من الكنيسة إلى كلّ العالم
البيئة تنزف، فهل من يسمع معاناتها؟
كُنْ مُسَبَّحًا، يا سيِّدي، لأختنا وأمِّنا الأرض...
تقرير ايليا نصراللّه
أن تبادر الكنيسة اليوم بخطوة ما تجاه البيئة، خليقة اللّه، إن لحمايتها أو المحافظة عليها، ليس امرًا جديدًا فقد سجّلت محطّات مهمّة عبر التاريخ تناولت خلالها مختلف المسائل المتعلّقة بالبيئة والأرض وهي ما زالت حتّى اليوم تضعها في صلب أولويّاتها.
البيئة بحاجة إلى الإنسان والعكس صحيح، لكن المحافظة عليها تشكّل إحدى القضايا الأكثر إلحاحًا خصوصًا وسط تفاقم الأزمات الّتي أثّرت سلبًا عليها. هذه البيئة بحاجة ماسّة إلى متابعة ورعاية لا بل إلى تدخّل الإنسان ليعاونها في النموّ وفق جوهرها الّذي أراده اللّه لها.
يُعتبر المؤمن راعي الوجود الّذي يقود الكائنات كافّة إلى اللّه، وفق ما وصفه قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني، لا سيّما وأنّها بحاجة للوصول إلى الخالق فبالتّالي تقع المهامّ هذه على المؤمن، الشخص الوحيد الّذي يرى الغاية الّتي من أجلها خُلِقَت. لذا فـ"كنيسة المسيح معنيّة بالبيئة الطبيعيّة بقدر ما هي معنيّة بالبيئة الإيمانيّة والقيميّة للإنسان" وهذا كلام للأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس مقتطع من رسالة وجّهها لمناسبة اليوم العالمي للبيئة في 5 حزيران/ يونيو الفائت، إذًا لا يمكنها "أن تقف متفرّجة على الإنسان يدمّر محيطه الطبيعيّ، المحيط الّذي وهبه إيّاه الخالق، من أجل ان ينمو ويحيا".
من هذا المنطلق، ترفع الكنيسة ومؤسّساتها الصّوت كلّ مرّة لا سيّما في يوم البيئة العالمي مندّدةً بأي نوع من أنواع العنف واللّامبالاة تجاه البيئة داعيةً كلّ سكّان الأرض إلى توخّي الحذر والإلتزام بالقيم الإنسانيّة الضروريّة، فـ"اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجدِ اللّهِ، والفَلك يُخبِرُ بِعَمَلِ يَدَيهِ. يَوم إلَى يَومٍ يذِيع كَلامًا، وَلَيلٌ إِلَى لَيلٍ يُبدِي عِلمًا. لا قَوْلَ وَلا كَلامَ. لا يُسمَع صَوتهم" (سفر المزامير 19: 1-3).
"لوداتو سي": من أجل بيئة أفضل
لربّما قد سمعتم او قرأتم عبارة "لوداتو سي" (كن مسبّحًا) في أكثر من محطّة، لكن هل تعلمون ما هي المعاني الّتي تحملها؟ وهل تدركون أبعادها على صعيدي الحياة والبيئة؟ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قداسة البابا فرنسيس يحرص على حماية البيئة عبر الإهتمام الّذي يوليه لها، حيث أصدر عام 2015 رسالة عامّة بابويّة تحت إسم "كُنْ مُسَبَّحًا" Laudato si’ تمحورت حول العناية بالبيت المشترك. واعتبر في مستهلّها أنّ "مِنْ بين الفقراء الأكثرَ تعرّضًا للإهمال ولسوء المعاملة، هناك الأرض المظلومة والمُخرَّبة، الّتي "تَئِنُّ مِن آلامِ المَخاض" (روم 8، 22). ننسى أنّنا نحن أيضًا تراب (را. تك 2، 7). جسدنا ذاته مكوّن من عناصر الأرض، وهواؤها هو الّذي نتنسّمه وماؤها هو الّذي ينعشنا ويجدّدنا".
لذا قدّم قداسته في رسالته هذه، الّذي اختار اسمها من نشيد القدّيس فرنسيس الأسّيزي، مقاربة معمّقة حول الموضوع إضافةً إلى نصائح عدّة عمليّة من أجل المساهمة في حماية وبناء بيتنا المشترك، علّنا نطوّر نمط حياتنا باتّجاه مستقبل أكثر استدامة. إذًا، دعا مثلًا إلى الإلتزام بتفاصيل عدّة قد تقوم بفرق إيجابيّ كبير كارتداء ثياب إضافيّة وتجنّب إستعمال وسائل التدفئة مثلًا، تفادي إستخدام الموادّ البلاستيكيّة والورقيّة، التخفيف من استهلاك المياه، فرز النفايات، طهي فقط الكميّة اللاّزمة من الطعام، التعامل بإهتمام مع سائر الكائنات الحيّة، اللّجوء إلى وسائل النّقل العام أو مشاركة سيّارة واحدة بين مجموعة من الأشخاص، زراعة الأشجار، وإطفاء الأنوار غير الضروريّة...
لم يكتف قداسة البابا فرنسيس بهذه النصائح والتفسيرات من أجل تحفيز السكّان على الإهتمام بموضوع البيئة بل عرض أيضًا في سياق الرّسالة بعض الأفكار الّتي تدفع الإنسان إلى العمل من أجل بيئة أفضل، حيث اعتبر أنّه باستطاعة كلِّ البشر التعاون كأدوات الله والعناية بالخليقة كلّ بحسب ثقافته وخبراته ومبادراته وقدراته. لذا رأى أنّه لا يمكننا اليوم سوى الإعتراف بأنّ كلّ مقاربة إيكولوجيّة صحيحة تتحوّل دائمًا إلى مقاربة إجتماعيّة تحثّ على إدراج العدالة في النّقاشات الخاصّة بالبيئة لإيصال صرخة الأرض وصرخة الفقراء على حدّ سواء. كما دعا إلى تعزيز الوعي بأنّنا أسرة بشريّة واحدة حيث لا توجد أي حدود تسمح لنا بالإنعزال، وبالتّالي الوصول إلى عولمة اللّامبالاة. أمّا الشباب فكان لهم أيضًا حصّة من أفكار فرنسيس حيث أشاد بالوعي البيئي الّذي يتمتّعون به بروح سخيّة حيث يبذلون جهودهم من أجل الإعتناء بالبيئة والدفاع عنها...
الأخلاقيّات البيئيّة في المسيحيّة
لم تكن رسالة قداسة البابا فرنسيس "كن مسبّحًا" المبادرة الكنسيّة الوحيدة من أجل حماية البيئة في التاريخ الحديث، وإنّما جاءت لتعمّق مبادرات عدّة أخرى. عام 2002 على سبيل المثال، تلاقت آراء الكنيستنين الكاثوليكيّة والأرثوكسيّة في التوجّه الفلسفيّ والأخلاقيّ الّذي يعتبر أنّه يمكن منح الكيانات الأنطولوجيّة ذات حركة وحيوية قيمة أخلاقيّة على أساس وجودها. لذا أُصدر إعلان مشترك بين قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني وقداسة البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأوّل، الملقّب بـ "بطريرك الخضر"، في 10 حزيران/ يونيو 2002، يحثّ على إعادة التركيز على الأخلاقيّات البيئيّة في المسيحيّة.
وبحسب المصادر الّتي ذكرت هذه الخطوة المشتركة، أتى الإعلان هذا كي "يتناغم لا بل يضع الأسس الأخلاقيّة لوعود الألفيّة الثّالثة الّتي أُقرّت في أيلول/ سبتمبر من العام 2000 في بيت الأمم المتّحدة في نيويورك" حيث ركّز على "أنّ الله خلق عالمًا من الجمال والتناغم والمحبّة. ووضع إنسانًا بروح أبديّة، حرّ ومدرك وعلى صورة الله ومثاله في وسطه. إنسان يتعاون مع الخالق لتحقيق الهدف الأسمى للخلق..."، لكن بعد سقوطه "كان تدمير التجانس نتيجة لذلك. وكانت الأزمات الإجتماعيّة والبيئيّة نتيجة خيانة التفويض الإلهي للتعاون مع الله لتتبع الخليقة بقداسة وحكمة". أمّا إرادة الله فكانت "إعادة التوازن المفقود إلى الخليقة عبر تفعيل العلاقة ما بين الخالق والجنس البشريّ"، بالتّالي شدّد الإعلان أيضًا على أنّ احترام الخليقة ينبع من إحترام الحياة البشريّة والكرامة الإنسانيّة.
أمّا البطريركيّة المسكونيّة الأرثوذكسيّة فسجّلت أيضًا وما زالت بصمات عدّة في هذه الإطار، حيث بدأت الكنيسة الأرثوذكسيّة بالإضاءة على موضوع البيئة مع قداسة البطريرك المسكونيّ ديمتريوس ومن ثمّ مع خلفه غبطة البطريرك برثلماوس الّذي دعا منذ تولّيه الخدمة إلى التوبة والإعتراف بالخطايا المقترفة ضدّ الخليقة، معتبرًا أنّ أي جريمة ضدّ الطبيعة تشكّل بالتّالي جريمة ضدّ أنفسنا وخطيئة ضدّ اللّه.
المسكونيّة والبيئة في العالم
إلى جانب الكنيسة يهتمّ العالم المسكونيّ أيضًا بقضيّة البيئة حيث شهد ولادة لاهوت البيئة – أو الإيكو ثيولوجي، والكنيسة الخضراء، لتندرج هذه المسألة الملحّة في صلب جدول أعمال المنظّمات المسكونيّة حول العالم ومنذ عقود.
مشرقيًّا، يستعدّ مجلس كنائس الشرق الأوسط لإطلاق مشاريع زراعيّة عدّة معتبرًا أنّ النموّ الزراعيّ والتنميّة الريفيّة "هما مفتاح أساس في إعادة تصويب الحياة الإجتماعيّة الإقتصاديّة الّتي شهدت تحوّلات خطيرة في بلدان المشرق"، وفق ما أشار الأمين العام د. ميشال عبس في رسالته لمناسبة اليوم العالمي للبيئة؛ حيث تشكّل حماية البيئة والتنميّة الزراعيّة - الريفيّة تحديًّا أساس للمجلس الّذي يدعو الهيئات الكنسيّة والمجتمع المدنيّ إلى التعاون من أجل مواجهة هذا التحدّي الّذي قد أخذه على محمل الجدّ.
كما أنّ مجلس كنائس الشرق الأوسط بصدد تعريب كتيّب خاصّ تحت عنوان "موسم الخليقة" - دليل الإحتفال لعام 2021 - منزل للجميع؟ تجديد أويكوس الله أي بيت الله، الّذي تمّ إعداده وإصداره من قبل مؤسّسات مسكونيّة عالميّة عدّة، كي يُعتمد كدليل لنشاطات سيطلقها المجلس ويشرف عليها خلال الفترة الّتي تسمّى "موسم الخليقة" بين الأوّل من أيلول/ سبتمبر الى الرّابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021. الكتيّب الّذي سيتمّ توزيعه بعد انتهاء عمليّة الترجمة يضمّ صلوات وتأمّلات وندوات تهدف إلى رفع مستوى الوعي البيئي من أجل غد أفضل للأجيال الجديدة.
أمّا عالميًّا، فتُعتبر العناية بالخليقة والعدالة في صلب عمل مجلس الكنائس العالمي أيضًا الّذي يسعى إلى تحقيق تغيّر المناخ، منطلقًا من تعاليم الكتاب المقدّس حيث "أَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا" (سفر التكوين 2: 15)، وأصبح إله العدل الّذي يحمي ويحبّ ويرعى أضعف مخلوقاته. أمّا الرؤية المسكونيّة الّتي يرعاها المجلس في هذا الإطار فتهدف إلى التغلّب على نموذج التنمية العالمي الحالي الّذي يهدّد الحياة وسُبل عيش كُثر من السكّان.
لذا، ما زال مجلس الكنائس العالمي يعمل منذ السبعينيات من أجل تطوير مفهوم المجتمعات المستدامة، حيث كان أيضًا حاضرًا في كلّ مؤتمرات الأمم المتّحدة بشأن تغيّر المناخ، وذلك منذ اعتماد إتفاقيّة تغيّر المناخ عام 1992. وعلى مرّ الأعوام ساهم المجلس في تعزيز حركة من أجل العدالة المناخيّة تمسّ ملايين الأشخاص حول العالم... إضافةً إلى مشاريع بيئيّة مختلفة ينفّذها تباعًا، من دون أن ننسى المدينة الخضراء أو الـ Green Village، المشروع الّذي يعمل عليه المجلس من أجل توفير مبان ومكاتب يتمّ بناؤها في العاصمة السويسريّة جنيف بطريقة تكون صديقة للبيئة وتحفظها من أي نوع من المخاطر.
في سياق متّصل، أعلن قداسة البابا فرنسيس، عام 2005، عن تحديد يوم عالميّ "للصّلاة من أجل العناية بالخليقة" ليُحتفل به في الأوّل من أيلول/ سبتمبر من كلّ سنة، وذلك بالشّراكة مع الكنائس الأرثوذكسيّة الّتي تحتفل أيضًا به منذ العام 1989. أمّا السّنة الحالية فتمّ إطلاق عقد الأمم المتّحدة حول إستعادة النظام البيئي، حيث أشار فرنسيس في رسالته للمناسبة الّتي قرأها أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين عبر الفيديو للمشاركين "تقع على عاتقنا مسؤوليّة ترك بيت مشترك صالح للسكن لأطفالنا وللأجيال القادمة".
دائرة التواصل والعلاقات العامة
المراجع:
موقع فاتيكان نيوز: https://bit.ly/3iqJGZ1
موقع المركز الدائم للتنشئة المسيحيّة: https://bit.ly/2TdnoiE
موقع Opus Dei:
موقع ليبانون فايلز: https://bit.ly/2TQ60RD
موقع مجلس الكنائس العالمي: https://bit.ly/3gcnUpa