شركاء مسكوّنيون معنيّون بنا
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
نعقد على مدى اليومين القادمين الإجتماع السنوي المعتاد للشركاء المسكونيّون لكنائس الشرق الأوسط بعد ما يقارب الثلاثة أعوام من الإنقطاع بسبب الجائحة التي حلّت بالعالم والتي شلّت حركة السفر العالمية وحوّلت الناس إلى ملازمة "الأونلاين" والتي، الحقّ يقال، قد حلّت الكثير من المشاكل وسهّلت أمور الناس بشكل كبير جدًا.
ينعقد هذا الإجتماع بعد بضعة أشهر من انتهاء الجمعيّة العامة الثانية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط، التي تأخّر انعقادها قرابة السنتين بسبب الجائحة أيضًا.
كما ينعقد هذا الإجتماع قبل أسبوعين من اجتماع اللجنة التنفيذيّة التي ستناقش توجهات أساسيّة في استراتيجيّات المجلس وستترجم توصيات جمعيته العامة إلى برامج ومشاريع، حسب توفّر الإمكانيات.
خلال الأعوام المنصرمة أمور كثيرة تغيّرت وغيّرت مجرى حياتنا في الشرق الأوسط، في الامن والسياسة والإقتصاد والثقافة والبنى الإجتماعيّة، وقد جرت هذه التغييرات بوتيرة سريعة جدًا بالنسبة إلى عمق التحوّلات.
الرياح تعصف بشدّة في منطقتنا ولم نعد قادرين على تلقفها أو تحصين أنفسنا ضدّها. الرياح تعصف بنا من كلّ حدب وصوب فأصبح جزء كبير من منطقتنا مثل مركب تتقاذفه الأمواج ولم يعد يعرف ما هو مصيره. لقد وهنت قوانا لدرجة أنّ مصيرنا لم يعد ملكنا وأضحينا عرضة لأهواء كلّ من يريد منا مصلحة له، محوّلين أنفسنا قطع غيار للسياسات الدوليّة ومصالح القوى النافذة.
بعض مجتمعاتنا يعيش اليوم أسوأ أيام تاريخه ويمرّ بأزمات ظنّها رحلت إلى الأبد وظنّ أنّه قد أصبح بمنأى عنها... لكنّها عادت إليه وبقوّة تدمره وتمزقه وتشرّد أبناءه وتحوّلهم إلى التشرّد والبؤس.
بعض مجتمعاتنا في طريق مسدود، سياسيًّا واقتصاديًّا، ووحدته الإجتماعيّة مهدّدة ومن الممكن أن يتحوّل إلى شراذم بقايا مجتمع عند استمرار هذا الفقدان للوحدة التي هي ضمان الإستقرار وتاليًا ضمان التقدّم والإزدهار.
بعض مجتمعاتنا جسم فقد محوره وأصبح ضائعًا تتقاذفه الأهواء والإرادات الخارجية وفقد بوصلته ولم يعد يعرف السبيل إلى الخروج من مأزقه فوجد نفسه يغرق في رمال متحرّكة ولا من مغيث.
خلال العقود الخمسة الماضية، جرى تدمير منهجي لثلاثة مجتمعات في الشرق الأوسط هي لبنان وسورية والعراق، وهي كانت مجتمعات مستقرّة بنسب متفاوتة ومزدهرة وتسير في طريق التقدّم بخطى ثابتة. وكانت فلسطين قد سبقتها إلى الخراب وتشرّد أهلها وهذه كانت المقدمة.
هل ما جرى لهذه المجتمعات هو مؤامرة خارجية أمعنت في تخريبها أم علل داخلية كامنة تحرّكت ودمّرت كلّ شيء؟
إنّ السببين متلازمان ويكمّلان بعضهما البعض وأحدهما غير كاف لإحداث هذا الكمّ الضخم من الأضرار.
لا شك أن هناك مؤامرات تحاك علينا، وينجح من حاكها في تنفيذها ونيل مأربه منا، ولكن علينا أن نعترف أن المؤامرة الأساسية تكمن في أنفسنا، في نقائصنا وفي النزعات السيئة التي اكتسبناها على مرّ العصور بسبب كثرة ما مرّ علينا من مستعمرين وغزاة ومحتلين.
هنا لا بد لنا من التساؤل حول السبل التي تؤول إلى تحصين المجتمع ضد قوى الإضمحلال.
كيف يمكننا أن نجعل مجتمعاتنا حصينة ونحول دون عودتها القهقرة وصولًا إلى نقطة الصفر كل بضعة عقود؟
إنّ الأجوبة كثيرة ومتنوّعة وليس هناك من متغيّرة واحدة تؤدّي إلى ذلك.
إنّ التعامل مع الإهتراء الإجتماعي على كلّ الصعد يحتاج إلى مقاربة متعدّدة الأبعاد، متعدّدة الأهداف تقوم بها مجموعات متعدّدة الإختصاصات تتأزر في عمل مشترك يقود إلى الغاية المنشودة.
إنّ التعامل مع الإهتراء الإجتماعي يحتاج إلى أن تكون هذه الفرق المتعدّدة الإختصاصات والكفاءات في حالة تنظيميّة تسمح لها أن ترفع فعاليتها فتجود آداءها. أمّا الأهمّ من ذلك فهو أن يكون بين أفراد هذه المجموعات رابط إيماني- قيمي يشدّ أزرها ويرشدها إلى الأهداف المناسبة التي تجعل أن تكون لهذه المجتمعات حياة أفضل.
إذا لم يكن هناك تضافر بين الرابط الإيماني- القيمي والرابط التقني فعبثًا نحاول إحداث تغيير وتقدّم إجتماعيّين. الكفاءات والدراية وحدهما لا تكفيان. العنصر الضابط لطاقات الإنسان هو العنصر الإيماني العقيدي القيمي وهو الذي يوجّه الأفراد والجماعات إلى الأهداف الصحيحة والتي تناسب حياة هذه المجتمعات وتسير بها نحو غد أفضل.
إنّنا نعي تمامًا هذه الحقائق في مجلس كنائس الشرق الأوسط، أكانت الحقائق المرتبطة بأوضاع بعض من مجتمعاتنا، أو الحقائق المرتبطة بشروط فعالية المؤسّسات التي تداوي جراح هذه المجتمعات.
نشأ مجلس كنائس الشرق الأوسط على أساس الإيمان المسيحي وعلى أساس الشراكة بين الكنائس وعلى أساس خدمة الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان. بحكم كونه إتحادًا لكنيسة المسيح في المنطقة، فإنّه حكمًا مسكوني الاتجاه والمنحى. فيه بقيت الكنائس على تراثها وهويتها، ولكنها في نفس الوقت اندمجت في تجربة شملت هذه الكنائس تدريجيًّا رغم كلّ العقبات والمعاناة والآلام. المهم أن الناتج الحالي للتجربة جيّد ورائد ويبشّر بالخير.
في مجلس كنائس الشرق الأوسط نعيش في الحقيقة ثلاث تجارب:
التجربة الأولى هي تفاعل أبناء الكنائس مع بعضهم البعض في مسار تناضجي يمكننا أن نصفه بالفريد.
التجربة الثانية هي تفاعل هذا المجموع الإنساني المنظّم المسمّى مجلس كنائس الشرق الأوسط مع محيطه المسكوني العالمي في مسار تناضجي من نوع آخر، حيث تجعل الفروقات الثقافيّة هذا التفاعل يحمل الكثير من التحدّيات ويجعل من الحوار بينها أيضًا مسارًا تناضجيًّا فريدًا.
أمّا التجربة الثالثة فتكمن في التفاعل بين مجلس كنائس الشرق الأوسط ومحيطه المجتمعي المباشر بما يحمل من تناقضات ومشاكل ترقى إلى مستوى الكوارث.
أمّا الأمر الأهم في هذه التجارب الثلاث فهي كيف تفاعلت الأسرة المسكونيّة الدوليّة مع مجتمعات بعيدة عنها وعن ثقافتها وأصبحت تحمل همومها وتعنى بتضميد جراحها وجعلتها جزءًا من حياتها. إنّها لم تكتفي بالإهتمام بهذه المجتمعات عبر الشريك المسكوني الإقليمي، لا بل أتت واستقرّت في قلب هذه المجتمعات لكي تسمع عن كثب ما تريد أن تقوله لها.
ما من ريب أنّ الإيمان المسيحي هو المحفّز الأساس على هذا الإهتمام اذ اعتبرت هذه الأسرة المسكونيّة الدوليّة المباركة إنّ شعوبنا هي من ثقيلي الأحمال الذين أراد الكلمة المتجسّدة أن يريحهم. إنّ قوة الرابط الإيماني لا تضاهيها أيّة قوّة أخرى، والإندفاع الذي يعطيه هذا الرابط لا يضاهيه أيّ اندفاع أخر.
مجلس كنائس الشرق الأوسط، بما هو مكان معيّة مسيحيّة، يشكّل عبر دراية وكفاءة فرقه العاملة كما عبر تواصله مع المجتمع، مركز إنذار مبكر للظواهر الإجتماعيّة غير الصحيّة ومركز رد على هذه الظواهر بما أوتي من طاقة وإمكانات.
في عمله هذا، يستند المجلس إلى ثلاثة أشكال من الدعم:
أولاها الثقة التي يحوز عليها من قيادات الكنائس كما من المؤمنين على المستوى الشعبي، أيّ أبناء الرعايا حيثما حلّ،
ثانيها الثقة التي يحوز عليها من المجتمع عامة، من الناس ومن المؤسّسات،
ثالثها الثقة التي يحوز عليها من الشركاء، الأخوات والإخوة في الأسرة المسكونيّة الدوليّة.
لقد بنيت هذه الثقة عبر عقود من العمل والتفاعل مع هذه الأبعاد الثلاثة لوجوده وقد استطاع أن يؤمّن مصداقيّة عالية مع مختلف شركائه وهذا ما ساعده على القيام من كبوته التي مرّ بها منذ حوالي عقد من الزمن والتي ظنّ البعض أنّها ستطيح به.
خلال تلك الأزمة، أتى الدعم من هذه الجهات الثلاث، الكنائس والمجتمع والشركاء في الأسرة المسكونيّة الدوليّة وأنتم تعرفون جيدًا ما كان دوركم في إنقاذ المجلس وأنتم جزء أساسي من ذاكرته التاريخيّة ومن وجدانه.
نحن، إذ نجتمع اليوم سوية على اسم يسوع المسيح، نشارككم همومنا وتطلّعاتنا من ضمن السياق الذي تعرفونه عنا والذي هو مبني على المبادئ التي تأسّس عليها المجلس. هذه المبادئ مثبتة في نظامه الأساس وفي أدبياته التي ما فتئ ينتجها لحوالي نصف قرن، كما أنّ هذا السياق واضح في ممارساته والخدمات التي يقدمها للمجتمع.
نحن اليوم في صراع مرير بين الخير والشرّ على أرض المسيح، في مهد المسيحيّة الأولى، ونحن نعي تمامًا أهميّة الدور الذي نضطلع به في هذا الصراع ونحن نتحضّر لليوبيل الخمسين. إنّنا نحمل هموم الكنائس مجتمعة كما هموم الناس، لذلك نحاول أن نكون قدر المستطاع على مستوى التحدّيات.
أمّا التحدّيات في بلداننا، فإنّها تتخذ أشكالًا شتى، من السطحي منها والذي يعرقل حياتنا اليوميّة وينعكس على قدرتنا على الإنجاز والإنتاجية، ومنها العميق الذي يهدّد مجتمعاتنا في الصميم وفي أسس وجودها. كلّ شيء تحدٍّ وكل لحظة تحمل تحدٍّ أو أكثر. بالمختصر، نحن في تركيبة إجتماعيّة – إقتصاديّة - سياسيّة مهتزّة وتحتاج الكثير من أجل إعادتها إلى الحدّ الأدنى من الإستقرار.
التحدّيات التي نواجهها هي حكمًا نتيجة الأزمات التي تمرّ بها بعض مجتمعاتنا. إنّها تتراوح بين سَدّ الحاجات الأوليّة للمجتمع مثل المأكل والمشرب والمسكن من جهة ومن جهة أخرى، العمل على إعادة تأهيل البنى الإجتماعيّة في عمقها ردًّا على التفكّك الذي تعرّضت له خلال العقود المنصرمة. مجلس كنائس الشرق الأوسط لا يطرح نفسه فقط كهيئة إغاثة وتنمية – وهي أمور أساسيّة لا يمكن تجاهلها، بل يطرح نفسه أيضًا شريكًا اساسيًّا في ترسيخ الفهم الديني وتصويب المفاهيم والعلاقات الإجتماعيّة وصولًا إلى عقد إجتماعي جديد وبناء المواطنة الحاضنة للتنوّع. في هذا النضال، يغرف من مفاهيم وقيم المسيحيّة الأسس التي يبني عليها عمله.
لقد أغاث المجلس المشرّدين والبائسين وعمل في التنمية وفي الإعلام وفي مناصرة القضايا العادلة وفي نشر ثقافة الكرامة الإنسانيّة بين أبناء هذه المجتمعات التي أنسى البؤس بعض ناسها معنى الكرامة. إنّ حزمة المشاريع التي ينفّذها أو يعدّها المجلس تشير إلى عمق فهمه للحياة والمجتمع في بلادنا، كما تشير إلى طموح رؤية أعضاء فريقه العامل. يقول الشعر العربي "إذا كانت النفوس كبار تعبت في مرامها الأجساد"، وهذه حالنا لذلك مكاتبنا هي قفران نحل تعمل فيها فرقنا بلا كلل ولا هوادة وتنتج ما يحتاج غيرنا إلى فرق أكبر عددًا من أجل إنجاز نفس المشاريع.
نحن شريك في هذا المسار النهضوي المجتمعي، شريك صغير في حجمه، كبير في قدراته ورمزيّته، واذ استطعنا حتى اليوم تامين الكبير من الإنجازات بإمكانيات محدودة جدًا، فإن ذلك يحصلٍ بفعل إيمان الذي يقول لهذا الجبل إنتقل فينتقل.
كم نشعر بالرضى عندما نجد كم أنتم يا أخواتنا وإخوتنا المسكونيّون الدوليّون معنيّون بنا، بما نفعل وبما نصبو إليه. كم نشعر بالإطمئنان عندما نرى كما تشاركوننا همومنا وآلامنا وعندما تشاركوننا خبراتكم وتجاربكم في كيفيّة التعامل مع التحدّيات. إنّ جلسات النقاش التي نعقدها مع كلّ منكم على حدة أو مجتمعين تعبّر لنا بما فيه الكفاية كم أنتم معنيّون بنا وترينا لهفتكم تجاهنا. إنّ مشاعركم التي تنضح من خلال تفاعلنا سوية لا تمرّ مرور الكرام.
لقد سمعني أو قرأني الكثير منكم أستعمل عبارة "اهتمام" وهذا التعبير يعني لنا الكثير لأنّه يحمل من التضامن الصادق ما لا يمكن اختصاره بهذه الكلمة فقط.
لذلك أقول لكم في نهاية كلمتي، لقد حللتم أهلًا ووطئتم سهلًا وأنتم بين أهلكم، على الرحب والسعة في تظاهرة تضامن طال انتظارها وسيكون لنا لقاءات أخرى في مجالات مختلفة منها ما لها علاقة بالرامج ومنها ما لها علاقة بمواضيع ثقافيّة وفكريّة شتّى، تتعاطى بهمومنا المشتركة نحن الذين نحمل رسالة المخلص والذين نريد أن ننير العالم بها. سنبقى سوية ملح الأرض الذي يحمي الجنس البشري من الفساد.