فلسطين، أولى الندوات، أولى النتائج

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

في سياق العمل على إعادة تأهيل الرأسمال الإجتماعي واستعادة مفهوم الكرامة الإنسانيّة وتحسين العلاقات بين الجماعات المكوّنة للشرق الأوسط وصولا إلى مجتمع متماسك، أطلق الفريق المكلّف بهذا البرنامج في مجلس كنائس الشرق الاوسط سلسلة ندوات ثقافيّة وفكريّة سوف تستمر لمدة سنة، بمعدل واحدة كلّ شهر.

أولى الندوات كانت حول فلسطين، عُقدت يوم الجمعة 29 تموز/يوليو بواسطة التواصل عن بعد، أولًا بسبب عودة الجائحة إلى الانتشار وثانيًا لأسباب تقنيّة تتعلق بالتغذية بالطاقة المنعدمة في لبنان.

موضوع الندوة كان حول سعي شعب فلسطين إلى الحرية من منظور مسيحي وقد اشترك في الندوة، إلى الأمين العام وفريق عمل البرنامج، أربعة منتدين تطرّقوا إلى الموضوع من جوانب شتى. لقد حضر الندوة 100 شخص إضافة إلى حوالي 75 آخرين لم يتمكنوا من الدخول لأسباب تقنيّة. سوف يكون تسجيل الحلقة متوفرًا خلال الأيام القليلة القادمة على صفحات التواصل التابعة للمجلس.

أول ما يلفت النظر في هذه الندوة هو تنوّع الحضور من حيث الإنتماء الوطني والديني والإثني والمهني والعمري نظرًا لأهميّة الموضوع وفرادته في المرحلة الحاضرة. لقد نسي بعض المتقدمين في السنّ – ومن هم أصغر سنًّا لا يعرفون – ما فعله المسيحيون وما فعلته المسيحيّة، الفلسطينيّة والعربيّة، لفلسطين، القضية والشعب، لذلك كان لا بدّ من التذكير وتحديث المعلومات حول التقديمات المسيحيّة للقضيّة الفلسطينيّة.

في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، قبل أن تندلع الحرب اللبنانية وخلالها، قدّم المسيحيون، على مختلف انتماءاتهم السياسيّة، بما فيهم مجلس كنائس الشرق الأوسط، خدمات جلّى للشعب الفلسطيني، على أرض فلسطين وفي الشتات، في كلّ دول الشتات، بما فيها لبنان حيث استشرت العداوة بين الشعبين لدرجة الفتك وارتكاب المجازر والتهجير. لن ندخل في تقييم سياسي للأمر فقد أصبح وراءنا وقد أثبت التاريخ صوابية هذا الإتجاه الذي يحثّ على التآخي بدل الحروب التي لا تبقي ولا تذر.

منطلقنا كان، نحن التصالحيين، أن الحروب تدار من الخارج والمستفيدون بامتياز هم أعداء هذه الأمّة وصناعة السلاح والذخائر. أمّا الضحايا فهم دائمًا وابدًا الأبرياء الذين لا علاقة لهم بما يجري والذين يحصدون كلّ نتائج جنون العنف.

عندما نستمع إلى المحاضرات وخصوصًا المداخلات نوقن كم أنّ الناس تجهل بعضها، وتعمد الى أبلسة بعضها البعض فتنسب إلى بعضها البعض نوايا لا تكون دومًا صائبة.

اكتشف الكثيرون أنّ اللبنانيين عامة لا يكرهون الفلسطينيين، وأن المسيحيين، لبنانيين وغير لبنانيين، قد قدموا لقضية هذا الشعب المتألم ما لم يقدمه أحد آخر. لقد جعلت الحرب اللبنانية التي دامت 15 سنة، من 1975 إلى 1990، أن ينمّي الفلسطينيون الشعور لديهم أنّ اللبنانيين، خصوصًا المسيحيين، يكرهونهم وقد قيل هذا الأمر لي مباشرة أكثر من مرة. أمّا من حيث الواقع التاريخي والجغرافي، فإنّ جنوب لبنان هو نفسه شمال فلسطين، أكان من حيث الإنتماء الأسري، أو اللهجة أو العادات والثقافة والفلكلور، كما يمكننا تعميم ذلك على كلا الشعبين من حيث الكثير من المقوّمات الحضارية والثقافية وغيرها. هل نسي الناس ان لبنان وفلسطين قد شكلا تاريخيًا الوطن المسمّى أرض كنعان؟

لقد فتحت هذه الندوة الأولى أبوابًا كثيرة للحوار بين الشعوب، وهم أساسًا شعب واحد تحوّل شعوبًا بحكم التجزئة والتفتيت، وهذا كان احد أهداف الندوة وستكون أهداف حوارية مماثلة في الندوات القادمة. كلما وضعنا مجموعات وطنيّة أو دينيّة أو عرقيّة متباعدة أو متباغضة مع بعضها البعض، كلّما حاربنا مقولة أنّ الإنسان عدو ما يجهل. الندوات هي وسيلة حوار وتعارف وتناضج متبادل بين الشعوب والثقافات.

الحوار هو هدفنا بقدر ما المعرفة هي هدفنا أيضًا. لا يمكننا أن نحلم بشرق أوسط متجانس ومتصالح مع ذاته ما لم نرّوج لثقافة الحوار والتفاعل. إنّها حرب على التجزئة والشرذمة وما نورده هنا ينطبق على الشام والعراق حيث أصبحت الجماعات المكوّنة لهذه المجتمعات في غربة عن بعضها البعض بعد أن عاشت في إلفة ووحدة إجتماعيّة لآلاف السنين، رغم الفتن التي كانت تذر قرنها من وقت لآخر خلال تاريخها.

في سياق هذا العرض وهذا الشرح لا بدّ لنا أن نلفت النظر إلى انه إذا كان هناك مسيحيون قد ناضلوا لفلسطين من منطلق سياسي، فإن عددا كبيرا من المسيحيين قد ناضل، بنفس مضاء العزيمة، من منطلق ديني، من منطلق القيم الإنسانيّة والإجتماعيّة التي نضحت بها المسيحية، أكان عبر أقوال أو عبر أعمال السيّد المتجسّد للخلاص، أو عبر ما قاله وفعله الرسل والشهداء.

إنّ المسيحية هي نصير المستضعفين والمهمّشين والغرباء واللاجئين وثقيلي الأحمال وكلّ من ناء تحت حمل الحياة وكل من جار عليه الزمن. إنّ المسيحيّة هي نصير الحق لأنّ الحق حرية.

يغرف المسيحيّون المناصرون للقضيّة الفلسطينيّة عناصر نضالهم من أقوال السيّد ومواقفه وتصرّفاته. يستند هؤلاء كذلك على المبادئ الأساسيّة المكوّنة للاهوت وقيم المسيحيين والتي تشكّل مخزونًا نضاليًّا عزّ نظيره.

أختم مقالتي هذه ببعض المقتطفات التي وردت من بعض الحضور:

"ما كنت أتوقّع ان هناك أناس منخرطون في حبّهم لفلسطين وفي العمل لأجل فلسطين بهذا الشكل"

"لدرجة كبيرة هناك عمل وكفاح وتضامن معنا وكأنّكم تقاسموننا المعاناة والإحتلال"

"كنت أقول زمان قبل أن أتعرّف إليكم أنّ أهل لبنان يكرهوننا...انصدمت من كثرة ما وجدت ليس فقط تضامنًا وانما انخراطًا في العمل من أجل فلسطين"

" الشاعر كان صادقًا جدًا لما قال أنّ بيروت هي خيمتنا الأخيرة... أنتم من بقي معنا"

"سلام لكم من القدس، سلام لكم من فلسطين".

إنّ الشعب المتألّم في فلسطين، الرازح تحت الإحتلال الاستيطاني والقمع اليومي والمصلوب منذ ثلاثة أرباع القرن، يستلهم السيّد الذي تجسّد على أرضه والذي تحدّى الفناء ودحرج الحجر.

إنّ قيامته لآتية.

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

عقب زلزال الرّابع من آب