في اليوم الدوليّ للسّلام، 21 أيلول/ سبتمبر
تحيّة إلى صنّاع السّلام، ولكن...!
كثيرة هي المبادرات الّتي تسعى إلى بناء السّلام في خضمّ عالم ينزف جرّاء نزاعات تشتد وحروب تبدأ ولا تنتهي ولا تنتهي معها تداعياتها على المستويات كافة.
سؤال يتردّد دائمًا، هل من نتائج مجدية لمبادرات السلام؟ وهل تحقيق السّلام ممكن على الرغم من كلّ المعوقات والعقبات؟ في الحقيقة تبقى الصّورة مبهمة لكنّ الأكيد أنّ ثمار هذه الجهود تحتاج إلى دعم كبير وتضامن وتكاتف دوليين، كي تبصر بعض النتائج النور.
العمل الضروري أكبر ممّا هو متوقّع من أجل تحقيق السّلام المرجوّ، وذلك يتطلّب مناهضة كلّ أنواع العنصريّة والتمييز وتعزيز التسامح ونبذ العنف وخطاب الكراهية والتعصّب. علّ يكون لأصحاب القرار والجهات السّياسيّة بعض الآذان الصّاغية لشّعوبهم ويتعلّموا من مبادراتهم ومساعيهم! فالطريق نحو السّلام لا بد أن تكون عبر جهود رسميّة دؤوبة لوقف النزاعات والصّراعات والحروب المسلّحة عبر اللجوء إلى الوسائل السّلميّة.
من جهتها، تقوم الأمم المتّحدة بدورها اللّازم في التوعية ورفع الصّوت عاليًا، لكن تبقى صرختها مجرّد صدى صوت بالكاد يُسمع إن لم يكن هناك أي رؤية دوليّة مشتركة وعمل ميدانيّ جبّار. في هذا الإطار، خصّصت الأمم المتّحدة في الرزنامة العالميّة يومًا دوليًّا للسّلام. وهو ليس بجديد، فالعالم كلّه يحتفل به في 21 أيلول/ سبتمبر من كلّ سنة ومنذ عقود.
24 ساعة من دون عنف وإطلاق نار
يعود اليوم الدوليّ للسّلام إلى العام 1981 حيث أعلنته الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة رسميًّا مؤكّدة في القرار الصّادر عنها على ضرورة تعزيز مُثُل السّلام وتخفيف حدّة التوتّرات وأسباب الصّراعات. كما تعتبر أنّ اليوم الدوليّ هذا فرصة لوقف العنف والحروب في كلّ أنحاء العالم وبالتّالي نشر الوعي اللّازم لبناء السّلام. وبذلك يكون دعوة لكلّ الدول من أجل وقف الأعمال العدائيّة والإحتفال به عبر التعليم ونشر الوعي، والتعاون مع الأمم المتّحدة لتحقيق وقف إطلاق النار عالميًّا.
من هنا، دعت الأمم المتّحدة أيضًا إلى الإحتفال بالسّلام عبر الإلتزام لمدّة 24 ساعة باللّاعنف ووقف إطلاق النار. وفي الوقت نفسه، اعتبرت أنّ "تحقيق السّلام الحقيقي يتطلّب أكثر بكثير من مجرّد إلقاء السّلاح. إنّ الأمر يتطلّب بناء مجتمعات يشعر فيها جميع أعضائها أنّهم قادرون على الإزدهار..."، في عالم يحترم المساواة بين الجميع مهما اختلفت أعراقهم ودياناتهم وحضاراتهم...
إنهاء العنصريّة وبناء السّلام
لذا اتّخذت الأمم المتّحدة لليوم الدوليّ للسّلام 2022 موضوع "إنهاء العنصريّة. وبناء السّلام"، حيث تطلب من كلّ الدول والشّعوب الإنضمام إلى رحلتها من أجل القضاء على العنصريّة والتمييز وخطاب الكراهية... وبالتّالي التوعية حول هذا العمل من خلال التعليم والتشديد على العدالة بين الجميع. الأمم المتّحدة تؤكّد إذًا على ضرورة تضافر الجهود معًا لخلق عالم أكثر رحمة مُفعم بالمحبّة والتعاضد والتكاتف.
أمّا هذه السّنة، فقد احتفلت الأمم المتّحدة باليوم الدوليّ للسّلام في 16 أيلول/ سبتمبر في مقرّها في نيويورك، حيث دقّ الأمين العام ورئيس الجمعيّة العامة جرس السّلام في حديقة السّلام. كما خصّص الإحتفال فرصة لأكثر من 500 شابة وشاب لإيصال أصواتهم عبر التفاعل مع الأمين العام والفنّانين والناشطين البارزين في قاعة المجلس الإقتصادي والإجتماعي. كما قدّم الشّباب مشاريع تشرح الإجراءات الّتي اتّخذوها بغية مكافحة العنصريّة وتعزيز السّلام.
للمناسبة، ألقى الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش كلمة حذّر فيها من "سمّ الحرب" الّذي يتهدّد حياة الناس. قال "إنّ سمّ الحرب يصيب عالمنا، ويعرّض حياة الملايين للخطر، ويقلب الناس ضدّ بعضهم بعضًا، ويحرّض أمّة على أمّة، ويقوض الأمن والرفاهيّة، ويعكس مسار التنمية. كما أنّه يدفع بأهدافنا المشتركة للمستقبل أبعد وأبعد".
كما شدّد على ضرورة صنع السّلام الّذي يُعتبر من المهام الأساسيّة للأمم المتّحدة. لكن أكّد أنّ "مهمّة بناء السّلام تقع على عاتق كلّ شخص"، داعيًا إلى العمل على تحقيق السّلام من أجل الشّباب والأجيال الجديدة. هذا وذكّر "بالحاجة إلى التضامن العالمي والعمل الجماعي والإلتزام والثقة المتبادلة الآن أكثر من أي وقت مضى".
نحو بناء السّلام
في إطار التوعية من أجل السّلام، أشارت منظّمة International Alert أنّ بناء السّلام يتطلّب عوامل عدّة تتجلّى عندما يعيش الجميع بأمان من دون خوف أو تهديد بالعنف، وكذلك بمساواة أمام القانون الّذي يجب أن يكون فعّالًا في حماية حقوق الناس، مقابل أنظمة عدالة موثوقة. وما يسمح أيضًا في تحقيق السّلام هو مشاركة كلّ إنسان في صياغة القرارات السّياسيّة وفي الوقت نفسه تكون الحكومة مسؤولة أمام الشّعب. هذا ويحتاج كلّ فرد إلى الوصول العادل والمتساوي إلى احتياجاته الأساسيّة، وكذلك الحصول على فرص عمل متساوية.
للكنائس يوم آخر للسّلام؟
كنسيًّا، تحتفل عائلة الكنائس الكاثوليكيّة بيوم السّلام العالميّ في الأوّل من شهر كانون الثاني/ يناير من كلّ سنة، ليكون دعوة من أجل بداية جديدة تحتاج إلى العدل و السّلام الأساسيّين في سبيل صون كرامة الإنسان. إسم يسوع يعني "الله الّذي يخلّصنا من خطايانا"، وهو سلامنا (أفسس 2: 14)، ومصدر السّلام الحقيقيّ في قلب كلّ إنسان. من هنا حدّد القدّيس البابا بولس السادس يوم السّلام العالميّ في اليوم الأوّل من كلّ سنة جديدة، حيث بدأ الإحتفال به سنويًّا منذ عام 1967.
ولمناسبة اليوم العالميّ الخامس والخمسين للسّلام 2022، وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالته بعنوان "الحوار بين الأجيال، التربية والعمل: أدوات من أجل بناء سلام دائم"، حيث دقّ في بدايتها ناقوس الخطر. قال "تبقى للأسف مسيرة السّلام، الّتي أطلق عليها القدّيس بولس السادس الإسم الجديد للتنمية المتكاملة، بعيدةً عن الحياة الحقيقيّة للعديد من الرجال والنساء، وبالتّالي للعائلة البشريّة، الّتي أصبحت مترابطة بشكل كامل. على الرغم من الجهود المتعدّدة الهادفة إلى حوار بنّاء بين الأمم، يتوسّع ضجيج الحروب والنزاعات الّذي يصمّ الآذان، بينما تتطوّر الأمراض ذات الأبعاد الوبائيّة، وتزداد آثار تغيّر المناخ والتدهور البيئي سوءً، وتصبح أكثر خطورة مأساة الجوع والعطش ويستمرّ في السيطرة على المجتمع نموذج اقتصادي يقوم على الفرديّة أكثر من المشاركة التضامنيّة".
وتطرّق الحبر الأعظم إلى ثلاثة محاور وهي حوار بين الأجيال من أجل بناء السّلام، التربية والتعليم كمحرِّكَين للسّلام، و تعزيز العمل وتأمينه يبني السّلام. من خلالها ناشد قداسته الجميع "لكي نسير معًا على هذه الدروب الثلاثة: الحوار بين الأجيال، والتربية والعمل، بشجاعة وإبداع، ولكي يكون هناك على الدوام المزيد من الأشخاص الّذين، وبدون أن يحدثوا أيّ ضوضاء، يصبحون بتواضع ومثابرة يومًا بعد يوم صنّاع سلام".
أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مجلس كنائس الشرق الأوسط يسعى منذ تأسيسه إلى بناء الجسور بين مختلف مكوّنات المجتمع لتقريب المسافات في ما بينها وتعزيز الحوار في سبيل بناء السّلام وبالتّالي مجتمعات أكثر استقرارًا. لكن المجلس حمل أيضًا همومًا كثيرة وقصصًا نابعة من رحم الآلام ما زالت حتّى اليوم تحدق بأبناء المنطقة. لذا يعمل عبر مختلف برامج الخدمة والإغاثة إلى تضميد جراحهم والتخفيف من مأساتهم. إضافة الى ذلك، فإن لكافة برامجه في الاعلام واللاهوت والتربية والحوار ابعادا تحث على الحوار والتألف بين الجماعات والشعوب.
هذا وكانت الجمعيّة العامة لمجلس كنائس الشرق الأوسط الّتي انعقدت تحت شعار "تشجّعوا، أنا هو، لا تخافوا" (متّى 14: 27) بين 16 و20 أيّار/ مايو 2022 في مركز لوغوس البابويّ في وادي النطرون، مصر، قد حثّت في بيانها الختاميّ على تعزيز السّلام والسّلم في مجالات عدّة. من هنا، دعت إلى نبذ العنف والتعصّب بكلّ أنواعه وأشكاله، ورفض التطرّف والإرهاب والإقصاء والتمييز على أساس الدين والعرق واللّون والجنس...، التضامن مع المهمَّشين والمستضعَفين واللّاجئين والنازحين...، إحترام حرّية المعتقَد، وترسيخ قيم المواطنة والحياة المشتركة مع الإخوة المسلمين الّذين نتقاسم العيش معهم باحترام متبادَل... أيضًا حثّت الجمعيّة العامة المسؤولين وأصحاب القرار بالعمل الجادّ على التصدّي للأزمات المستشرية في في مختلف بلدان منطقتنا الشرق أوسطيّة، ولا سيّما الوضع الإقتصادي المتردّي...
دائرة التواصل والعلاقات العامة