الكنيسة الأرثوذكسيّة تبدأ رحلتها الصّياميّة: يا اللّه إرحمني أنا الخاطئ
ما هو زمن التريودي؟
"يا ربّ إليك صرخت فإستمع لي إستمع لي يا ربّ..."، "هلمّ نبادر إلى تذليل البشرة بالإمساك إذ نحن مقبلون نحو مشهد الصّيام الإلهيّ غير المُعاب..."، "أبتهل إليك (يا ربّ) أن تطهّرني بوابل التوبة وتنيرني بالصّيام..."، بهذه الترانيم وغيرها ينطلق أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة خلال غروب أحد الغفران في رحلتهم الملكوتيّة، رحلة الصّوم الكبير نحو قيامة سيّدنا يسوع المسيح.
مسيرة تبدأها الكنيسة الأرثوذكسيّة هذه السّنة في 7 آذار/ مارس الجاري. يستعدّ لها المؤمنون وبكلّ خشوع من أجل تحقيق الهدف الأساس الّذي يكمن في الشّركة الكاملة مع اللّه جسدًا وروحًا، قولًا وفعلًا. يشكّل الصّوم، وهو أولى وصايا الربّ يسوع، المرحلة الثّانية من زمن التريودي، زمن العودة إلى اللّه.
الصّوم: حجّ وجهاد
تشرح بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس أنّ الصّوم هو حجّ ملكوتيّ، يساعد المؤمن في إنشاء شركة كاملة مع اللّه بكلّ ما للكلمة من معنى. وبالتّالي كلّ مخالفة في هذا الإطار تُعتبر زنى ما يعني فسخ للشّركة.
من هنا يأتي الصّوم كقوّة للتغلّب على أساليب الشّيطان الخداعيّة، فتقدّم الكنيسة في صلواتها مجموعة من الآباء القدّيسين بإعتبارهم قدوة ومثال في الرحلة الملكوتيّة هذه. لذا تدعو الكنيسة المؤمن إلى العبور في مسار مُفعم بالصّلوات والمحبّة والتوبة والغفران والإبتعاد عن الأهواء الشّريرة والشّهوات. وهكذا يتخطّى كلّ العقبات الّتي يمكن أن تطرق أمامه في مسيرته الصياميّة.
إذًا يسهم الصّوم في تحرير المؤمن من الخطيئة الأعظم وهي عبوديّة حبّ الذّات، وذلك عبر الصّلاة والتركيز على الخالق وتفادي الأمجاد العابرة والملذّات الفارغة والأنانيّة الّتي تُعتبر خطرًا جسديًّا وروحيًّا.
عبور ملكوتيّ نحو القيامة
يتميّز زمن التريودي بطابعه الخشوعيّ ويتجلّى بتطهير الذّات من كلّ شرّ "يا اللّه إرحمني أنا الخاطئ". خلاله يعود المؤمن إلى نفسه وإلى اللّه ليحقّق مع المسيح خليقةً جديدة وذلك عبر توبة صادقة.
كلمة "تريودي" تعني ثلاث أوديات أو قصائد، فالأودية تدلّ إلى قصائد المدح والتسبيح. ويأتي إسم التريودي من الكتاب الطقسيّ الّذي تستعمله الكنيسة في هذا الزمن حيث تستعيد خلاله القوانين أو التسابيح الّتي تتضمّن 9 أوديات. علمًا أنّ زمن التريودي يبدأ مع أحد الفرّيسي والعشّار وينتهي في يوم السّبت العظيم، فما هي إذًا المراحل الّتي يتضمّنها؟
ينقسم التريودي إلى ثلاث مراحل أساسيّة وهي فترة التهيئة، الصّوم الكبير، والأسبوع العظيم. تتخلّل فترة التهيئة للصّوم أربعة آحاد وهي الفرّيسي والعشّار، الإبن الشّاطر، الدينونة أي مرفع اللّحم، والغفران أي مرفع الجبن. وتتضمّن هذه المرحلة سبت الرّاقدين الّذي حدّدته الكنيسة في السّبت الّذي يسبق أحد الدينونة مباشرة.
أمّا المرحلة الثّانية من زمن التريودي أي الصّوم الأربعينيّ فتضمّ خمسة آحاد وهي الأرثوذكسيّة، القدّيس غريغوريوس بالاماس، السّجود للصّليب المقدّس، القدّيس يوحنّا السلّمي، ومرميم المصريّة. وخلال هذه المرحلة تقوم الكنيسة بصلوات عدّة، فمن الإثنين إلى الخميس يشارك المؤمنون بصلاة النّوم الكبرى، ومساء يوم الجمعة بمديح والدة الإله الّذي لا يُجلس فيه.
كما تُقام صلاة النّوم الصّغرى مع قانون لعازر مساء يوم الجمعة في الأسبوع السّادس. هذا إضافةً إلى خدمة قانون التوبة للقدّيس أندراوس الكريتي الّذي يُتلى جزئيًّا في الأسبوع الأوّل خلال صلاة النّوم الكبرى وكاملًا في يوم الخميس من الأسبوع الخامس حيث يُسمّى خميس التوبة.
إلى ذلك تبدأ المرحلة الثّالثة من زمن التريودي وهي الأسبوع العظيم، عشيّة أحد الشّعانين في صلاة الختن الأولى وتستمرّ حتّى السّبت العظيم المقدّس.
غبطة البطريرك يوحنّا العاشر: حلّة النفس هي التواضع
مع بدء رحلة الصّوم الكبير، يحمل أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة في قلوبهم كلمات راعيهم التوجيهيّة. غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس، شدّد في رسالته للصّوم هذه السّنة على أهميّة التواضع، بغية العبور إلى برّ الأمان وفرح القيامة.
قال غبطته "حلّة النفس في هذا الموسم المبارك هي التواضع. تواضع الصّلاة هو مفتاحها لتلج قلب الربّ. تقولها الكنيسة في أولى تسابيحها لهذه الفترة، لتهمس في إذن كلّ منّا: إنّ المسيح عروسَ النفس وختنها يريدها مزدانةً بحليّة التواضع. يريدها موشاةً بثوب نكران الذات. يريدها جبّارةً في الصّلاة الخفرة المبتعدة عن كلّ ظهورٍ وتظاهرٍ وعن زيفِ روحانيةٍ قشريّة، وما أكثرها في أيّامنا. تواضعها هو الّذي يحنّن قلب الربّ عليها إذ تصرخ: إرحمني. إنّ المسيح يريد من نفسنا أن تكون من العذارى العاقلات اللّواتي هيّأن له سراج الرحمة والتواضع والصّدقة فجعلن كيانهنَّ خدرًا لسكناه بالرّوح".
وأضاف "في الصّوم ربيعُ النفوس التائقة إلى إشراق المسيح. في الصّوم إزهار النفس مع إزهار الطبيعة. في الصّوم ربيعُ نفسٍ تنفض عن كيانها زمهرير خطيئة لتتشح برونق قيامة. في الصّوم ربيع نفوسٍ تنفض عنها فريسيَّةَ كبرياء لتلتحف بقيامة تواضع".
يبقى الصّوم إذًا رحلة جهاد روحيّ تتكلّل بالصّلاة والتواضع والتوبة، فينطلق عبرها المؤمنون نحو عيد الأعياد، هاتفين بقلب متخشّع صلاة التوبة للقدّيس إفرام السّرياني: أَيُّها الرّبُّ وسيّدُ حياتي، أَعْتِقني مِنْ روحِ البَطالةِ والفضولِ وحُبِّ الرّئاسةِ والكلامِ البطَّالِ. وأَنْعمْ عليَّ أَنا عَبدُكَ الخاطِئ بروحِ العفَّةِ واتّضاعِ الفكرِ والصّبرِ والمحبَّةِ. نَعَمْ يا مَلِكي وإلهي هَبْ لي أَنْ أَعْرِفَ ذنوبي وعيوبي وألاّ أدينَ إخْوتي، فإنَّكَ مباركٌ إلى دهرِ الدّاهرينَ. آمينْ.
دائرة التواصل والعلاقات العامة
المراجع:
موقع بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس