بين العلمنة والمسيحية... سوء تفاهم

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

خلال حضوري الجمعية العامة لمجلس الكنائس العالمي بين 30 أب/أغسطس و8 أيلول/سبتمبر في مدينة كارلسروه في ألمانيا، أجريت بعض اللقاءات مع قيادات دينيّة مسيحيّة من مختلف دول أوروبا ناقشنا خلالها مسار المسيحية الأوروبية ووضعها الحالي على ضوء التغيرات الإجتماعية التي تجري في القارة العريقة.

ما استنتجته من المناقشات ومن ملاحظات ميدانية، أضفته إلى قراءات أقوم بها خلال عملي كأمين عام لمجلس كنائس الشرق الأوسط، أوصلني إلى نتيجة لا أستطيع القول أنّها مرضية ولا إيجابية بالنسبة إلى المسيحية في أوروبا.

السجلات البلدية، حيث يتقدم مواطنون أوروبيون بطلب إزالة ديانتهم المسيحية من سجّلهم الشخصي، والكنائس التي تقفل، أو تباع أو تؤجّر، والمؤسّسات المسيحية التي تتراجع ومستوى التبرعات الذي يتدنى، كلّها مؤشرات تدلّ على تقلّص المدى المسيحي في الخريطة الإيمانيّة في أوروبا.

هذا التقلّص ليس ناتجًا لا عن منافسة بين الأديان، ولا عن حملة دينية يقوم بها دين ضد آخر، ولا عن إغراءات تقدّمها المؤسّسات التبشيريّة لجذب الناس من المسيحية إليها، هذا التقلّص عائد إلى ديناميّة داخلية تجري ضمن المدى المسيحي الأوروبي وجوهره العلمنة.

يتحوّل الناس في أوروبا إلى العلمنة بوتيرة عالية ويستحيل هذا التحوّل ارتدادًا عن المسيحية وعداء لها. عندما قلت لأحدهم "اذا كان المسار كذلك، فهذا ليس تحوّل إلى العلمنة بل إلى الإلحاد"، أجابني: صحيح، إنّ الناس يتحوّلون إلى الإلحاد.

لقد تعامل جيلي في لبنان مع العلمنة منذ السبعينات، وكانت العلمنة تشكّل مطلبًا أساس لكافة الحركات الشبابية التي تتوخّى التغيير الإجتماعي نحو مجتمع أفضل، ولكن لم يتبادر إلى ذهننا البتّة أنّ المسار سيؤدي بنا إلى الإلحاد. قد يكون البعض قد مرّ بفترة في شبابه طرح خلالها أسئلة وجوديّة كبرى جعلته يمرّ بأزمات في علاقته مع الخالق ففكّر ونهج كملحد، ولكن نكران أنّ لهذا الكون خالق قدير لم يكن في جدول أعمال جيلنا.

جيلنا كان يهدف أساسًا إلى فصل الدين عن الدولة، وقد يؤدّي ذلك إلى علمنة المجتمع، أي أن تكون العلاقات الإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة وغيرها، غير مرهونة بالإعتبارات الدينية، وأن يكون الدين علاقة خاصة وشخصيّة قائمة بين المخلوق والخالق.

مجتمعنا عانى، وما يزال، من الطائفيّة السياسيّة التي تنظّم الحياة السياسيّة في لبنان على أساس الإنتماء الطائفي، مما يجعل الناس في حال من التبعيّة لما سمّي "أمراء الطوائف" الذين اكتشفوا، بعد نهاية الحرب في لبنان عام 1990، أنّ الطائفيّة السياسيّة هي السبيل الوحيد لحماية ممارساتهم من أيّة مساءلة.

أمّا بالنسبة إلى أوروبا، فما الذي يجعل مجتمعًا مكتفٍ إقتصاديًا ويحظى بكلّ الحرّيات الممكنة أن يتحوّل إلى الإلحاد حين يكون قادرًا أن يعيش حياة علمانية فيها فصل للدين عن الدولة؟

هناك أسباب عدّة قد تكون كامنة وراء التحوّل الإلحادي، أو العدمي، الذي تعيشه بعض شرائح المجتمع الأوروبي.

السبب الأول يكمن في التحوّلات الإقتصاديّة – الإجتماعيّة - الثقافيّة، بما فيها التشريعات، التي تعيشها هذه المجتمعات، حيث تحوّلت العلاقات الإنسانيّة إلى علاقات ماديّة بحت، وفقدت البعد العاطفي والروحي الذي طبعها خلال "الحقبة المسيحية". لقد أصبح التواصل بين الناس ماديًّا وجافًا يتسم بالكثير من الجفاء ما عدا الأوساط التي ما زالت في كنف الإيمان المسيحي والتي ما زالت تتسم علاقاتها بحرارة المحبّة التي بها اكتسبت المسيحية العالم.

السبب الثاني يكمن في علاقة الكنيسة مع الناس، حيث ارتكبت مؤسّساتها، خلال تاريخها البعيد والقريب، أخطاء ترقى إلى مرتبة الخطايا. صحيح أنّ الكنيسة مارست النقد الذاتي وصحّحت الكثير من أخطائها، لكنّ ضرر السُمعة قد حصل وفعل فعله، خصوصًا أنّ مؤسّسات السوء تقوم بالتركيز على هذه النقائص وتستعملها من أجل تهشيم سُمعة المسيحية وتدمير صورتها أمام المجتمع العالمي.

إنّ تفكك الروابط العائليّة في شرائح كثيرة من المجتمع الغربي هو نتيجة السببين المذكورين أعلاه، ولكنه أيضًا سبب لإمعان سير المجتمع الغربي في هذا الإتجاه. هناك مؤسّسات بحثيّة وسياسيّة تشجب أية عودة إلى الروابط العائليّة قد تظهر في أيّ من مجتمعات أوروبا إذ تعتبر أنّ ذلك يشكّل انتقاصًا من دور الدولة تجاه المواطنين وضرب لتساوي الفرص بين الناس.

إنّ أخطر ما يمكن أن يمرّ به المجتمع الغربي هو تفكّك الروابط المسيحية والعائليّة في آن، وهذا ما يهدّده بشكل مباشر حاليًّا.

أن تتوق إلى مجتمع المساوات والعدالة والتعاقد الإجتماعي والمواطنة الشاملة أمر، وأن ترتد على المعتقد والقيم التي جعلت هذه الأمور ممكنة هو شيء آخر. إنّ الحرّية التي تؤمّنها المسيحية هي التي سمحت بإنتاج المجتمع العلماني، وها هو يرتد عليها.

هنا لا بدّ لنا أن نعترف أنّ الكنيسة في الغرب، على مسمّياتها، تقوم بعمل جبّار لكي تكون سندًا للمجتمع ولكي ترافقه في مشاكله وأزماته، وهي تلعب دورًا أساس في حياته، وذلك رغم هذا التراجع الإيماني الذي تشهده. ولكن تبقى تحدّياتها كبيرة في مجتمع ما بعد الحداثة حيث الحرّية تصل إلى حدّ التفلّت وحيث لأيّ مصطاد بالماء العكر أن يعيث في الأرض فسادًا قبل أن تقبض عليه أجهزة الدولة وقد يكون ما اقترفه من أضرار كبير جدًا.

لا بدّ للعلمانيين ذوي النزعة الإلحاديّة أن يتذكّروا أنّ السيّد المتجسّد من الآب هو أوّل من فصل الدين عن الإقتصاد والدولة، أولا عندما طرد تجّار الهيكل وثانيًا عندما قال لهم أنّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

سجّلوا عندكم أنّ حرياتكم وقيمكم وعلمانيتكم هي إنتاج المسيحية التي ترتدون عليها اليوم.   

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

من الشرق الأوسط إلى ألمانيا