الإعاقة والمجتمع والعدالة

كلمة الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس

في ندوة حول كتاب "مسألة الإعاقة في العالم العربي، خريطة طريق للمستقبل"

عُقدت ندوة حول كتاب "مسألة الإعاقة في العالم العربي، خريطة طريق للمستقبل" بدعوة من الشبكة الجامعة لمناصرة الأشخاص المعوّقين EDAN، بالشراكة مع مجلس كنائس الشرق الأوسط، يوم الجمعة 16 كانون الأوّل/ ديسمبر 2022، في الجامعة الأنطونيّة في لبنان. وفي مستهلّ الندوة ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس كلمة بعنوان "الإعاقة والمجتمع والعدالة" تحدّث فيها عن مسألة الإعاقة ونظرة المجتمع لها إضافةً إلى عمل مجلس كنائس الشرق الأوسط في مجال الإعاقة.

الكتاب الصّادر حديثًا من إعداد وإشراف الأستاذ فادي الحلبي، مراجعة الراحل البروفسور أنطوان رومانوس، ومن إصدار دار سائر المشرق.

تجدون في التالي كلمة د. ميشال عبس كاملةً.

الإعاقة والمجتمع والعدالة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

في قصيدته المكفوفين، يقول شارل بودلير واصفا اياهم "تأملي بهم يا نفسي انهم حقا مريعون" "تظنهم فقط نماذج عن البشر، متوحدون رهيبون، تحسبهم سائرون اثناء النوم، لا نفهم الى اين يوجهون مقلهم المظلمة التي غادرتها الشرارة الإلهية." ويضيف "هكذا يعبرون الظلام اللامحدود، شقيق الصمت الابدي".

ثم، في نهاية القصيدة المريرة الطعم، التي سكب فيها كل مرارة حياته، يتابع مخاطبا "المدينة" - أي المجتمع – قائلا لها " في نفس الوقت انت يا مدينة، تغنين وتقهقهين وتزعقين، مأخوذة باللذة لدرجة الفظائع"، ويتابع مخاطبا اياها "انظري أنا أجر نفسي أيضًا! ولكني أكثر ذهولًا منهم".

يدفعنا الشاعر الى الاعتقاد أن المكفوفين يحركهم الأمل وان السعي الروحي هو الذي يجعلهم يستمرون، وهذا ينطبق على كل من بخسته الحياة جزءا منه. هكذا يجسد المكفوفون جميع بني البشر الذين يتلمسون في الظلام ويسعون لاكتشاف ما يمكن أن يعطي معنى لحالتهم البشرية.

اختصرها بالقول هنا، ان في الألم لحياة لذوي الفهم وان هناك من يتألم عن نفسه وعن غير، كما السيد الخلاصي.

الإعاقة، او الحاجات الخاصة، في وطني كما في العالم، قضية أكثر منها مسألة.

لقد تجاهل العالم لقرون طويلة مشاكل الإعاقة والناس ذوي الحاجات الخاصة، فكان الكون اشبه بمدينة بودلير، المأخوذة باللذة لدرجة الفظاعة، والتي من فرط تخمتها على كل الصعد، نسيت من يحتاج الى مد اليه يدٌ مُحبة ومُعينة.

لا تسألوا كيف كان ينظر الناس الى المعوق، على اختلاف أنواع الإعاقة، وكيف كانوا يجترحون الخرافات الني تنتجها مخيلة مريضة من اجل تشخيص حالته او تأويل وضعه.

الجماعات المستضعفة، ذات الحاجات الخاصة والتي تحتاج الى عناية ورعاية ريثما تستطيع الاتكال على نفسها، هي وجع المجتمع.

معوقيني يوجعوني، مسنيني يوجعوني، أطفال شوارعي يوجعوني، نسائي المعنفات توجعني، مدمنيي يوجعوني، ايتامي يوجعوني، واللائحة قد تطول في مجتمع الاستهلاك واللذة لدرجة فقدان الوعي. كثير الاوجاع انا، انسان الحداثة.

كلها قضايا أكثر منها مسائل. انها تحديات الانسان المعاصر، انسان حقوق الانسان والكرامة الإنسانية، انسان التكنولوجيا والفعالية الاقتصادية، انسان القرية الكونية وزمن المعرفة.

انها تحديات، لان الوعي الإنساني في ازدياد، مما يدعوه الى التعامل مع قضايا يتبين له انها عالية الأولوية وملحة وتشكل ثقلا على كاهل الناس، على نفوسهم كما على اوقاتهم، كما على قدراتهم. انها قضايا مَحبة ومسؤولية إنسانية-اجتماعية في آن.

لقد خطى العمل مع المعوقين خطوات جبارة على كافة الصعد، منها الاجتماعي ومنها التشريعي ومنها التقني، والذي يقارن وضع المعوقين اليوم بما كانوا عليه قبل عقود قليلة يدرك الفرق.

ولكن ما زال هناك الكثير لنقوم به، خصوصا في العالم العربي، والكتاب الذي بين يدينا اليوم يشكل حجر زاوية في فهم قضية المعوقين وبناء نظام خدمة لهم ودمجهم في المجتمع، او بالأحرى، تهيئة المجتمع بشكل أفضل لاستيعابهم ودمجهم.

لا يمكننا الا ان نثني على الخطوات التي خطتها المجتمعات العربية على طريق التعامل مع الإعاقة، من البعد المفاهيمي الى البعد الخدماتي، مرورا بالبعدين الثقافي-القيمي والتشريعي، ولكن الامر ليس غاية نصل اليها ونتوقف عندها ونكون قد ادينا قسطنا للعلى فنستكين. انه مسار ذو دينامية مستدامة يحتاج الى تحديث مستمر على كافة الصعد، لان الحياة لا تتوقف ولا الاعاقة سوف تتوقف ولا التعامل معها.

الأبواب الثلاثة للكتاب، كما الفصول العديدة التي يتكون منها، تشكل بالفعل خريطة طريق للعمل في مجال الإعاقة في العالم العربي الذي لم يزل في طور اكتشاف عدد معوقيه واعاقاتهم وليست كلها مصنفة حسب التصنيف الدولي للإعاقة. العالم العربي الذي يعاني في الكثير من بلدانه مشاكل سياسية وامنية واقتصادية اساسية، يحتاج الى مسار طويل قبل ان يستطيع القول انه ينصف معوقيه.  مجرد اعتبار العالم العربي ان نسبة المعوقين فيه تتراوح بين اثنين وخمسة بالمئة، يظهر كم هو حجم المجهود المطلوب أولا للاعتراف بالإعاقة، وثانيا التحري عنها، وثالثا تشخيصها، ورابعا التعامل معها.

لقد بذل كاتبوا الفصول، كما منسقو الكتاب، جهودا كبيرة لإنتاج هذه الوثيقة القيمة التي هي بين أيدينا اليوم، فلهم الشكر والثناء. كما ان الأفكار والمعطيات التي يزخر بها الكتاب تشكل أساسا يمكن البناء عليه لمستقبل أفضل لمعوقي العالم العربي.

تاريخ مجلس كنائس الشرق الأوسط عريق في التعامل مع الإعاقة، اذ كنا السباقين الى تأسيس مراكز تأهيل المعوقين في لبنان خلال فترة الحرب.

دار البهيج في الهرمل كان يهتم بالأطفال ذوي الاعاقة العقلية في البقاع الشمالي وكان يقدم خدمات نادرة في تلك المنطقة عبر فريق عمله المدرب أفضل تدريب والراهبات المتفانيات في العمل الى ابعد الحدود.

مركز المعوقين في صيدا، بفريقه المؤلف من اثني عشر متخصصا وتقنيا، كان يخدم منطقة الجنوب في مجال الإعاقة الجسدية. لقد كان مجهزا أفضل تجهيز وكنا نستقدم له الخبراء من الخارج. كان من المخطط له ان يرتبط هذا المركز بمشغل للكراسي المتحركة يديره ويشغله المعوقون بأنفسهم، ولكن الاحداث الأمنية التي حصلت آنذاك حالت دون ذلك.

الاحداث الأمنية نفسها هي التي حالت دون اكمال مشروع بيت الحنان الذي كان مخطط له ان يشيد على ارض استحصلنا عليها في قرية بشوات في البقاع، على غرار دار البهيج الذي اصبح آنذاك نموذجا يقتدى.

اما بيت الحنان، فقد كنا المطلقين له في دير الناطور في شمال لبنان، وكانت تديره راهبة مع فريق عمل متخصص وقد أصبح اليوم مؤسسة فاعلة ومرموقة.

بالتوازي مع كل ذلك، كان المجلس ذو فعالية في كافة الأنشطة في لبنان والمنطقة في مجال الإعاقة، اذ كان مشاركا في كل هيئات التنسيق للتعامل مع الإعاقة كما كان يقدم الدعم للعديد من مؤسسات الإعاقة، من الحاجات الصغيرة الأنية الى الدعم الطويل الأمد بما فيه البناء.

نعم، لقد كانت الإعاقة، وسوف تبقى، بندا يحظى بأولوية على جدول اعمال مجلس كنائس الشرق الأوسط، من منظور الحفاظ على الكرامة الإنسانية الذي يعتمده، كما من منظور المواطنة الشاملة، وإننا لا ولن ندخر وسعا دون المساهمة بشكل او بأخر في مساندة كل ما يمت الى الإعاقة بصلة.

على خطى السيد المتجسد نسير في عملنا في مجال الإعاقة، وعلى هدي افعاله في التعامل مع ذوي الحاجات الخاصة نعمل، وهو الذي جمع الى رسالته الخلاصية شفاء الرازحين تحت نير المرض والاعاقة. هو الذي ذكّر المدينة الصاخبة المأخوذة باللذة لدرجة الفظائع، ان هناك فئات مجتمعية لا يمكن اهمالها ولا تجاهل أوضاعها ولا التغاضي عن حاجاتها، وان القيام بالواجب تجاهها هو جزء من المسار الخلاصي.

سوف يشكل هذا الكتاب المرجع علامة فارقة ودليل عمل في قضية الإعاقة في العالم العربي واعتقد ان اللذين اشتركوا بإنتاجه كانوا مدركين خطورة ما كانوا مقدمين عليه، فلهم التقدير والشكر مرة أخرى. لقد وضعوا المجتمعات العربية امام مسؤولياتهم في مجال الإعاقة، فعسى ان تكون هذه المجتمعات على قدر المسؤولية.

بعبدا، الجامعة الانطونية، 16.12.2022 

Previous
Previous

متحدون في الصلاة - ناطرينك - 21 كانون الأوّل/ ديسمبر 2022

Next
Next

فيديو - مسألة الإعاقة في العالم العربي، خريطة طريق للمستقبل