المسنّون في لبنان يبحثون عمّن يحميهم ويخفّف أوجاعهم

تيتا أوصانا والعمّ سعيد: معاناة كما الجلجة!

تقرير وتصوير إيليا نصراللّه

 

وحيدون متروكون... مسنّون مُبعدون عن نبض الحياة، غارقون في دوّامة من اليأس... عبارات قد تبدو قاسية توحي بغياب الكرامة الإنسانية ومقوّمات العيش الكريم. كلمات ليست أقسى من واقع مرير يعيشه كُثر من جدّاتنا وأجدادنا، كبار في السنّ يبحثون عن بصيص نور وسط ظلام الأيّام الّتي أرغموا على عيشها. لماذا وصلوا إلى هذه الغربة؟ سؤال مشروع والإجابة قد تحمل أسبابًا لا تعدّ ولا تُحصى تتجلّى بظروف معيشيّة عصيبة يعانون منها وسط غياب قوانين ترعاهم وتحميهم، لا سيّما في منطقتنا، في الشرق الأوسط الجريح.

قداسة البابا فرنسيس قال في حزيران/ يونيو الفائت "إنَّ المسنَّ يسير إلى الأمام، نحو وجهته، نحو سماء اللّه"، ووصف المسار الأبديّ الّذي يكلّل به المسنّ حياته بإيمان وراحة وطمأنينة. مسار خال من أشواك الحياة ومصاعبها نحو فرح اللّقاء باللّه. لكن عددًا كبيرًا من المسنّين حرموا اليوم من خوض هذه المرحلة السّلاميّة من حياتهم، جرّاء مخاطر حياتيّة جمّة بات الجميع يعرفها بحيث تهدّدهم وتسلب منهم حقوقهم.

يعود الحبر الأعظم ويصلّي في تمّوز/ يوليو الجاري على نيّة المسنّين كي "تساعد خبرتهم وحكمتهم الأكثر شبابًا على النظر إلى المستقبل برجاء ومسؤوليّة". لكن كيف يمكنهم بثّ الأمل والرّوح الإيجابيّة وهم أصلًا فقدوا الرّجاء في شرق خسر شبابه؟

لبنان وسوريا والعراق... في عين العاصفة، وما أكثر الأرقام والإحصاءات في هذا الصّدد. هذا عدا عن الصّعوبات الّتي باتت الجمعيّات اليوم تواجهها في تأمين المساعدات بسبب الأزمات الإقتصاديّة والمصرفيّة والصحيّة المتمادية. الّا أنّ روايات أرض الواقع قد تدقّ جرس الإنذار! المسنّون في وطن الأرز على سبيل المثال وسائر دول المنطقة ليسوا بخير.

 

نزيف مسنّ "مش حرام؟!"

إلى شوارع بيروت درّ! في منطقة مار مخايل الّتي لم تندمل جراحها بعد عقب عامين على انفجار مرفأ بيروت، نلتقي تيتا أوصانا ونتوجّه معها إلى أحد أحياء المنطقة الفقيرة. هناك حيث الأمل الخجول تسكن التيتا، في غرفة واحدة عند مدخل أحد المباني القديمة.

تستقبلنا بضحكة يشوبها الحزن وتروي لنا قصّتها ومعاناتها. تقول "جوزي كان يشتغل بالمطار. وضعنا كان منيح وحاولنا نروح على فرنسا بالثمانينات بس ما صار في نصيب. توفّا بمرض السرطان من حوالي الـ40 سنة. عندي بنتين، وحدة منّن توفّا زوجا وتنيناتن عملوا عمليّات بسبب أمراض خبيثة".

في خضمّ مساعي تيتا أوصانا للبقاء على قيد الحياة تعود بالذاكرة إلى محطّات مهمّة في حياتها وتخبرنا "من زمان كنت خيّاطة وكان عندي محلّ فيه مكنات ومساعدين. بس كلّو راح بسبب الأحداث سنة 1975. من وقتا تعاكست الحياة بوجنا. كنت قبل ساعد الناس هلّق أنا صرت محتاجة، حياتي عذاب. على الرغم من كلّ الصّعوبات من المهمّ يكون في محبّة وبركة بالبيت".

تتابع "كنت عايشة قبل ببيت تحت الأرض وببلاش بس اضطرّيت فلّ من هونيك لأنّو صاحب الملك كان بدّو يهدّ البناية. هلّق صرلي 3 سنين عايشة بهيدي الغرفة لي أجارا 100 دولار شهريًّا. إختي كانت تشتغل بتنظيف البيوت لتقدر تساعدني بدفع الأجار شوي. هلّق في جمعيّة ساعدتني بدفع 6 أشهر، كتّر خيرن واللّه يرزقن".

عن حياتها الإجتماعيّة تضيف "هون ما عندي رِفاق، كلّ واحد عايش لوحدو والناس بتغار من بعضا. بالنهار بقرا الإنجيل وبروح على الصّلاة وبعمل أكل لولاد خيّي. المطبخ والحمّام مشترك بمدخل البناية خصوصي أنّو أختي عايشة كمان بغرفة بوجّي".

من هنا تنتقل التيتا إلى حالها الصحيّة. تحمل بيدها وصفة طبيب وتقول "كنت روح على مركز الصّليب الأحمر ليساعدني بالخدمات الصحيّة بس هلّق مش عمّ فيّي روح لأنّو المواصلات صارت غالية. عملت عمليّة ميّ زرقا وعمليّة مرارة ووقتا انزعجت كتير. عم بآخذ أدوية هيدي إذا قدرت أمّنا، أوقات كتير ما بقدر إدفع حقّا وأوقات ما بتكون أصلًا متوفرة. كرمال هيك الجمعيّات كمان مش عمّ تقدر تساعدني".

"اللّه يعطينا الصّبر ويصير في محبّة لتخِفّ الأزمات لي عمّ من عيشا". تتابع تيتا أوصانا والدموع باتت تلمع في عينيها، "اللّه يوعّي ضمير المسؤولين كرمال يصير في محبّة. بتمنّى أنّو الشّباب ما تروح وما تسافر. وبتمنّى كمان أنّو يصير في محبّة لترجع الحياة أحلى متل قبل وقت كان في إلفة بين الناس وما كانت الإشيا لي عايزينا غالية".

وبحرقة تعبّر عن وجعها "مش حرام؟! ضيعان البلد! ضيعان الشّباب لي عمّ بيروح على الفاضي! من دون الشّباب ما في بركة. بكلّ بيت عمّ بيصير في خراب وكلّ واحد عندو همومو".

لكن بإيمان كبير تقول "دايمًا صلّوا، نحنا كلنا تراب. ما تكبروا حالكن، يسوع بس هوّي الملك! اللّه بيعطيني قوّة لإستمرّ، كتّر خيرو".

حرقة قلب "يا ريتو اللّه بياخدني"

قصّة تيتا أوصانا تجسّد حال الكثير والكثير من المسنّين الّذين يعيشون من قلّة الموت، يكافحون في البحث عن أبسط مقوّمات العيش الكريم الّا أنّ النتائج تأتي من دون أي جدوى. العمّ سعيد أيضًا يعاني من مرارة الحياة، فما أن يندمل جرح حتّى تتفتّح جروح أكثر إيلامًا.

في منطقة عين الرمّانة يسكن العمّ سعيد، في منزل ذاق كأس الموت، نستمع إلى قصّته على وقع أنين زوجته الّتي تتألّم بصمت.

يروي "من وقتا ما عملت الحادث من 15 سنة برم الدولاب. كنت إشتغل معلّم كهربا والحادث صار بشغلي. وقعت وجيت على راسي وضهري كرمال هيك بمشي أنا وعمّ أعرج. عندي بنتين عايشين بعاد وصبي. مرتي كانت تشحد على أبواب السوبرماركات والكنائس".

يتابع "من ورا الأحداث لي عمّ بتصير معنا وفرق الدولار الحياة صارت أصعب. مرتي ضربتا السيّارة هيدا غير عمليّة الميّ الزرقا اللي عملتا. اضّطرّينا ندفع مبالغ كبيرة للاستشفاء، في ناس ساعدتنا وأنا تديّنت، بعت الـمكيّف والتلفزيون والفرن... الدين كتير كبير ومش عم بعرف كيف بدّي أخلص منّو. عايشين على علبة حمّص وشقفة جبنة وحبّة زيتون. ما عم نقدر ناكل متل ما لازم. أمّا بالنسبة للأدوية فصاحب الصيدليّة لي بروح عليها رفيقي وبيساعدني دايمًا من جهّة الدفع، خصوصي أنّو ما فيّي وقّف الدوا لمرتي".

العمّ سعيد فقد كلّ آماله في رحلة الحياة الشّاقة، يقول "عايشين حياة قرف، ما إلنا نفس نقعد مع حدا، مش عم طيق إسمع حتّى الأغاني. إيمانا كبير بس اللّه بعدو عم بي جرّبنا. مش عم نستنظر شي بقا، هالحكّام عم يقضوا علينا. اللّه يسامحهن شو عمّ يعملوا فينا. قرفان كتير، يا ريتو اللّه بياخدني هلّق وبياخد مرتي المعتّرة لما تتعذّب! مش عاملينلو شي لربنا بس من ضلنا نقول كتّر خير اللّه. انشاللّه يزبط هالبلد ويصير في شغل والعالم تقدر تاكل".

 

مجلس كنائس الشرق الأوسط ومساندة المسنّين

أمثال تيتا أوصانا والعمّ سعيد كثيرة، تجاعيد وجوههم ترسّخ وجعهم. أمّا المبادرات الإنسانيّة فما زالت تسعى لمرافقة المسنّين بقدر الإمكانات المتوفّرة علّ الطريق نحو برّ الأمان يصبح أقرب.

مجلس كنائس الشرق الأوسط يحاول بدوره تضميد جروح المسنين عبر دائرة الخدمة والإغاثة – دياكونيا، مكتب بيروت، الّتي تبذل جهودًا لدعم المتروكين منهم في لبنان ومساعدتهم في مواجهة التحدّيات المعيشيّة اليوميّة بأقلّ أضرار ممكنة بغية زرع الأمل والفرح في قلوب باتت مشلّعة جرّاء الضغوط اللّامنتاهية.

تعمل دائرة الدياكونيا في بيروت ومستوصف السيّدة العذراء التابع لمجلس كنائس الشرق الأوسط على التواصل المستمرّ مع المسنّين الأكثر عوزًا للإستماع إليهم وتحديد حاجاتهم في سبيل تأمينها وتوفيرها عبر أنشطة إجتماعيّة أو طبيّة مختلفة، مثل الإستشارات الطبيّة، وتأمين الأدوية، والمتابعة المنزليّة، والمساعدات النقديّة، الغذائيّة وغير الغذائيّة.

كما تركّز دائرة الدياكونيا على الإهتمام بشكل خاصّ بالمسنّين الّذين يعيشون وحدهم من أجل رعايتهم واحتضانهم والتخفيف من يأسهم. كذلك تنفّذ الدائرة دورات تدريبيّة عدّة حول سُبل رعاية المسنّين والإهتمام بهم بطريقة صحيّة وسليمة وآمنة.

 

لبنان غير آمن للمسنّين

في المقابل أفاد تقرير "صرخة أمل وألم" الصّادر عن "المؤسّسة الدوليّة لكبار السّنّ" ومنظّمة العمل الدوليّة أنّ المسنّين في لبنان تأثّروا سلبًا إزاء الأزمات الإقتصاديّة. ومع ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة في البلاد بات معظم المواطنين عاجزين عن تأمين حاجيّاتهم الأساسيّة، ما أثقل بالتّالي كاهل المسنّين.

ما زاد الطين بلّة هو انهيار أنظمة الدعم والرّعاية الّتي كانت سابقًا تحمي كبار السنّ، أكانت البرامج الحكوميّة أو القطاع الخاصّ أو المنظّمات غير الحكوميّة أو الشّبكات الأسريّة. لذا وبحسب التقرير فقد العديد من المسنّين مصدر دخلهم أو بات آخرين مرغمين على العمل حتّى بعد سنّ التقاعد.

ووفق معلومات التقرير فإنّ لبنان ما زال من أضعف الدول في المنطقة في تأمين الحماية الإجتماعيّة للمسنّين، لا سيّما وأنّ نحو 80% منهم يعتمدون على عائلاتهم من أجل الدعم المالي أو على مدخراتهم الّتي فقدت أصلًا قيمتها إن وجدت. من دون أن ننسى أنّ معظم المسنّين في لبنان لا يتلقّون أي معاش تقاعدي أو دعم مالي من الدولة، خصوصًا وأنّ صناديق الضمان والتعاضد أصبحت أيضًا مهدّدة بالإنهيار.

  

مأساة المسنّين تابع!

يتعرّض المسنّون أيضًا في العالم إلى أشكال مختلفة من الإساءة، فقد تكون جسديّة كالإعتداء بالضرب أو الرّكل...، أو جنسيّة كالإغتصاب والإرغام على القيام بأي عمل جنسيّ... أو نفسيّة عبر الإهانة والتهديد. هذا إضافةً إلى الإستخدام غير القانونيّ أو غير المناسب لأموال أو ممتلكات المسنّين. كما أنّ كُثر منهم باتوا متروكين من دون رعاية أو تلبية لحاجاتهم الضروريّة. قد تكون الإساءة أيضًا روحيّة حيث يُقيّد أو يُمنع المسنّ من ممارسة عاداته أو تقاليده الروحيّة. لذا حدّدت الأمم المتّحدة في رزنامتها الدوليّة يومًا عالميًّا للتوعية بشأن إساءة معاملة المسنّين الّذي يصادف في 15 حزيران/ يونيو من كلّ سنة.

لكن لماذا الإساءة إلى المسنّين وهم في أدقّ مرحلة من عمرهم بعد أن ذاقوا مرّ الحياة ومصاعبها؟ لا إجابة منطقيّة طالما أن المشكلة تكمن في المساس بحقوق الإنسان وكرامته! فهل من أذان صاغية إلى وجع هؤلاء الذين يفترض أن يعيشوا خريف العمر بكرامة؟؟

  

دائرة التواصل والعلاقات العامة

Previous
Previous

إيليا الغيور وأزمنة السوء

Next
Next

معًا نتكاتف ونصلّي - عيد النبيّ إيليا