مع القدّيس يوسف وفي سنته آمنوا و"لا تخافوا!"، اللّه يمنح ويضاعف
قداسة البابا فرنسيس متضرّعًا إليه: هل نقول يومًا "لم يبق أي شاب، أو شخص، أو عائلة بلا عمل؟"
تقرير ايليا نصرللّه
فرض فيروس كورونا الفتّاك تحدّيات جمّة على الصّعد كافّة أرغمت سكّان الأرض على تغييّر حياتهم، رأسًا على عقب. لكن بارقة أمل تتجلّى في مشاهد عدّة على الرغم من تفاقم هذه المعركة الصحيّة. صحيح أنّ هذا الفيروس المجهري لم يترك أحدًا على حاله وجعلنا ندرك أهميّة حضور كُثر من حولنا، هؤلاء الذين يبذلون جهودهم ويقدّمون تضحياتهم بصبر ورجاء علّهم يهزمون المعركة. هكذا كان يوسف، القدّيس يوسف، "رجل الحضور اليوميّ" الّذي كرّس حياته تقدمة للذات في المحبّة الهادفة لخدمة المسيح، من دون أن يعرض أعماله علنًا بل حفظها في قلبه وقلب الله الآب.
شخصيّة القدّيس يوسف الطائعة، ألهمت قداسة البابا فرنسيس في 8 كانون الأوّل/ ديسمبر 2020 لتكريس سنة خاصّة به، بدأت مذاك التاريخ لتنتهي في اليوم الثامن من الشهر عينه سنة 2021. قرار الحبر الأعظم هذا جاء لمناسبة الإحتفال بالذكرى الخمسين بعد المئة لإعلان القدّيس يوسف شفيعًا للكنيسة الجامعة، وعقب زيارته المفاجئة لساحة إسبانيا في روما حيث فاجأ المؤمنين أيضًا بقراره في عيد الحبل بلا دنس. والجدير ذكره أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تحتفل بعيد القدّيس يوسف في 19 آذار/ مارس من كلّ سنة.
هو النجّار الصّادق وخطيب مريم الّذي تميّز بأبوّته الصّالحة وتواضعه وصمته وطاعته غير المتذمّرة وغير المشروطة... هو شفيع الآباء والعائلة الشجاع والعامل المجتهد الّذي تحلّى بالقبول والحنان، حيث أرسل الله له الملاك ليبشّره بحقيقة مريم ويخبره أنّ الربّ اختاره كي يكون أبًا ومربيًّا ليسوع المسيح وبالتّالي لتحمّل أعظم مسؤولية ألقيت على عاتق بشري. أمّا يوسف فقبل المهمّة من دون أي تردّد، "ولمّا قام يوسف من النوم، عمل بما أَمَرَهُ ملاكُ الربّ" (متّى ١:١٥).
"بقلب أبويّ": نداء رجاء وإيمان
بدايةً لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الطوباويّ البابا بيوس التاسع أراد أن يكون لخطيب مريم لقب شفيع الكنيسة الكاثوليكيّة، حيث سعى إلى هذا الهدف من خلال المرسوم Quemadmodum Deus، الّذي وقّعه في 8 كانون الأوّل/ ديسمبر عام ١٨٧٠. أمّا عام 2020، فقد أصدر قداسة البابا فرنسيس في الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر رسالة رسوليّة تحت عنوان Patris corde أي "بقلب أبويّ" مخصّصة للقدّيس يوسف حيث وصفه فيها بالأب الحبيب، وأب الحنان والطاعة والقبول، المستعدّ دائمًا لتتميم مشيئة الله الّتي تجلّت في شريعته.
استهلّ قداسة البابا رسالته هذه بشرح اختياره اسم "بقلب أبويّ" موضحًا أنّه "هكذا أحبّ يوسفُ يسوعَ الّذي سمّته الأناجيلُ الأربعة "ابن يوسف". إذْ، أراد أن يشارك بعض أفكاره حول شخصيّة يوسف الإستثنائيّة، على حدّ تعبيره، الّتي تشبه حال كلّ واحد من البشر. وذلك من خلال 7 فصول حملت عناوين "أبٌ محبوب"، "أبٌ رؤوف"، "طاعة يوسف"، "قبول يوسف"، "شجاعة خلّاقة"، "العامل" و" ظلّ الآب السماوي".
في مقدّمة الرسالة كشف بابا الفاتيكان أنّ الرغبة هذه بنشر رسالة خاصّة بالقدّيس يوسف نمت خلال أولى أشهر تفشّي جائحة كورونا "الّتي يمكننا أن نشهد فيها، في خضمّ الأزمة الّتي تضربنا، أنّ حياتنا منسوجة ومسنودة من قِبَل أشخاص عاديّين -منسيّين بالعادة- لا يظهرون في عناوين الصحف أو المجلّات ولا في كبار مسارح أحدث العروض ولكنّهم، من دون شكّ، يكتبون اليوم الأحداث الحاسمة في تاريخنا". هم الطواقم الطبيّة ومقدّمي الرّعاية وعمّال النظافة، والعاملين في متاجر البقالة وفي مجال النقل والمتطوّعين والكهنة والرّاهبات... والكثير من الأشخاص الّذين فهموا أنّ الإنسان بحاجة إلى مساندة الآخر لإنقاذ نفسه؛ هؤلاء الأشخاص الّذين تميّزوا بصبرهم وحرصهم على نشر الرجاء وعدم بثّ الذعر بل المسؤوليّة المشتركة...
في سياق متّصل، وصف قداسة البابا فرنسيس القدّيس يوسف بأنّه الرّجل الّذي يمرّ دون أن يلاحظه أحد، المتحفّظ والخفي، والشفيع، والعضد والمرشد في أوقات الشدّة. كما شبّه كلّ الّذين لا يظهرون دائمًا في حياتنا اليوميّة أو الّذين هم في "الخط الثاني"، بهذا النجّار الصّادق، لا سيّما أنّهم يقومون بدور مهمّ وأساس في تاريخ الخلاص.
القدّيس يوسف وقضايا اجتماعيّة حادّة
في هذا الإطار، تطرّق قداسة البابا فرنسيس في رسالته الرسوليّة إلى بعض الحالات الّتي نعيشها في أيّامنا وبعض القضايا الإجتماعيّة الّتي أدّت إلى تفاقم الوضع الإجتماعي والظّروف المعيشيّة في الكثير من البلدان، لا سيّما في الشرق الأوسط.
إذْ، شرح أنّ القدّيس يوسف يُعتبر "أبًا في القبول" لأنّه "قبل مريم بدون شروط مسبقة"، مؤكّدًا أنّها لفتة مهمّة اليوم في ظلّ عالم يسود فيه وبوضوح كلّ أنواع العنف أكانت النفسيّة أواللّفظيّة أوالجسديّة ضدّ المرأة. كما يشدّد أيضًا على ثقته بالرّبّ حيث قبل بقوّة وشجاعة كلّ الأحداث الّتي مرّ بها من دون حتّى أن يفهمها. وبحسب قداسة البابا يبدو أنّ الله يقول لنا من خلال يوسف "لا تخافوا!"، فالإيمان يشكّل معنى لحياتنا ولكلّ الأحداث السارّة والحزينة الّتي يضعها أمامنا. ومن خلال القبول الّذي تميّز به خطيب مريم، نحن مدعوّون، وفق قداسته، أن نقبل الآخرين من دون استثناء مهما اختلفنا عن بعضنا بعضًا، مع "تفضيل للضعفاء".
من جهّة أخرى، سلّط البابا فرنسيس الضوء على شجاعة القدّيس يوسف الخلّاقة، فهو "يعرف كيف يحوّل مشكلة ما إلى فرصة، واضعًا أوّلاً ثقته على الدوام في العناية الإلهيّة". إذْ، أوضح أنّ يوسف كان يواجه "المشاكل الملموسة" لعائلته بالطريقة نفسها الّتي تشهدها العائلات في العالم، خصوصًا عائلات المهاجرين الّذين يعانون من مشاكل جمّة.
يشرح البابا فرنسيس في رسالته أنّ النجّار الصّادق يعلّمنا "قيمة وكرامة وفرح" أن يجني الإنسان قوته من عرق جبينه وثمر عمله. ومن هنا يطلق قداسته نداء لصالح العمل الّذي أصبح "قضيّة اجتماعيّة ملحّة"، وفق ما ذكر، في كلّ البلاد من دون استثناء؛ مشدّدًا على ضرورة فهم معنى العمل الّذي يعطي الكرامة والّذي "يصبح مشاركة في عمل الخلاص عينه" و"فرصة لتحقيق الذات" للشخص ولعائلته. كما يدعو الجميع إلى اكتشاف العمل من جديد والتشديد على أهميّته وضروريّته وذلك "لخلق حالة طبيعيّة جديدة" يشارك الجميع فيها. وأضاف أنّ عمل القدّيس يوسف يذكّرنا بأنّ "الله نفسه الّذي صار بشرًا لم يحتقر العمل".
في الواقع، أتى نداء البابا هذا في ظلّ ارتفاع نسبة البطالة جرّاء تفشّي فيروس كورونا عالميًّا حيث تضرّع إلى القدّيس يوسف لإيجاد الطرق الّتي تدفعنا إلى القول "لن يبق بعد الآن شاب، أو شخص، أو عائلة بلا عمل!".
القدّيس يوسف في الكنيسة الأرثوذكسيّة
أمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة، فتعيّد للقدّيس يوسف في الأحد الأوّل بعد عيد الميلاد، وهذا مُعتمد في اللّيتورجيا الأرثوذكسيّة في ما يخصّ كلّ الأعياد السيديّة. كما أنّ اسم يوسف هو عبريّ، وفق ما أشارت بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ويعني الله يمنح ويضاعف، الله يزيد.
وتشرح البطريركيّة أنّ متّى الإنجيليّ يقدّم القدّيس يوسف كإبن يعقوب إبن متان وبالتّالي يذكر نَسَبَه بحسب الطبيعة، على عكس إنجيل لوقا الّذي يقدّمه كإبن هالي بحسب الشريعة. لكن كلا الحالتين مرتبتطين بداود الملك، فلو بقي الأخير في إسرائيل لأصبح يوسف الوارث الشرعي لعرش يهوذا. كما أنّ القدّيس يوسف يظهر للمرّة الأخيرة في إنجيل لوقا، وذلك حين كان مع والدة الإله ويسوع المسيح الّذي كان يبلغ 12 عامًا في أورشليم حيث أضاعاه ووجداه أخيرًا في الهيكل بين العلماء (لوقا ٤٦:٢).
بالعودة إلى حياة خطيب مريم، نجده في التراث الكتابيّ والمنحول، وفق ما أشارت بطريركيّة أنطاكية، أنّه كان أرملًا وله أولاد. وعقب طلب رئيس الكهنة علامة لاختيار أحد أرامل اليهود ليحفظ مريم بعد الصلاة على عصيانهم، استقرّت حمامة على عصا يوسف ليصبح مذاك اللّحظة المختار ليرافق مريم.
أمّا عقب البشارة وعودة مريم إلى الناصرة فؤجئ يوسف بحبل مريم وارتبك وقرّر ألّا يفضحها بل ترك الخبر سرًّا. لكن أدرك ملاك الربّ صفاوة قلبه ونيّته وشرح له ما حدث قائلًا "يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأنّ الّذي حبل به فيها هو من الروح القدس" (متى٢٠:١). في الواقع، لم يكن ليوسف سوى طاعة الله حيث قام بما أمره ملاك الربّ، ولم يترك مريم العذراء وحدها بل بقي إلى جانبها وجانب المولود الإلهيّ يسوع المسيح ورافقها على الرغم من كلّ المصاعب والتحدّيات والسفر.
كما كان القدّيس يوسف حارسًا ليسوع المسيح ووالدته مريم العذراء، هو أيضًا حارس للكنيسة ولأمومتها وجسد المسيح. وفي ظلّ أزمنة تسود فيها الأزمات والصّعاب على أنواعها، نتضرّع إلى القدّيس يوسف، حارس البشريّة بأبوّته اللّأمتناهية، كي يرشدنا في درب الحياة ويجعلنا نلتمس النّعمة والرّحمة والشجاعة.
دائرة التواصل والعلاقات العامة
المراجع:
موقع فاتيكان نيوز: https://bit.ly/3cDgrhe
موقع زينيت: https://bit.ly/30Qo12j
موقع بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس: https://bit.ly/2Q35kGv
موقع البطريركيّة اللّاتينيّة القدس: https://bit.ly/3qUdE8p