القطاع التربويّ في لبنان يحتضر
مدرسة القدّيس جاورجيوس بصاليم: نموذج عن معاناة المدارس اللّبنانيّة
تقرير وتصوير إيليا نصرللّه
إلى الهاوية درّ! هذا ما قيل منذ أعوام عن قطاع يُعتبر من أهمّ المرافق الأساسيّة في بناء المجتمعات. لطالما شكّل قطاع التعليم في لبنان شريان حياة رئيس وعامل ازدهار وتقدّم، الّا أنّه بات اليوم يلامس قعر الهاوية. حقيقة مرّة وصلت إليها المؤسّسات التربويّة في الشرق الأوسط خصوصًا عقب اندلاع الأزمات الإقتصاديّة والمعيشيّة في خضمّ ظروف صحيّة خطرة تجلّت مع تفشّي جائحة كورونا.
قطاع التعليم يلفظ أنفاسه الأخيرة، والطلّاب باتوا أوّل ضحايا هذا الواقع المرير. من دون أن ننسى الآثار السلبيّة الّتي أرخت بظلالها على الأهل والكوادر التعليميّة أيضًا. إلّا أنّ حال التلامذة واقع بحدّ ذاته يُنذر بالخطر لا سيّما وأنّ كُثر منهم اضطّروا للتضحية بتعليمهم واللّجوء إلى العمل لإعالة عائلاتهم. هذا عدا عن أنّ البعض منهم أرغم على الزواج المبكّر أو تعرّض للعنف أو حتّى وقع ضحيّة تدنّي مستوى التعليم وضعف القراءة والكتابة.
الأرقام والإحصاءات المتوفّرة في هذا الإطار تعلن حالة الطوارئ! قطاع التعليم في الشرق الأوسط ينزف حقًّا ولبنان في عين عاصفة هذه الكارثة.
أرقام مقلقة
نتيجة للظّروف الإقتصاديّة الصّعبة، سجّل البنك الدوليّ في تقرير له حول العام الدراسيّ 2020-2021، إنتقال ما يقارب 55 ألف طالب من المدارس الخاصّة إلى المدارس الرسميّة. وبحسب المركز اللّبنانيّ للدراسات إرتفعت معدّلات التسرّب المدرسي بشكل مقلق وذلك جرّاء الحجر الصحّي والإغلاق العام الّذي فرضته جائحة كورونا، أيضًا بسبب الفقر المدقع الّذي فرضه المدخول الضئيل لكثير من العائلات.
أمّا اليونيسف فتدقّ بدورها ناقوس الخطر حيث أفادت في دراسة حديثة لها أنّ 3 من بين كلّ 10 شباب في لبنان أوقفوا تعليمهم. كما أنّ 4 من بين كلّ 10 عمدوا على التخفيف من الإنفاق على التعليم لشراء المواد الأساسيّة. وتشير اليونيسف أيضًا إلى أنّ ما يُقارب 13% من العائلات فرضت على أولادها العمل كوسيلة لتأمين قوتها اليوميّ.
على الرّغم من كلّ هذا الخطر التعليميّ والفشل في تنفيذ خطّة إنعاش وطنيّة، ما زالت الموارد المخصّصة لقطاع التعليم في لبنان غير كافية، وفق المركز اللّبنانيّ للدراسات. في عام 2020 مثلًا تمّ إنفاق نسبة تقلّ عن 2% من الناتج المحلّي للبنان على التعليم، وما يزيد الطين بلّة هو أنّها نسبة أقلّ بكثير من الحدّ الأدنى الموصى به من قبل اليونسكو والبنك الدوليّ، أي بين 4% و6%.
في المقابل سعت مبادرات دوليّة وإقليميّة عدّة إلى إنقاذ القطاع التربويّ في لبنان. إلّا أنّ المساعدات هذه باتت غير كافية، فقد لفت مركز الدراسات اللّبنانيّة في إحدى منشوراته إلى تفاوت كبير بين الإحتياجات الفعليّة للقطاع التربويّ والمساعدات الّتي يتلقّاها من الجهات المانحة.
بدوره يعمل مجلس كنائس الشرق الأوسط منذ تأسيسه على صون كرامة الأطفال والحفاظ على حقوقهم من خلال برامج مختلفة تهدف إلى دعمهم ومساندتهم على مختلف الصّعد لا سيّما من ناحية تحصيلهم الدراسيّ في مختلف الدول في الشرق الأوسط.
ومع تفاقم الأزمات الإقتصاديّة في لبنان يضاعف فريق دائرة الخدمة والإغاثة – دياكونيا، في المجلس، مكتب بيروت، جهوده لدعم مواصلة الأطفال رحلتهم المدرسيّة والحدّ من ظاهرة التسرّب المدرسي. لذا كانت الدائرة قد أطلقت برنامج دعم مدرسيّ يهدف إلى مساندة العائلات الأكثر عوزًا من خلال تقديم مساعدات ماديّة إلى عدد من المدارس في مختلف الأراضي اللّبنانيّة من أجل تسديد الأقساط غير المدفوعة بعد.
تحدّيات كبيرة
مدرسة القدّيس جاورجيوس في منطقة بصاليم اللّبنانيّة والتابعة لمطرانية جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان) للرّوم الأرثوذكس تضمّ 430 تلميذًا وكانت إحدى المدارس المستفيدة من برنامج مجلس كنائس الشرق الأوسط، حيث تمكّنت من دعم 60 تلميذًا لتسديد أقساطهم المدرسيّة.
"القطاع التربويّ بخطر... ونحن كمدارس بحاجة إلى دعم مادّي بكلّ ما للكلمة من معنى! مجلس كنائس الشرق الأوسط ساهم في زرع الفرح في قلوب كُثر من الأطفال والعائلات" هذا ما كشفته مديرة المدرسة السيّدة جورجينا دعبول، لا سيّما وأنّ حال مدرسة القديس جاورجيوس كحال الكثير من المؤسّسات التربويّة اللّبنانيّة الّتي باتت تصرخ وجعًا جرّاء الخطر الّذي يتهدّدها.
مع السيّدة دعبول نبحث وبشكل ملموس في معاناة المدارس اللّبنانيّة: الطلّاب، الأساتذة والإدارة باتوا جميعهم في قارب واحد يبحثون عن برّ النجاة.
بدايةً تشرح دعبول أنّ "القطاع التربوي يعاني من تحدّيات عدّة تتعلّق بالمسائل الأكاديميّة الخاصّة بالتلاميذ، وبالظّروف الإقتصاديّة الصّعبة. هذا عدا عن تفشّي فيروس كورونا الّذي فرض التعلّم عن بُعد، ما أدّى إلى تدنّي بنسبة التعلّم واكتساب المعلومات لدى الأطفال بشكل واضح جدًّا، في لبنان وكلّ العالم".
وتضيف "مع عودة التعليم الحضوريّ كان تلاميذ الصّفوف الإبتدائيّة أكثر الفئات تضرّرًا لأنّه من المفترض أن يتعلّموا أولى تقنيّات الكتابة. أمّا اليوم فعمليّة إعادة التأهيل تأخذ وقتًا طويلًا عبر خطّة عمل جدّية ومراجعة لكلّ الدروس غير المكتسبة بشكل سليم. كما أنّ عامل النظام بات مفقودًا لدى التلاميذ لأنّ نمط التعليم الإلكترونيّ في المنزل ومع الأهل يختلف عن التعليم الحضوريّ في مقاعد المدرسة وبمرافقة الأساتذة".
تداعيات خطرة
أمّا من الناحية الماديّة فتؤكّد السيّدة جورجينا أنّ "الأهل يتحمّلون أعباء كبيرة وهم عاجزون عن تسديد الأقساط المدرسيّة وسط صعوبات في تأمين حاجيّاتهم الحياتيّة الأساسيّة. بالتّالي، باتت المدرسة تعاني بدورها من معضلة في توفير المتطلّبات الأساسيّة للتعليم الحضوريّ. كما نشهد في مدرستنا قلقًا وتخوفًا لدى بعض العائلات من نقل أولادهم إلى مدارس رسميّة أو شبه مجّانيّة وبالتّالي إلى مكان جديد وغريب عنهم".
لكن ماذا عن الأساتذة؟ توضح دعبول أنّ "الواقع هذا انعكس سلبًا على عمليّة تسديد رواتب الأساتذة الّذين لم يعد بإمكانهم تحصيل حقوقهم بشكل كامل. أمّا في مدرستنا فنحاول دائمًا مواكبة التطوّرات من أجل الحفاظ على حقوقهم بقدر الإمكانات المتاحة لدينا. إلّا أنّنا نشعر أحيانًا بالتقصير خصوصًا وأنّ المدرسة ليست كبيرة والطلّاب ينتمون إلى عائلات من طبقات إجتماعيّة متوسّطة".
التداعيات طالت أيضًا صحّة الطلّاب النفسيّة فبحسب دعبول "يشعرون بإحباط كبير مع فقدان الحوافز الّتي تدفعهم للتعلّم بطريقة سليمة. هذا عدا عن أنّهم يشهدون إحدى أسوأ الحقبات المعيشيّة أمام مستقبل مجهول وارتفاع في نسبة الهجرة. لذا نسعى في مدرستنا إلى مرافقة التلاميذ مع إختصاصيّة في الطبّ النفسيّ، لكن هذا لا يكفي لأنّ الطلّاب يتعرّضون لضغوط يوميّة كثيرة".
وتتابع "يعاني أيضًا الأساتذة من تداعيات نفسيّة صعبة فقد غرقوا في يأس ملموس بسبب عجزهم عن تأمين حاجيّاتهم الضروريّة مقابل كلّ العطاءات والجهود الّتي يبذلونها. أمّا هنا فنحاول دائمًا بثّ جوّ من الفرح لكن لا يمكننا أن نلغي العامل النفسيّ المضطرب".
نداءات وحلول
نسأل السيّدة جورجينا عن الحلول فتجيب وبأسف "صحيح أنّ الظّروف المعيشيّة صعبة جدًّا لكن على الأهل أن يدركوا أنّه لا يمكنهم تعليم أطفالهم بشكل مجّاني لأنّ المدارس تحتاج إلى مدخول مادّي كي تستمرّ في رسالتها. من جهّة أخرى على المدارس أيضًا أن تجد مساعدات عبر الجمعيّات والمؤسّسات المعنيّة حيث شهدنا تجاوبًا إيجابيًّا من قبلها.
أمّا التعاون مع الجهات الرسميّة فيقتصر فقط على المساعدات اللّوجستيّة كالأدوات الخاصّة للوقاية من فيروس كورونا إضافةً إلى الدورات التدريبيّة وورش العمل. لكن على الدولة اللّبنانيّة أن تخصّص جزءًا من ميزانيّتها للمدارس الخاصّة الصّغيرة. كذلك بإمكان المغتربين أن يسهموا في إنقاذ القطاع التعليميّ، فهنا مثلًا نتعاون دائمًا مع القدامى خارج لبنان والقادرين على مساندة مدرستهم".
وعن التسرّب المدرسيّ أعربت دعبول عن حزنها إزاء تفاقم هذه الظّاهرة لا سيّما وأنّ التعليم هو من أهمّ حقوق الطفل. أضافت "علينا جميعًا، جمعيّات وجهّات رسميّة ودولة وكنيسة ومواطنين ومغتربين من الطبقات الميسورة في لبنان أن نتكاتف ونعمل معًا للحدّ من هذه الظاهرة. هناك عددًا من التلاميذ يواصلون دراستهم في النهار ويلجأون إلى العمل في اللّيل ما يؤثّر سلبًا على قدراتهم الإستيعابيّة".
بأمل تختم دعبول حديثها قائلة "بقوّة اللّه سيصمد القطاع التربويّ لكن المهمّ أن نتكاتف ونتحلّى بالصّبر ونبتعد عن اليأس فنتكّل على اللّه وعلى الأيادي البيض ومعًا نمنع إقفال المدارس لأنّ الخطوة هذه تُعتبر بمثابة جرم". وشكرت دعبول مجلس كنائس الشرق الأوسط على الدعم متمنّية إستمرار هذا التعاون الإيجابي.
صحيح أنّ القطاع التعليمي يعاني جرّاء سياسات وتراكمات وأخطاء ارتُكبت على مدى أعوام، لكن تأتي أزمة اللّاجئين السوريّين في الآونة الأخيرة لتشكّل عبئًا إضافيًّا وضغطًا جديدًا على المؤسّسات التربويّة، علمًا أنّ 365 ألف طفل سوري لاجئ انضمّوا إلى المدارس اللّبنانيّة عام 2019 بحسب مبادرة "لا لضياع جيل". أمّا اليوم فبات أكثر من نصف أطفال اللّاجئين السوريّين خارج إطار المدرسة يتحمّلون كاللّبنانيّين تداعيات الظّروف الإقتصاديّة والمعيشيّة.
الوضع إذًا غير مطمئن والآتي قد يكون أعظم!
دائرة التواصل والعلاقات العامة