عمالة الأطفال والإنسانيّة المهزومة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

الثاني عشر من شهر حزيران/يونيو هو يوم مكافحة عمالة الأطفال. هكذا حدّدته منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر، عبر مختلف مؤسّساتها، رأس حربة في مكافحة هذه الآفة التي تجرح الإنسانيّة في صميمها.

تعتبر الإحصاءات المُدرجة على موقع الأمم المتحدة المتخصّص لهذا الموضوع أنّه خلال سنة 2020 شارك عشرة في المئة من الأطفال الذين يبلغ عمرهم 5 سنوات فأكثر في عمالة الأطفال في جميع أنحاء العالم، أيّ ما مجموعه 160 مليون طفل، ستون بالمئة منهم من الفتيان.

هذه الظاهرة ليست بجديدة ولا يجب أن تفاجئ القارئ.

الأطفال عملوا منذ بداية التاريخ ونجدهم في مجالات شتّى، بدءًا من مساعدة الأهل في الأعمال الزراعيّة، وصولاً إلى ما يسمّى الأطفال المحاربون، مرورًا بالعمل الحرفي على أنواعه، مع الأهل أو في مشغل يتدرّب فيه الطفل العامل على مهنة ما.

ولكن الأزمة بدأت مع الثورة الصناعيّة التي امتدت من العام 1780 إلى العام 1870 تقريبًا والتي غيّرت بنى المجتمعات التي انخرطت فيها وأسّست للمجتمع الصناعي الحديث وما تلاه من أشكال مجتمعيّة اتسمت بما اصطلح على تسميته "الحداثة".

خلال تلك "الثورة" التي شهدت أفول نماذج حضاريّة وثقافيّة قديمة وبروز أشكال جديدة من الإجتماع الإنساني، عانى الأطفال الأمرّين في حقبة قد تكون الأقسى في تاريخ التحوّلات البشريّة السلميّة. خلال هذه الفترة التي شهدت اندحار منظومات القيم القديمة للمجتمعات التي كانت على طريق التصنيع، اتسمت العلاقات الإنسانيّة ببشاعة وقساوة عاليتين وقد عانى الأطفال الأمرّين إذ شكّلوا، كما يشكّلون اليوم، الحلقة الأضعف في البنية الإجتماعيّة.

في هذا السياق، تشكّل رواية الكاتب الفرنسي إميل زولا، التي تحمل عنوان "جرمينال"، من أروع ما كتب عن هذه المرحلة من تاريخ الإنسانيّة حين فُقدت الرحمة وتحوّل الناس إلى حالة من الوحشيّة والغربة الإجتماعيّتين.

من الضروري لفت النظر إلى أنّ الدول التي كانت على طريق التصنيع قد جهدت بسنّ قوانين تنظّم عمالة الأطفال، ولكن جُلّ ما استطاعت هذه القوانين اجتراحه تمثّل في تحديد عمر ألـ 12 سنة بدل 8 سنوات كحدّ أدنى لعمل الأطفال في المصانع، أو تدابير أخرى مماثلة لم تنجح في حماية الفئة الأكثر ضعفًا والأقلّ حماية في المجتمع الإنساني.

لقد شكّل موقف المسيحيّة من الطفولة وحمايتها وصيانتها ورعايتها مرجعًا أساسيًّا لحثّ المجتمع الإنساني على القيام بما يتوجّب عليه من أجل الحفاظ على هذه الفئة الإجتماعيّة التي تعتبر الغد الواعد للمجتمع الإنساني.

هل مِن المقبول أن يكون من نسميهم فلذات الأكباد وأمل المستقبل عرضة لشتّى أنواع التنكيل وسوء المعاملة والاستغلال؟

إنّ المجتمع الإنساني الذي يسمح أن يكون مصير 160 مليون من أطفاله كما نشهد في العالم اليوم، لهو مجتمع مأزوم يحتاج إلى صدمة تعيده إلى رشده.

لا ننكر أنّه قد تمّ إحراز تقدّم كبير في لجم عمالة الأطفال بين عام 2000 وعام 2020 إذ انخفض عدد الأطفال العاملين بمقدار 85.5 مليون، ولكنّنا نشهد عودة إلى ارتفاع هذه العمالة من جديد بسبب الأوضاع الإقتصاديّة المتردّية على الصعيد العالمي، خصوصًا في المجتمعات التي تعاني من الفقر.

والآتي أعظم.

أبعد من الإحصاءات والدراسات الإجتماعيّة - الإقتصاديّة، تشكّل المشاهدات اليوميّة عيّنة فاضحة ممّا يعاني منه الأطفال في المجتمعات التي تعيش انعدام الإستقرار أو الحروب، وحكمًا، التهجير واللجوء.

إنّ مشهد الأطفال يتجمهرون حول مستوعبات النفايات، يبحثون فيها عمّا يسّد رمقهم أو رمق أهلهم لا يحتاج لا إلى تحليل ولا إلى تأويل. يعادله مشهد الأطفال الذين يهرعون إلى السيّارات المتوقفة على إشارات المرور يستجدون راكبيها بعضًا من نقود أو طعام. لا حاجة لوصف حالتهم البائسة ولا تصرّفاتهم التي تبعث في النفس ألمًا مهينًا.

أمّا إذا سألتهم لماذا هم في الطريق وليسوا في المدرسة، يجيبونك إجابات ذكيّة وحاسمة من نوع "ليس لديّ أب" أو "ليس عندي أهل وأعمل لإعالة والدتي وإخوتي"...أجوبة إمّا هي حقيقية أو قد لقّنهم إيّاها مشغّلوهم. نعم، أطفال التسوّل لهم مشغّلون يوزعونهم على تقاطع الطرقات ويجمعونهم مساء من أجل جباية "الحصاد".

أمام هذا المشهد، وألوف المشاهد المماثلة لأطفال يُستغلون في التهريب والسياحة الجنسيّة والصناعات المضرّة للصحة والعمل في المناجم أوالأطفال الذين يقدّمهم أهلهم مقابل دين، تقف المسيحيّة منتفضة تسأل هؤلاء: ألم تسمعوا بما قاله السيّد المتجسّد عن الأطفال: "مَنْ قَبِلَ واحدًا مِنْ هؤُلاءِ الأطفالِ باَسمي يكونُ قَبِلَني، ومَنْ قَبِلَني لا يكونُ قَبِلَني أنا، بَلِ الّذي أرسَلَني" (مرقس 9: 37).

هو السيّد الذي عبّر عن إرادة الآب إذ قال "دَعُوا الأطفالَ يأْتُونَ إليَّ ولا تَمنَعوهُم، لأنَّ لأمثالِ هؤلاءِ مَلكوتَ السَّماواتِ". (متى 19: 13-14).

هي البشريّة صمّاء ولكن واجبها أن تعلم أن "ليست مشيئة أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار" (مت 18:14) بل أن تصان صحّتهم وكرامتهم ومعرفتهم.

البشريّة الغارقة في بذخها حتى الثمالة، تبخل على الأطفال بالبرامج المناسبة من أجل إنقاذهم من أتون النار الذي زجّتهم به حضارة الحداثة ومجتمع الإستهلاك، إذ على المستوى العالمي، يبلغ الإنفاق الوطني على الحماية الإجتماعيّة للأطفال 1.1٪ فقط من الناتج المحليّ الإجمالي. أمّا في الدول الفقيرة والتي تشهد أعلى نسب لعمالة الأطفال فإنّ الإنفاق لا يتعدّى ألـ 0.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الحماية الإجتماعيّة للأطفال علمًا أنّ الإحصاءات تشير إلى عودة عمالة الأطفال إلى الإرتفاع من جديد.

أمام هذا المشهد المأساوي وهذا الأفق المتلبّد بالغيوم، نسأل المجتمع الدولي، الذي يسمّي نفسه مجتمع الحريّات وحقوق الإنسان – حقوق الطفل – هل تعي أيّها المجتمع العظيم الواقع الذي أنت قادم عليه؟

إذا كنت تريد تغييره فسُبل المخلّص واضحة جليّة. أمّا إذا كنت تريده كذلك، لأنّ مصالحك تقتضي ذلك، فلسوف تندم حين لا ينفع الندم.

https://www.un.org/ar/observances/world-day-against-child-labour

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

معًا نتكاتف ونصلّي