ما أعظم أعمالك يا رّب كلّها بحكمة صنعت (المزمور ١٠٣)
في أيّام "موسم الخليقة"
سيادة المطران كوستا كيّال: الطبيعة ثمرةٌ من إبداع الخالق وفيضٌ من عطاياه
المؤمن مدعوٌ أن يعيش حياة تليق بإنجيل المسيح
هذه المقابلة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
شكّلت البيئة منذ عقود عدّة قضيّة هامّة ومساحة إهتمام كُبرى في فكر الكنيسة وتوجّهاتها لا سيّما وأنّها شدّدت في عقيدتها وصلواتها على تمجيد الخالق وتسبيحه على كلّ النِعم الإلهيّة الّتي قدّمها لنا. هذا إضافةً إلى المشاريع والأنشطة البيئيّة والطبيعيّة الّتي حرصت على تنفيذها تأكيدًا على مسؤوليّة الإنسان في الحفاظ على بيته المشترك.
إتّخذت الكنيسة الأرثوذكسيّة عام 1989 قرارًا يرمي إلى تحديد الأوّل من أيلول/ سبتمبر، رأس السنة الكنسيّة، يومًا خاصًّا بالبيئة، يهدف إلى تذكير المؤمنين بالوديعة الّتي منحها اللّه للإنسان عند الخلق وعلى واجبه في الحافظ على كلّ الخليقة كي يتمّموا البُعد الكهنوتيّ في بشريّته أيّ يرفعون الخليقة إلى اللّه "الّتي لك ممّا لك نُقدّمها لك".
لم تقبل الكنيسة أن تكون يومًا شاهدةً على ألم البيئة ووجعها بل أرادت بالقول والعمل أن تعزّز الوعيّ البيئيّ في تعاليمها وأفعالها لا سيّما في مبادرات أخرى كإعلان قداسة البابا فرنسيس الأوّل من أيلول/ سبتمبر يومًا للصّلاة من أجل البيئة في الكنائس الكاثوليكيّة أيضًا... كما "موسم الخليقة" المخصّص للإحتفال بهبة الخالق بين 1 أيلول/ سبتمبر و4 تشرين الأوّل/ أكتوبر من كلّ سنة.
لكن ما هي علاقة الكنيسة بالطبيعة والبيئة؟ ما هي النّظرة الأرثوذكسيّة لـ"موسم الخليقة"؟ وما هي أهميّة العمل الزراعيّ في الأديرة؟ كلّها أسئلة حملناها إلى رئيس دير مار الياس شويّا البطريركيّ للرّوم الأرثوذكس في لبنان سيادة المطران كوستا كيّال الّذي أوضح لنا الصّورة.
"تشكّل الطبيعة مساحة روحيّة وفكريّة لا محدودة"
بدايةً تحدّث سيادته عن البيئة في الكتاب المقدّس وقال "يشدّد منذ صفحاته الأولى على أنّ اللّه خلق كلّ شيء "حسنًا" وأعطى الأرض وما عليها للإنسان (تك ١: ٢٦). وواجب الإنسان هو الحفاظ على خليقة اللّه، فيقدّمها إلى الخالق من خلال أعماله وصلواته. وذلك لأنّ الطبيعة أهمّ مكوّن في العمارة الكونيّة، فهي ثمرةٌ من إبداع الخالق وفيضٌ من عطاياه المرئيّة واللّامرئيّة، إنّها أعظم مورد يستقي منه الإنسان تأمّلاته وأفكاره، بحيث تشكّل مساحة روحيّة وفكريّة لا محدودة".
يتابع "للأسف لم يتعاط الإنسان مع الأرض على أنّها خليقة اللّه، وأنـّها أمٌ حنون تحتضنه في حياته ومماته، كما تحتضن كلّ الكائنات الحيَة، علمًا أنّه مؤتمن عليها. لم يعد يعمل لتأمين إستمراريّة الحياة على الأرض، وإستبدل مهامه المقدّسة بمصالحه الشّخصيّة الضيّقة".
"الأرض بكلّ عناصرها ومظاهرها هي الملجأ والمعبد... تؤثِّر بإنسانها وتملأ مخيِّلته بأعيادٍ من الألوان، والأشكال، والأجناس"
لذا يأتي هذا النهج التخريبي للبيئة ليشكّل "خطيئة تجاه اللّه وخليقته"، لأنّ الإنسان، بحسب كيّال، "إستبدل المحبّة بالأنانيّة والقتل والدمار. أساء إستعمال سلطانه وأصبحت الأرض في خطرٍ كبير بين أيدينا وأصبحنا الآن نحصد نتائج أنانيّتنا وخطايانا البيئيّة. علينا أن نصحو ونعي أن اللّه يريد الخير للكون كلّه، ولا خلاص لنا إلّا بعلاقة جيّدة مع كلّ خليقة اللّه، وهذا يتطلّب توبة صادقة. ذلك لأنّ الأرض بكلّ عناصرها ومظاهرها هي الملجأ والمعبد، وضعها اللّه أمانة بين أيدينا لنحافظ على مائها وهوائها وترابها ودفئها، فهي تؤثِّر بإنسانها وتملأ مخيِّلته بأعيادٍ من الألوان، والأشكال، والأجناس، فتفتح أمام عينيه آفاقًا من الصّور والرّسوم والإستنباطات، وتحرِّك في صدره عالمًا من الإيمان والمشاعر والأحلام، فلنحفظها سالمةً لنا وللأجيال اللّاحقة".
"واجبنا كمسيحيّين أن نعبد اللّه بكلّ كياننا وأفعالنا"
لكن ما هو واجبنا كمسيحيّين؟ يجيب سيادته "واجبنا أن نعبد اللّه بكلّ كياننا وأفعالنا، فهي دليل على إيماننا ولا ننسى أنّنا خُلقنا على صورة اللّه ومثاله. وهذا يعني علينا أن نعود إلى المحبّة الإلهيّة. "اللّه محبّة" يقول الإنجيل (١يو ٨: ٤) وأيضًا "إن كان اللّه أحبّنا هكذا يجب أن نحبّ بعضنا بعضًا" (١يو ٤: ١١)، ونحبّ إبداعاته ومخلوقاته من أدنى مخلوق في عالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد، إلى أضخم كوكب أو نجم يسبَح في الفضاء اللّامتناهي. والمحبّة الحقيقيّة ليست في الأقوال إنّما في الأفعال، ومحبّتنا تجبرنا أن نحافظ على ما أعطانا إيّاه الخالق لنستعمله كُلّنا معًا للبنيان وليس للهدم".
في هذا السّياق يضيف كيّال "صحيحٌ أنّ البيئةُ عطيّة اللّه لكلّ البشر وهي إحدى مظاهر اللّه الواحد، والمكان الّذي يستقرّ فيه الإنسان ويؤمِّن رخاءه وإنسجامه مع الآخرين، وصحيحٌ أنّ اللّه سخّر الطبيعة للإنسان وجعله وكيلًا عليها، لكن علينا إحترامها من أجل خيراتها لخير الجميع، لا سيّما وأنّها تذيع مجد الخالق كما أنّها بكلّ فصولها وظواهرها أنفع كتاب بعد كتاب اللّه.
"الطبيعة بكلّ فصولها وظواهرها أنفع كتاب بعد كتاب اللّه"
من هنا تطرّق سيادة المطران كيّال إلى مفهوم الصّوم الجوهريّ الّذي يكمن في "مصالحة الإنسان مع الطبيعة. من خلال الصّوم يتصالح الإنسان مع نفسه أوّلًا، ثمّ مع الآخرين ومع الطبيعة وذلك من خلال الإمتناع عن أكل اللّحوم والأسماك والإكتفاء بالبقول والخضار، ما يؤدّي إلى حماية الثروة الحيوانيّة والبحريّة، ويشجّع على الزراعة والعمل الجسديّ في إستخراج خيرات الأرض وإستغلالها".
"البيئة الصّالحة ّالّتي نسعى إليها ونرجوها هي الّتي تمجّد اللّه وتشكره على كلّ ما أعطانا إيّاه" تابع كيّال وأضاف "لذَا علينا أن نتوب وأن نعيد النظر في كلّ ما نقوم به. أشدّد وأكرّر علينا أن نعي أنّ الأرض وكُلّ ما فيها هي أمانة بين أيدينا، فمتى أخطأنا إلى خليقة اللّه، نخطئ إلى اللّه نفسه. المزمور ١٠٣ في الكنيسة الأرثوذكسيّة يُسمّى مزمور الخلق، ونحن نقرأه كلّ يوم في صلاة الغروب لأنّ كلّ الخليقة تسبّح اللّه خالقها "ما أعظم أعمالك يا رّب كلّها بحكمة صنعت".
على مقلب آخر، رأى سيادة المطران كيّال أنّ قيمة الأرض ليست فقط ماديّة وإقتصاديّة بل هي أيضًا معنويّة وروحيّة وقال "إنسان اليوم جَشِع يعيش فقط من أجل الرّبحِ والمال، لذا يدمّر الطبيعة الّتي إئتمنَه اللّه عليها. المؤمن مدعوٌ أن يحيا حياة تليق بإنجيل المسيح، أن يقتدي بالمسيح، أن يكون هيكلًا للروح القدس وأن يسعى ليُثمر ثمارًا تليق بالتوبة".
ماذا عن الكنيسة وآبائها؟ أجاب كيّال أنّها "تحترم البيئة وتحبّها وقد أثبتت ذلك بالممارسة. القدّيسون يحترمون الخليقة. يوصينا القدّيس سلوان الآثوسي أنّه "يجب أن يكون لدينا قلبٌ رحيم وليس فقط أن نحبّ الإنسان، بل أيضًا أن نتعاطف مع كل ّمخلوق".
أمّا في الروحانيّة الأرثوذكسيّة فقال أنّها "تقترح أسلوب حياة بيئيّ زاهد يتجلّى في الحفاظ على البيئة وعلى الطبيعة من خلال سرّ الإفخارستيا عندما يُعلن الكاهن "الّتي لك ممّا لك، نُقدّمها لك". أي أنّ الإنسان يُقدّم لله ما أعطاه اللّه له، النبيذ والماء والقمح والزيت ...كلّها عطايا من اللّه لنا. ومن خلال مشاركته في السرّ يتنبأ بما سيفوز به "في اليوم الأخير".
"بالنّسبة إلى الكنيسة، قيمة الأرض هي قضيّة أخلاقيّة وروحيّة"
وأكمل "بالنّسبة إلى الكنيسة، قيمة الأرض هي قضيّة أخلاقيّة وروحيّة. يخبرنا الكتاب المقدّس أنّ اللّه خلق "السّماء والأرض"، وبعد أن خلق الظرّوف البيئيّة الملائمة خلق الإنسان على "صورته ومثاله". الكائنات كلَّها لها سبب للوجود والحياة، لأنّها ليست أعمال أيدي البشر، ولديها الحقّ في العيش. مع ذلك أصبح الإنسان مغتصبًا ومعتديًا على حقوق كلّ الكائنات الأخرى على الأرض.
وفقًا للقدّيس مكسيموس المعترف، إنّ "إساءة إستخدام المعاني (الأفكار السيّئة) تؤدّي أيضًا إلى إساءة إستخدام الأشياء. لا يجب أن نرى الطبيعة كشيءٍ موجود مستقلّ عن اللّه ولا يجب أيضًا أن نعتقد أنّنا موجودون بشكل مستقلّ عن اللّه. الرّهبان يُعاملون الطبيعة على أنّها هِبَة من اللّه للإنسان، من خلال نظام غذائيّ بسيط، يُعلّموننا أنّه يُمكننا الحصول على ما يكفي من السّلع حتّى تتمكّن الطبيعة من البقاء معنا. نلاحظ أنّه حول الأديرة يتمّ إستغلال الأرض بطريقة يُحافَظُ بها على البيئة".
"حول الأديرة يتمّ إستغلال الأرض بطريقة يُحافَظُ بها على البيئة"
إذًا، ما هي أهميّة العمل الزراعيّ في الأديرة؟ وما هو دورها تجاه الطبيعة والبيئة؟
"الإنسان مدعوّ إلى حبّ الطبيعة والتعايش معها بإنسجام"
أجاب سيادة المطران كوستا كيّال "الإنسان مدعوّ إلى حبّ الطبيعة والتعايش معها بإنسجام واحترام وتعاطف. على الإنسان أن يتطوّرَ ويكتسب الوعي البيئيّ والشّعور بالمسؤوليّة عن أفعاله.
وفقًا للقدّيس سلوان الآثوسي "القلب المحبّ يندم على كلّ الخليقة". نرى إنسجامَ تعايشِ القدّيسين مع الخليقة بأسرِها فقد كانوا أصدقاء للحيوانات لدرجة أنّهم كانوا يداعبون الأسود البرّية، كالقدّيس ماما الشّهيد والقدّيس سيرافيم ساروفسكي وغيرهم.
علاقة الرّهبان بالطبيعة قويّة، خصوصًا أنّ المسيحيّين يقدّمون بواكير منتجاتهم إلى الكنيسة لتتبارك مثل القمح، والماء، والخمر، والزيت، والعنب... وعندما نستخدمها في الأسرار تتقدّس الطبيعة الماديّة ويتغيّر العالم ويتجاوز الإنسان الموت ويقهره. تصلّي الكنيسة يوميًّا من أجل الخليقة كلّها لاسيّما في اللّيتورجيا الإلهيّة الّتي تقدّم "من أجل كلّ العالم". الرّهبان يُدركون تمامًا، أنه يجب المحافظة على الأرض، وحمايتها من كلّ ما يؤذيها. ثمّة واجب أخلاقي يدعونا إلى ذلك حيث نلاحظ وجود مساحات زراعيّة حول الأديرة يعمل فيها الرّهبان، لأنّ الرّاهب يحبّ الطبيعة، لا بل يمجّد اللّه من خلال عمله الزراعيّ".
"الرّاهب يحبّ الطبيعة ويمجّد اللّه من خلال عمله الزراعيّ"
ما هي إذًا المشاريع والأنشطة الزراعيّة الّتي يقوم بها دير مار الياس شويّا؟ أجاب كيّال "من المعلوم أنّه ليس من مشاريع زراعيّة ربحيّة، وما يُزرع في محيط الدير يعطي إنتاجًا محدودًا يكفي القيّمين على العمل. غير أنّ هذا النشاط الزراعيّ يعوّدُ الرّهبان على القيام برياضة غير مباشرة، فيُكسبهم مرونة الحركة وحبّ الأرض والتّعلُّقِ بها".
تابع "يضمّ الدير بعض الأشجار المثمرة وعددها محدود، كما الخضار الموسميّة. لكن هذه الأشجار المثمرة والخضار تكادُ تكفي حاجات الدير وزوّاره. نتعاون أيضًا مع لجنة "مهندسون من أجل الكنيسة" لتطوير العمل الزراعيّ في الدير. علمًا أنّنا كنّا نعمل على مشروع لتوسيع المجالات الزراعيّة وتطويرها، إلّا أنّه تمّ تأجيله بسبب الظروف الصّحيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة الّتي تمرّ بها البلاد".
"الحفاظ على البيئة مظهرٌ من أهمّ وجوه إظهار محبّتنا للآخر"
في سياق متصّل نسأل سيادته عن المفهوم البيئيّ لدى النّاس وعن سُبل تحفيزهم لا سيّما الشّباب على الحفاظ على البيئة. قال "التحدّي الأكبر اليوم هو إعادة التفكير في مقولة ديكارت الشّهير "الإنسان سيّد الطبيعة وحاكمها". الكنيسة أُمّ مهمّتها تذكير أبنائها بأن يُـحبّ كلٌ منهم إخوته، والحفاظ على البيئة مظهرٌ من أهمّ وجوه إظهار محبّتنا للآخر. واجبنا توعية الناس خصوصًا الشّبيبة، بأهميّة البيئة الّتي يعيشون فيها، وضرورة الحفاظ عليها".
ودعا كيّال "جميع النّاس إلى إحترام الطبيعة والعمل بجهدٍ للحفاظ على البيئة وعدم تلويثها وأذيّتها. وذلك لأنّ الكون ليس هديّة من اللّه للإنسان فقط، بل هو في عهدته. الإنسان، جزءٌ من الكون، خاضعٌ لقوانينه، يعيش داخله محصورًا في قبضة أبعادٍ تحيط به من الشّرق والغرب، والأعلى والأسفل، يسيِّرُه الزّمن الّذي يمكن إعتباره البُعد الخامس لهذا الكون المسيَّر ببعد ما ورائيّ، تواكب سيرورته القدرة الإلهيّة العظيمة، الّتي جعلته ملكًا علـى سائر الكائنات الحيَة في الطبيعة، والمستفيد الأكبر من موارده. إذًا! اللّه خلق الإنسان وسلّطه ملكًا على الخليقة وأوصى أن يحفظها نقيّة طاهرة كما خلقها".
"لنعمل معًا من أجل وضع خطّةٍ إنمائيّة زراعيّة"
أضاف كيّال "إنّ المشاكل البيئيّة كلّها، نتيجة صنع أيدينا. علينا أن نغـيّر تصرّفاتنا إبتداءً من عدم رمي أكياس النفايات المنزليّة على الطرقات إلى الإمتناع عن قتل الطيور وقطع الأشجار... نحن نقطع لنبني، ونبيع لنكدّس الأموال، نحن نفجّر الجبال ونشوّهها ونسيء بإستعمال المياه...".
في الختام جدّد سيادة المطران كوستا كيّل ندائه البيئيّ وقال "ندعو الجميع إلى العمل الجِدّي لنعيدَ الأرض والخليقة بأسرِها إلى ما كان يهدف إليه اللّه عندما خلقها أي حسنة جدًّا. ونكون سببًا لتمجيد إسم الرّب القدّوس، لأنّنا عندما نكرّم الخليقة نكرّم اللّه. فلنعمل معًا من أجل وضع خطّةٍ إنمائيّة زراعيّة. الزراعة تساعد الإنسان على التشبّث بأرضه وتُـبْعِدُ عن شبابنا شبح الهجرة".
دائرة التواصل والعلاقات العامة