حوكمة المنظّمات بين النصّ والتطبيق
هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
يومًا بعد يوم تثبت المنظّمات كم هي عنصر حيويّ لتطور المجتمع وبلوغه أهدافه.
لا تستطيع الجماعات الإنسانيّة الفلاح وتحقيق ما تصبو إليه إن لم تكن منتظمة في إطار تنسيقيّ إداريّ، درج علم التنظيم والإدارة على تسميته "منظّمة" التي هي الترجمة العربيّة لتعبير Organization. أمّا كلمة "مؤسسة" فقد إعتُمِدت في اللّغة العربيّة من أجل تسهيل فهم ما يرمي إليه الباحث في مجال علم التنظيم والمنّظمات وقد أضحى فرعًا مستقلاً من علوم الإدارة أو من علم إجتماع المنشآت – أو المؤسّسات إختصارًا. سوف نتوقف، خلال المقالة، على الفارق بين المنظّمة والمؤسّسة.
يشمل مفهوم المنظّمة كلّ مجموع بشريّ توافق على العمل جماعيًا من أجل الوصول إلى غايات جرى تحديدها سلفًا من قبل المجموعة المؤسِّسة وتبنّاها المقبلون على الإنتماء إلى هذه المنظّمة. قد تكون هذه المنظّمة منشأة، أيّ انتربرايز، أيّ تتوخّى الربح، أو هيئة أهليّة أو مدنيّة أو إجتماعيّة، لا تتوخّى الربح وقد وضعت كلّها في خانة ما نسمّيه الهيئات التطوعيّة أو الهيئات غير الحكومية NGO.
في الحالتين تكمن ضرورة التنظيم توخيًّا للفعاليّة وتفاديًّا لهدر موارد هذه المنظّمات. وإذا كان الهدر في الهيئات التي تتوخّى الربح موضوع مساءلة وصولاً إلى الإقتصاص من المرتكب، فإنّ الهيئات التي لا تتوخّى الربح قد سارت على نفس درب الفعاليّة في الأداء، ليس بهدف جنيّ الأرباح – وهذا الأمر غير مطروح عندها أساسًا، بل بهدف خدمة العدد الأكبر من المستفيدين ومن الفئات المستضعفة أو ذات الحاجات الخاصة.
ما يربط الناس ببعضها البعض في هذه المنظّمات هي الأنظمة المرعيّة الإجراء وهي بمثابة عقد يشكّل شريعة المتعاقدين، كما يقول النصّ القانوني. هذه الحال مشابهة تمامًا للدساتير والقوانين التي ترعى العلاقات بين الناس في المجتمع. لا بلّ نستطيع أن نقول أنّ الأنظمة التي ترعى أعمال المنظّمات، الربحيّة منها وغير الربحيّة، إنما هي ناتجة عن دساتير الدول وسائر القوانين التي تنظِّم العلاقات بين الأفراد في مجتمع ما.
كل ما أوردناه أعلاه يشمل العلاقات الرسميّة Formal الخاضعة لنصوص الأنظمة المكتوبة.
أمّا الشقّ الآخر والذي نسمّيه المؤسّسات، فقد نجد ضمنه ما هو رسميّ وما هو غير رسمي.
المؤسّسة بالمعنى السوسيولوجي هي كلّ عادة أو ممارسة مقبولة ومشرّعة إجتماعيًّا. منها ما قد ينتج عن نصوص رسميّة مثل الإجتماعات الدوريّة وجلسات الحوار وطرق أخد القرارات، ومنها ما ينتج عن ممارسات وأساليب إجترحها فريق العمل خلال أدائه لواجباته، يدخل ضمنها ما يسمّى ثقافة المنظّمة Organizational Culture وأساليب القيادة Leadership Styles وبعض الممارسات والعادات وطرائق التعامل مع المحيط الداخلي أو مع المحيط الخارجي. هذا البُعد في العمل يوصَف بأنّه غير الرسميّ Informal وهو يجد حكمًا جذوره وشرعيّته في البُعد الرسميّ لكلّ منظّمة.
في كلّ منظّمة يتعايش البُعد الرسميّ مع البُعد غير الرسميّ على ألّا يطغى الثاني على الأول. وإذا حصل ذلك، تكون المنظّمة عرضة للتفكّك أو الإضمحلال.
إنّ المنظّمات التي تعمل على أساس العُرف والعادة وتتمادى في هذا الإتجاه، هي برسم إمّا الإختفاء من محيطها أو التهميش.
نقول ذلك ونحن نوقن حقّ اليقين أنّنا نحيا في عالم شديد التغيّر وإذا لم نتمتّع بالمرونة الكافية للتكيُّف فقد يلغينا هذا المحيط المتحوِّل. هذا صحيح، ومن أجل ذلك وُجدت الإجتهادات القانونيّة، إذ أنّ التحجّر في القوانين والأنظمة يجعل من المنظّمة مجموعًا جامدًا غير قابل للحياة. إنّ عبادة النصوص تعتبر من أخطر آفات العمل الإداري والقيادي والتنظيمي، ولكن تجاهل النصوص والتحايل عليها هي أشدّ خطرًا لما يفتح هذا المنحى من أبواب التلاعب بالقرارات وبمصير المنظّمات.
عندما يكون النصّ مُعرقلاً لحسن الآداء، لا نتحايل عليه، بل نعدِّله لما يخدم مصلحة الجماعة المنظّمة. تجاهل النصوص يُفقد المجموع المنظّم مرجعيّته فيضحي عمله خاضعًا لاستنسابيّة وإرتجال وأهواء المتنفذّين، وهذه إتجاهات لا تُحمَد عُقباها.
إنّ النصوص هي الضابط لعمل الجماعات المنظّمة والضامن لفعاليتها، وتحديث هذه النصوص بواسطة المراجعة والإجتهاد لجعلها متوافقة مع حاجات العصر هو الضمان لتقدّم المجتمع الإنساني.
هذا هو منطق عملنا في مجلس كنائس الشرق الأوسط، لا صنميّة لنصوص ولكن لا تجاهل لما تورِدُه هذه النصوص إذ إنّ من وضعها قد قام بذلك بهاجس تحسين أداء المجلس بشكل دائم. وإذا وجدنا أنّ نصًا ما قد أصبح معرقلاً لحسن الآداء ولجودة الإنجاز، فإن نصوص أنظمة المجلس ترشدنا إلى سبيل التعديل للتحسين.
إنّ العَصْفَ الذهنيّ، الذي أضحى عنصرًا أساسيًّا في ثقافة المجلس والذي يجري بين مختلف مكوّناته، هو الضامن لحيويّة المجلس وقيامه بدوره في محيطه على أكمل وجه.