في التركيع والتجويع تفاديًّا للمساءلة

هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط 

كلما ازداد فساد الجماعات الحاكمة، كلّما ازدادت عداوتها للّذين فوّضوها أمرها وأمر إدارة شؤونها وحياتها.

كلّما ازداد الحاكم تماديًّا في غيِّه، كلّما ازدادت شراسته في حماية ملفاته و"إنجازاته" القاتمة.

هو يعرف أنّ عين الله تلاحقه حتى في أكثر خلواته انعزالاً، وعين الله من عين الناس. هو كالمُريب الذي يكاد أن يقول خذوني، لأنّ عين الربّ الخالق الباري، مقَسِّم الأرزاق والثروات، لا تغفل عن شيء.

هو يعلم في قرارة نفسه أنّ عين الربّ، التي طاردت قايين، تطارده في حلّه وترحاله. أنّها عين الشعب الذي يُمعِن هذا الوالي الفاسد في إفقاره وتجويعه من أجل تركيعه.

منهم من يتّهم الشعب بعدم الوعي والتقصير في تغيّير الطبقات الحاكمة، ومنهم من يلوم الوالي المنعدم الضمير والواسع الذمّة على أفعاله.

هنا تأتي مشكلة النُخَب، النُخَب الثقافيّة والفكريّة مقابل الهيئات الحاكمة.

لو سلّمنا أنّ الشعب غارق في الجهل والعوز وصولاً إلى البؤس واليأس، فأين هي النُخَب الثقافيّة-الفكريّة لا تقوم بالدور المناط بها بحكم قدراتها المعرفيّة؟

أين هي النُخَب تفضح أمام العامّة ما تقوم به الهيئات التي أوليت الشأن العام؟

يتبيّن لنا من قراءة أحداث التاريخ أنّه كلّما كان المجتمع بائسًا كلّما تمادت النُخَب في كيل المدائح والتبجيل للوالي لأن ثقافة المساءلة قد انعدمت ولم تعد هذه النُخَب تخجل من ملامة العامة.

إذا قلّ الحياء عمّ البلاء يقول المَثَلُ الشعبيّ. وإذا لم تستحِ فافعل ما شئت يقول مَثَلٌ شعبيّ آخر.

كلّنا يعلم انعكاس الوضع الإقتصاديّ على السلوك البشريّ وقدرة العَوَز على تفكيك منظومة القيَم وضرب المُثُل عند الناس.

هذا بالضبط ما تتوسّله قوى الفساد والإبتزاز وصرف النفوذ عندما تتحكّم بالمجتمعات المغلوب على أمرها.

ينطبق على مجتمعنا مَثَلُ السامريّ الصالح، كما ورد على لسان السيِّد، حيث أنّ قراصنة من الداخل والخارج قد هاجموا مجتمعنا فسلبوه موارده وأثخنوه بالجراح، فسقط على الأرض مضرجًا بدمائه غير قادر على السيطرة على مصيره.

مجتمعنا لم يأته السامريّ الصالح لكي يضمّد له جراحه ويوصله إلى شاطئ الأمان.

عندما ترى جريحًا مرميًّا ينتظر رحمة فأنت أمام خيارين: إمّا أن ترحمه فتعالجه وتسير معه إلى حيث يصبح خارج الخطر، وهنا تكون المسيحيّ المُفعَم بتعاليم السيِّد المتجسِّد، أو أن تتصرّف كالطيور الكواسر فتنهش لحمه وتتركه عظامًا.

للأسف لقد ذهب كثيرون إلى الخيار الثاني فجوّعوا شعوبهم من أجل تركيعها واستمروا بذلك ما دامت لهم القدرة على فعله. لقد اعتبروا أنّهم عبر القيام بذلك فأنّهم يُبعدون عنهم كأس المساءلة وبالتالي مُرّ العقاب.

إنّهم عبر ذلك يظّنون أنّهم يستطيعون تناسي حالة الرعب التي يعيشونها والتي لا مفرّ لهم من تبعاتها.  

تستطيع أن تمنع عن شعب ما الطعام والماء والدواء وأن تتلاعب بلقمة عيشه ومستوى حياته ومستقبل أولاده، ولكنك لا تستطيع أن تخنق فيه الكرامة والتوق نحو الإستنجاد بالخالق. إنّ كرامته هي من كرامة الذي تجسّد ونزل إليه فرفعه إلى رتبة الإنسان وذاق العذاب وصُلب من أجله. إنّه يغرف من هذا التجسُّد وهذا الفداء قوّة وقفة العزّ التي يحتاج أن يقفها كلّ المقهورين في العالم أمام السلطان الجائر.

على الشعوب المغلوب على أمرها والتي ترزح تحت إحتلال جماعات خارجيّة أو جماعاتها في الداخل أن تتمعّن في مَثَل السامريّ الصالح وأن تُحسِن اختيار "قريبها" كما ورد في نهاية المَثَل حيث قال السيّد المسيح:

36  "فَأَيَّ هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيبًا لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟" 37 فَقَالَ: "الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا".

إن لم تكن الرّحمة – المحبّة – دليل عمل القيّمين على شؤون المجتمعات، فبئسًا لها من حضارة إنسانيّة!

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

نموّ إقتصاديّ غير مؤكّد