"ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ"
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
يشكّل أسبوع الآلام، أسبوع الصلب والقيامة، حقبة فريدة وزمنًا مميّزًا ذو دلالة لا مثيل لها في تاريخ الإنسانيّة.
يختصر أسبوع الآلام معاناة البشر مع الخيانة والإستبداد والإضطهاد والظلم والكراهيّة.
خلال هذا الأسبوع المليء بالأحداث والعِبَر، إختصر لنا السيِّد تاريخ الجنس البشري المشبَّع بالنِفاق والمتجذّر بالحِقد والمخضّب بالدمّ، دم الأبرياء الذين استُعملوا وقودًا في جحيمٍ مِن صُنع طغاة شرّعوه من أجل شفاء غليلهم من البغضاء.
خلال هذا الأسبوع الذي عزّ نظيره في تاريخ الإنسانيّة، أظهرَ لنا السيِّد أن ليس لابن الإنسان، إبنُ النور، مكان بين أبناء الظلمة، فبقدر ما يبذل لهم من المحبّة يبذلون له من الكره، وبقدر ما يعطيهم يأخذون منه دون عرفان ولا شُكر.
الوجع كبير خلال هذا الأسبوع، يختصر وجع الإنسانيّة برُّمتها.
الغدر والتسليم والجلد والمحاكمة والإستهزاء والرياء وحمل الصليب والمضي في طريق الجلجلة والصلب وشرب الخلّ والنحر بالحربة، هي أكثر من أن يحتملها إنسان عادي وأن يسامح من قام بها.
حتى في أكثر اللحظات حرجًا وفي أكثر الأوقات وجعًا، بقي المتجسّد رؤوفًا بالجنس البشري الذي جاء لخلاصه، مسامحًا إيّاه على ما تقترفه يداه، لأنه يعلم علم اليقين جهل أبناء آدم وضعفهم أمام القويّ وجبروتهم أمام الواهن.
كم اعتصرت قلوب أحبّاء المتجسّد وجعًا وهم يرونه فريسة كلّ هذا العنف النفسيّ والجسديّ فيما هم غير قادرين على إنقاذه من المصير المؤلم. لو كانوا كتبوا الإنجيل آنذاك، هل كانوا خبؤه بين صفحات كتابه المقدس؟
كم شعر رفقاء المتجسّد بالعجز أمام كل ما عاناه من مدّ يده للإنسان كيّ يسير به إلى النور، فإذا بالأيدي تمتّد عليه لترسله إلى الظلمة.
كم هي عظيمة وموجعة في آن، تلك اللحظات، حين أسلم ابن الإنسان الروح وهو يطلب من أبيه الغفران لمن قهر وقسى وتعسّف!
كم كانت موجعة لحظة إنزال المصلوب ولفِّه بالكفن ووضعه حيث سوف يغادر في اليوم الثالث منتصرًا على الفناء راسمًا عهدًا جديدًا للإنسانيّة!
بين "اقبلني اليوم شريكًا لعشائك السرّي يا ابن الله" و"حاملات الطيب" اللّواتي وجدن الحجر مدحرجًا، ثلاثة أيّام تختزل دهرًا بكامله، فصولاً من تاريخ الجنس البشري المثخن بجراح الأنا وتسليع الآخر.
ما العبرة من كل ذلك؟
المحبّة!
المحبّة التي، بعد الفيّتين، لم تستطع الإنسانيّة أن تجد لنفسها خلاصًا إلّا عبرها. المحبّة التي تزيل الحواجز بين بني البشر والغشاوة من أمام الناظرين والتحجّر من القلوب.
بالمحبّة تنتصر، بالمغفرة والمسامحة والتفهّم ينتصر الخير على الشرّ وتغلق أبواب الجحيم في حياتنا اليوميّة كما في أبديّتنا.
المحبّة تجترح المعجزات.
الغلبة ليست انتصار إنسان على الآخر، بل انتصار الإنسان والإنسان الآخر على الشرّ الذي يفتك بنا في يوميّاتنا.
هكذا غلب السيِّدُ العالم!