا، وان تحرص الا تكون هذه الجماعات ذات بعد تمييزي.

اما البعد الثالث والذي يلعب دورا مفصليا فهو الاعلام.

يعتبر الاعلام اليوم السلطة المجتمعية العليا القادرة على التنشئة الاجتماعية للناشئة - كما للناس على حد سواء، ولديه قدرة على تغيير العقول وتوجيه الرأي والمواقف وحتى القيم. انه يعتبر، في عالم التواصل الاجتماعي المترامي الأطراف، القوة القادرة على تشكيل او إعادة تشكيل القيم. (value shaping force)

لذلك، على المجتمع والدولة ان ينشطا، يدا بيد في هذا المجال، أولا من اجل منع استعمال الاعلام للتفرقة بين الناس، وهذا امر شديد الصعوبة ومحفوف بالمخاطر لما قد ينعكس على الحريات العامة، وثانيا من اجل تعميم ثقافة الوحدة والتجانس المجتمعيين.

في هذا المجال، تستطيع الدولة وهيئات المجتمع المدني، عبر الاعلام، القيام بحملات إعلامية، على كل المستويات، من اجل ترسيخ ثقافة الوحدة في الحياة في عقول الناس، خصوصا عقول الناشئة.

قد تبدو هذه الخطة مثالية وبعيدة المنال، ولكنها نجحت في أكثر من مكان في العالم، سلبا وايجابا، ولا شيء يحول دون اعتماد هذه المقاربات من اجل خير المجتمع والانسان.

"الذي يكبر حجره لا يصيب"، يقول المثل الشعبي في لبنان، ولكننا في هذه الورقة المختصرة لسنا بصدد تكبير الحجر، بل بصدد تشخيص الوضع المثالي ووضع مخطط وإطار عام توخيا للوصول الى الأهداف المرجوة. يقول ماكس فيبر "إنك لن تستطيع الوصول الى الممكن اذا لم تحاول الوصول الى المستحيل"، خصوصا اذا كانت مجتمعات أخرى قد وصلت الى هذا "المستحيل".

ختاما، لا بد لنا من ان نؤكد ان كل محاولة للتعامل مع هذا الامر عبر بعض مركباته، مثل العمل على حرية الدين والمعتقد، هي محاولة محمودة، ولكننا نكون بصدد التعامل مع المعضلة التي نريد حلها بوسائل يسهل استضعافها او استفرادها، وتاليا القضاء عليها. قد يكون لا خيار لنا سوى ذلك في غياب القدرة على تطبيق خطة مجتمعية شاملة، حيث تكون كل عناصرها منسقة ومتآزرة مع بعضها البعض وتحت اشراف هيئات مختلطة من الدولة والقيادات الدينية وهيئات المجتمع المدني.

لا بد من السير قدما في هذا المسار، مراهنين على القلق الذي يعتمر صدور الناس في مجتمعاتنا، خصوصا الجيل الجديد الذي ينظر بريبة الى الغد، في مجتمعات سلمها الاهلي واستقرارها رهن تصريح او عبارة يكتبها موتور على جدار معبد او على جدار افتراضي من صفحات التواصل الاجتماعي.

ان الهدف يستحق المحاولة.

****************************

Previous
Previous

متحدون في الصلاة

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يتابع عمله المسكوني في إغاثة المتضرّرين جرّاء الزلزال