تأمّل غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: عَشيّةُ عِيدِ ٱلْمِيلَادِ 2024
نقلًا عن موقع بطريركيّة القدس للّاتين.
تجدون في التالي تأمّل غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للّاتين، عَشيّةُ عِيدِ ٱلْمِيلَادِ 2024، الأحد 24 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
بَيْتَ لَحْمٍ، ٢٤ كَانُون الأَوَّل ٢٠٢٤
اشَعْيَاءَ ٩: ١-١٦؛ تِيطُسَ ٢: ١١-١٤؛ لُوقَا ٢: ١-١٤
الإِخوَة والأَخوَاتِ الأَعِزّاء،
ليسَ لديّ مشكِلة، هذه السنة، في الاعتراف بصعوبةِ الإِعْلَانِ عن فَرَحِ مِيلَادِ ٱلْمَسِيحِ لَكُمْ أَنْتُمُ ٱلْحَاضِرِينَ هُنَا، وَلِكُلِّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى بَيْتَ لَحْمٍ مِنْ جميع أَنْحَاءِ ٱلْعَالَمِ.
نَشِيدُ ٱلْمَلَائِكَةِ، ٱلَّذِينَ يُنشدونَ ٱلْمَجْدَ وَٱلْفَرَحَ وَٱلسَّلَامَ، يَبْدُو لِي نشازا بَعْدَ عَامٍ مَلِيءٍ بِٱلْمَشَقَّةِ، والدُّمُوعِ وَٱلدِّمَاءِ وَٱلْمُعَانَاةِ، بسبب آمَالٍ خَابَتْ وَخِطَطٍ لِلسَّلَامِ وَٱلْعَدْلِ تَحَطَّمَتْ. يَبْدُو أَنَّ ٱلنَّوَاحَ يتَغَلَّبُ عَلَى ٱلنَّشِيدِ، وَٱلْغَضَبَ يشِلُّ كُلَّ طَرِيقٍ لِلرَّجَاءِ.
تَسَاءَلْتُ فِي ٱلْأُسَابِيعِ ٱلْمَاضِيَةِ عَشْرَاتِ ٱلْمَرَّاتِ: كَيْفَ يُمْكِنُنِي أَنْ أَعيش إِن لَمْ أَتَجَاوَزُ هَذِهِ ٱلْمَعَانَاةَ، وَهَذَا ٱلْإِحْسَاسَ ٱلْمُؤْلِمَ بِعَدَمِ جَدْوَىٰ كَلِمَاتِنَا، حَتَّىٰ كَلِمَاتِ ٱلْإِيمَانِ، أمام قَسْوَةِ ٱلْوَاقِعِ، ومرارةِ التيقُّن من أن هذه المُعَانَاةٍ تَظْهَرُ وكأَنَّهَا لَامتناهية.
لَكِن هبَّ لِنَجْدَتِي رعَاةُ المِيلَادِ،ِ ٱلَّذِينَ، مِثْلِي وَمِثْلَ ٱلْأَسَاقِفَةِ وَالكَهَنةِ فِي هَذِهِ ٱلْأَرْضِ، كَانُوا يَسْهَرُونَ فِي ٱللَّيْلِ ويَحْرُسُونَ رَعِيَّتَهُمْ. فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ، ٱلَّتِي هِيَ هَذِهِ، سَمِعُوا ٱلْمَلَائِكَةَ وَصَدَّقُوا الخبر.
لِذَٰلِكَ قَرَّرْتُ أَنْ أَسْتَمِعَ مَرَّةً أُخْرَىٰ لِقِصَّةِ ٱلْمِيلَادِ فِي سِيَاقِ ٱلْمُعَانَاةِ ٱلَّتِي نَعيشُهَا، وٱلَّتِي لَا تَخْتَلِفُ كَثِيرًا عَنْ سِيَاقِ تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ.
كَمَا قَدْ سَمِعْنَا: "وفي تِلكَ الأَيَّام، صَدَرَ أَمرٌ عنِ القَيصَرِ أَوغُسطُس بِإِحْصاءِ جَميعِ أَهلِ المَعمور. وجَرى هٰذا الإِحصاءُ الأَوَّلُ إِذ كانَ قيرينِيوس حاكمَ سورية. فذَهبَ جَميعُ النَّاسِ لِيَكتَتِبَ كُلُّ واحِدٍ في مَدينَتِه. وصَعِدَ يوسُفُ أَيضًا مِن الجَليل مِن مَدينَةِ النَّاصِرَة إِلى اليَهودِيَّةِ إِلى مَدينَةِ داودَ الَّتي يُقالُ لَها بَيتَ لَحم، فقَد كانَ مِن بَيتِ داودَ وعَشيرتِه، لِيَكتَتِبَ هو ومَريمُ خَطيبَتُه وكانَت حامِلًا" (لوقا ٢: ١-٥).
لَقَدْ أَثَّرَتْ فِيَّ هَذِهِ ٱللَّحْظَةُ: يُوْسُفُ وَمَرْيَمُ يَعِيشَانِ نِعْمَةَ مِيلَادِ الطفل، ٱلْمِيلَادِ ٱلْحَقِيقِيِّ، ليس فِي وَقْتٍ أَوْ فِي ظُرُوفٍ قَرَّرَاهَا أَوْ كَانَتْ مُلَائِمَةً لَهُمَا. فِي ذَٰلِكَ ٱلْوَقْتِ، كَانَتْ قُوَّةٌ إِمْبِرَاطُورِيَّةٌ قَاهِرَةٌ تَحْكُمُ ٱلْعَالَمَ، وَتُقَرِّرُ مَصِيرَهُ ٱلْاجْتِمَاعِيَّ وَٱلْاِقْتِصَادِيَّ.
كَانَتْ َأرْضُنا ٱلْمُقَدَّسَةُ فِي تِلْكَ ٱلْفَتْرَةِ خَاضِعَةً لِمَصَالِحَ دُوَلِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ أَقَلَّ تَأْثِيرًا مِّمَّا هُي عَلَيْهِ ٱلْيَوْمَ. شَعْبٌ مِنَ ٱلْفُقَرَاءِ كان يعمل جاهدا من أجل رَفَاهِيَةِ ٱلْآخَرِينَ، فطُلِب منه أن يساهم في الإحصاء العام. وَمَعَ ذَلِكَ، وبِدُونِ شَكْوَى، وبِدُونِ رَفْضٍ، وبِدُونِ تَمَرُّدٍ، ذَهَبَ يُوسُفُ وَمَرْيَمُ إِلَى بَيْتَ لَحْم، مُسْتَعِدَّيْنَ لِلْمِيلَادِ هُنَاكَ.
هَلْ كَانَ ذلك ٱسْتِسْلَامًا مِنهُمَا؟ أَمْ تذلّلًا؟ أَمْ عَدَمَ حِيلَةٍ؟ أَمْ عَجْزًا؟ لَا! بَلْ إِيمَانًا! وَٱلْإِيمَانُ، عِنْدَمَا يَكُونُ عَمِيقًا وَصَادِقًا، هو دَائِمًا نَظْرَةٌ جَدِيدَةٌ وَمُنِيرَةٌ لِلتَّارِيخِ، لِأَنَّ "مَنْ يُؤْمِنْ، يَرَى!"
وَمَاذَا رَأَى يُوسُفُ وَمَرْيَمُ؟ في كلامِ ٱلْمَلَاكِ، رَأَيَا ٱللَّهَ فِي ٱلتَّارِيخِ. رأيا ٱلْكَلِمَةَ الذي صَارَ جَسَدًا، وٱلْأَزَلِيَّ الذي اقتحم ٱلزَّمَن، وٱبْنَ ٱللَّهِ الذي صَارَ إِنْسَانًا! وَهَذَا مَا نَرَاهُ أَيْضًا نَحْنُ هُنَا، في هَذِهِ ٱللَّيْلَةَ، مستنيرين بِكَلِمَةِ ٱلْإِنْجِيلِ.
نَرَى فِي هَذَا ٱلطِّفْلِ مبادرةً جَدِيدَة وَغَيْرَ َمسْبُوقة لِإِلَهٍ لَا يَهْرُبُ مِنَ ٱلتَّارِيخِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِلَا مُبَالَاةٍ عَنْ بُعْدٍ، وَلَا يَرْفُضُهُ بِسَخَطٍ لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ وَرَدِيءٌ، بَلْ يُحِبُّهُ، وَيتبنّاهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بخطى طِفلٍ حَديثِ الولادة، لَطِيف وَقَوِيّ فِي آنٍ وَاحِدٍ، يجلب معه حَيَاة أَبَدِيَّة نجحت في أن تجد لذاتها مَكَانًا فِي قساوةِ ٱلزَّمَنِ، مِنْ خِلَالِ قُلُوبٍ وَإِرَادَاتٍ مُسْتَعِدَّةٍ لِٱسْتِقْبَالِهَا.
إِنَّ مِيلَادَ ٱلرَّبِّ يَكْمُنُ كُلُّهُ هُنَا. من خلال ٱبْنِهِ، يَشْتَرِكُ ٱلْآبُ فِي تاريخنا، وَيَحْمِلُ عِبْءَ هَذِا ٱلْتاريخ، وَيُشَارِكُه ٱلْمُعَانَاةَ وَٱلدُّمُوعَ حَتَّى ٱلدَّمِ، وَيُقَدِّمُ لَه طَرِيقًا لِلْخُرُوجِ نَحْوَ ٱلْحَيَاةِ وَٱلرَّجَاءِ.
وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى تاريخنا وهو يتنَافَس مَعَ أَقْوِيَاءِ هَذَا ٱلْعَالَمِ. فَقُوَّةُ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلْإِلَهِيَّةِ لَيْسَتْ فقط أَقْوَى مِنْ ٱلْعَالَمِ، بَلْ هِيَ قُوَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ. هَذَا ٱلطِّفْلُ، بَعْدَ أَنْ عاش حَيَاتَنَا حَتَّىٰ النِّهَايَةِ، سَيُعلِّنْ بِوُضُوحٍ: "لَيسَت مَملَكَتي مِن هٰذا العالَم. لَو كانَت مَملكَتي مِن هٰذا العالَم لَدافَعَ عَنِّي حَرَسي ... ولٰكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن هٰهُنا" (يُوحَنَّا ١٨: ٣٦)…
هذا التأمّل نُشر على موقع بطريركيّة القدس للّاتين، لقراءة المزيد إضغط هنا.